مسؤولية الكلمة بين الخبر والرأي – الحائط العربي
مسؤولية الكلمة بين الخبر والرأي

مسؤولية الكلمة بين الخبر والرأي



تمر المنطقة بظرف تاريخي صعب تتأرجح فيه قدرات الأمة بين الوعي الكامل بما يدور حولنا والألم الشديد لما يحدث لأشقائنا من أبناء الشعب الفلسطيني ومعاناة من فقدوا كل شيء، الأرض والمسكن والطعام والكساء والأمن والأمان، بل كل مقومات الحياة.

في ظل تلك الأجواء الضبابية تنتشر الأخبار وتزداد الإثارة وتسود الأحزان، هنا تكون الحياة أكثر حساسية وأشد صعوبة لأن المرء يكتشف أنه يمكن أن يواجه المواقف الطارئة من دون توقع أو يشهد المنعطفات المفاجئة التي تحتاج إلى قدرة على الاختيار بمنطق يعي أن البشر في النهاية إنما يعيشون في صراع دائم ويواجهون حالاً من الاشتباك الذي لا ينتهي، فالحياة في النهاية هي موجات من الصعود والهبوط في حياة الأمم والشعوب كما هي في حياة الأفراد والجماعات.

نحن العرب نملك لغة ثرية للغاية، بل مطاطة أيضاً تحمل مظاهر التأويل وأسباب التفسير الذي يعتمد في النهاية على فهم النوايا وسبر الأغوار، خصوصاً إذا كان المرء بطبيعته حسن النية، كما أن البقية الباقية في الأعمار غير كافية للدخول في صراعات غير مناسبة للاصطدام بالغير، بخاصة أن نهاية الحياة يحددها الخالق وحده، فلا تدري نفس ماذا تكسب غداً وبأي أرض تموت.

قد يتعرض المرء في حياته لخبطات غير متوقعة، كمن يمشي في أحد الشوارع فتسقط فوق رأسه قطعة من الحجر تسبب له أضراراً صحية ونفسية بالغتين، وقد لا يكون الإنسان على بينة مما حدث ولا يدرك مبكراً النتائج المترتبة على ذلك، فهو يتوهم أن السرديات حديث مفتوح من دون أن يدرك حجم الحساسيات التي تحيط كل كلمة ويتم تأويلها من كل سطر، إنها نمط من نظرية الاغتيال المعنوي الذي يستهدف الشخص في من يحبهم ويقدرهم سواء كان زعيماً سياسياً ملأ الدنيا وشغل الناس أو كوكباً مضيئاً في سماء الفن فهم بالنسبة إليه مصدر إلهام منذ بدأ يعي كيف يحس الإنسان بما حوله.

فالكوكب المضيء الذي هز أوتار الحياة وحرك مشاعر عشرات الملايين أكبر وأعظم من أي تأويل عابر أو تفسير مغلوط، ولقد توهم صاحبنا أن عليه أن يسجل انطباعاته من دون استهداف لأحد أو اصطياد لشخص، فهو لا يستطيع أن يلعب مباراة صفرية مع الكبار لأنهم حفروا أسماءهم وشكلوا مكانتهم بما قدموه للأوطان أو الفنون أو الآداب، التشهير والإثارة أسلحة عصرية لتلوين الحقائق، لكن ليس منا من هو معصوم من الخطأ أو عصي على الوقوع في ما يجب ألا ينزلق إليه.

قد شهدت في حياتي أمثلة عدة لأخطاء يقع فيها أصحابها من دون تعمد بل ربما بلا وعي لحظي، خصوصاً أن من وقع في ذلك الخطأ لا يكاد يتذكره والظرف الذي قيل فيه والمنطلق الذي وقف وراءه، مما دفع صاحب الشأن إلى المراجعة الأمينة والتصحيح الواضح.

نحن لا ندرك أو لعلنا نتجاهل أن الأعمال بالنيات وليست هناك دوافع شخصية في ما ورد في هذا الشأن، بخاصة أن الاسترسال في الحديث يؤدي أحياناً إلى الوقوع في دائرة ضبابية لا تعبر بدقة عن صاحب القول ولا تعكس فكره الحقيقي، وقد يكون أولئك الذين توهم بعض منهم أننا ننتقدهم هم في الحقيقة أقرب الناس إلى قلوبنا وأكثرهم اقتراباً إلى مبادئنا.

لقد عشت دائماً على صوت صاحبة “سلوا قلبي” و”رباعيات الخيام” و”الأطلال”، بل إنني حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن على أنغام صوتها الشجي وأدائها العبقري مثلما قال لي العالم الكبير الراحل الدكتور أحمد زويل إنه حصل على جائزة نوبل وهو يستمع إلى صوت كوكب الشرق، كل الوقت أثناء بحوثه الجادة ودراساته الفذة.

أنا شخصياً عشت في مدينة لندن أعواماً عدة والكاسيت في السيارة طوال تحركي في العاصمة البريطانية يصدح بصوت الكوكب يشدني إلى الجذور الأصيلة في حياة الشرق وحضاراته الباقية، أما ذلك الزعيم الكبير فلست إلا من المؤمنين بما له والمدركين لما عليه، بخاصة أن حياته الشخصية ناصعة البياض وما زال الملايين يرفعون صورته في كل مناسبة لأنه كان رئيس العدالة الاجتماعية والتحرر الوطني.

ومن حسن حظي أن رصيدي لدى الناس، بسطاء الناس، كبير لأنني وطنت نفسي على خدمة الجميع بلا استثناء وعلى نحو يعرفه الآلاف ممن قصدوني في خدمة مشروعة، فلم أضن على شخص بالمساعدة ولم أتردد في تقديم يد العون لكل من طلبها.

ونحن نعيش الآن لحظات فارقة في تاريخ الوطن المصري الذي يبني مع أشقائه العرب مستقبلاً أفضل للأجيال المقبلة، بعيداً من ويلات الحروب وأخطار التبعية وقد قيض الله للكنانة نفراً من قياداتها يؤمنون بالله والوطن ويستهدفون الخير للبلاد والعباد في ظل ظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد، ولكن قدرتهم على الصبر ومواجهة الصعاب جعلتهم قادرين على التصدي لما يهب على الكنانة من رياح عاصفة وأنواء شديدة ولكنها تبقى دائماً درعاً لشعبها وحاضنة لأمتها في أصعب الظروف وأحلك الأوقات!، بخاصة أن التكنولوجيا غيرت الأوضاع تماماً فأصبح الانتصار في الحروب لا يعتمد على الشجاعة بقدر اعتماده على تكنولوجيا السلاح بأدواته القاتلة وآلياته المدمرة، كما أن الإعلام أصبح يقوم بدور مهول في صنع الصورة أو الاغتيال المعنوي للشخوص.

إننا أمام نقلة نوعية ضخمة توحي بأن الأمور تسير في طريق مختلف فلا مكان لأسرار في حياة الأمم ولا يصعب إخفاء حقيقة مهما طال الزمن، فالسماوات مكشوفة وأدوات التعامل مكفولة ولم تترك التكنولوجيا مجالاً للإخفاء أو الكتمان حتى قيل إن الخبر السري للغاية في الولايات المتحدة الأميركية يعرفه في الدقائق الأولى عشرات الأشخاص على رغم المحاذير والاحتياطات والرغبة في السرية الكاملة.

كما أننا أمام عالم يموج بتيارات متضاربة وأحياناً أتساءل في صمت أما كان الأجدى أن يعيش المرء في قريته بعيداً من الأخبار والآراء يمضي عمره في حياة بسيطة؟، وأنا أعرف زميلاً كبيراً كنا نعمل معاً في سفارة مصر بلندن منذ 50 عاماً وعندما أحيل إلى التقاعد أمضى سنوات حياته الأخيرة في مسقط رأسه يذهب إلى الحقل ويهتم بالثروة الحيوانية ويعيش في بيت ريفي بسيط.

عندما سألته عن ذلك بعد أعوام حين التقيته، فإذا به يشرح لي سعادته البالغة وارتياحه الشديد لشكل الحياة الجديدة وجوهرها والخروج من دائرة النفاق البشري والصدام الذي لا ينتهي، ورحل هذا الصديق منذ أعوام قليلة ولكنه ترك تجربته أمام الجميع ليدركوا أن على المرء أن يعمل لحياته كأنه يعيش أبداً ولمكانته كأنما يموت غداً، إنها فلسفة الحياة ودورة الكون فوق هذا الكوكب الذي يهدده الطقس المتحول أحياناً والمياه النادرة غالباً، فضلاً عن أزمات الطاقة وشيوع الفقر ونقص الغذاء، ناهيك عن النزاعات المسلحة والحروب الدامية والخروج على الشرعية الدولية والسياسات الخرقاء التي تعتمد على البغي والعدوان ولا تقيم وزناً للأرواح البشرية ولا للدماء الزكية، فهي تشارك في معركة آثمة تمعن في القتل والتخريب والتدمير بلا وازع من عقيدة أو ضمير.

ألم أقل في البداية أن الكلمة سلاح فتاك قد يبني وقد يهدم وعلينا أن نختار إما أن نكون بين مقاولي البناء أو من ضمن مقاولي الهدم، فالبشر في النهاية هم أبناء الخطيئة ولا عصمة إلا لنبي ونعود في النهاية لنتدارك الأمر كله بكلمات بسيطة مؤداها تفاءلوا بالخير تجدوه على رغم الأشلاء والدماء والكوارث والسياسات الحمقاء!

نقلا عن اندبندنت عربية