رغم أن استهداف قيادات التنظيمات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط بهجمات عسكرية عبر استخدام الطائرات من دون طيار يمثل استراتيجية أمريكية بامتياز، فإن ذلك لا ينفي أن هناك دولاً أخرى تمارس دوراً في هذا السياق على غرار بريطانيا، حيث انخرطت القوات البريطانية هي الأخرى في استهدافهم، وهو ما انعكس في إعلان وزير الدفاع البريطاني بن والاس، في ١٣ مارس الجاري، عن استهدف إرهابي بارز في تنظيم “داعش” في هجوم عسكري شنه سلاح الجو الملكي بطائرة من دون طيار في مدينة الباب بشمال سوريا في ٢٠ ديسمبر الماضي، على نحو يثير تساؤلات حول ملامح الاستراتيجية البريطانية لمواجهة التنظيمات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط.
اهتمام متزايد
تتعدد التهديدات الأمنية التي تواجهها بريطانيا، على المستويين الداخلي والخارجي، ولا سيما مع استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية التي دخلت عامها الثاني، والتي تمثل التهديد الأمني الأبرز الذي تواجهه الدول الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتركيز بريطانيا على مواجهة التحدي الصيني الذي أضحى أبرز أولوياتها. ومع ذلك، فإن الحكومة البريطانية الحالية ما زالت تولي اهتماماً خاصاً لمواجهة التنظيمات الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، حتى بعد نجاح التحالف الدولي في تحقيق الانتصار على تنظيم “داعش”، والذي تشارك فيه بريطانيا بعمليات عسكرية، حيث ساهمت في هزيمة التنظيم الإرهابي بعد سيطرته على مساحات شاسعة من أراضي العراق وسوريا.
وقد أشارت “المراجعة المتكاملة لعام ٢٠٢٣” التي أعلنها رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، وقدمها وزير الخارجية جيمس كليفرلي في مجلس العموم، إلى أن التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط لا تزال تمثل تهديداً للأمن البريطاني ومصالح المملكة المتحدة في الخارج، حيث لا تزال تلك التنظيمات تتمدد في مناطق غير مستقرة بما في ذلك أفغانستان والساحل الأفريقي. ولذلك، لا تستبعد المراجعة عودة كبيرة لنشاط هذه التنظيمات الإرهابية.
محددات رئيسية
تضمنت الاستراتيجية البريطانية لمواجهة الظاهرة الإرهابية في الشرق الأوسط، عدداً من المحددات الرئيسية التي تتمثل في:
1- التركيز على تهديدات العناصر المتشددة: خلصت مراجعة برنامج مكافحة الإرهاب البريطاني “بريفنت”، الذي لاحقته اتهامات لأنه برنامج تجسس على المسلمين البريطانيين، في فبراير الفائت، إلى ضرورة أن يركز البرنامج جهوده على ما يصفه بالتهديد الذي مثله التشدد الإسلامي داخلياً، حيث يري وليام شوكوروس، الذي عين في يناير ٢٠٢١ كمراجع مستقل في البرنامج، أن “بريفنت” لا يفعل ما يكفي لاستهداف التطرف الإسلامي غير العنيف، والمتطرفين المحليين الذين يمكنهم خلق بيئة تؤدي إلى الإرهاب. وقد قال رئيس جهاز الاستخبارات البريطاني (إم أي ٥) كين مكالوم، في نوفمبر الماضي، أن المتشددين الإسلاميين ما يزالون مصدر قلق كبيراً للأمن البريطاني.
2- الدعم العسكري للقوات المحلية: في إطار الاستراتيجية الغربية في نقل مهمة محاربة التنظيمات الإرهابية للدول العربية التي تنشط على أراضيها تلك التنظيمات، قام الجنود البريطانيون بتدريب حوالي ٢٢٥ ألف فرد من قوات الأمن العراقية بالتعاون مع الشركاء في التحالف الدولي. وفي أغسطس الماضي، أكدت المملكة المتحدة استمرار دعم القوات العراقية وقوات البيشمركة في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم “داعش” الذي لا يزال يشكل تهديداً للأمن والاستقرار في العراق وبعض دول منطقة الشرق الأوسط والعالم.
3- تعطيل مصادر تمويل التنظيمات الإرهابية: تُدرك الحكومة البريطانية أن تعطيل التمويل للتنظيمات الإرهابية يمثل أمراً ضرورياً لهزيمتها، ولذلك تنخرط المملكة المتحدة في أنماط متعددة من التعاون مع دول المنطقة، وشركائها في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” ومنع وصول التنظيم وغيره للأنظمة المالية الرسمية، وشبكات التمويل غير الرسمية، وتقديم المساعدة لتعطيل البنية التحتية الاقتصادية لـ”داعش” في العراق ولبنان وتركيا، فضلاً عن المشاركة في توجيه ضربات عسكرية دقيقة ضد البنية التحتية التي يسيطر عليها التنظيم وتعد مصدر الدخل الأساسي له، بجانب العمل مع الشركاء في التحالف لمنع “داعش” من الاستفادة من الاتجار غير المشروع في الآثار التي يتم الاستيلاء عليها من سوريا والعراق، والتي لا تزال تساعد في تمويل أنشطته الإرهابية.
4- تنفيذ عمليات لاستهداف القيادات الإرهابية: لم يكن استهداف طائرة من دون طيار من طراز “ريبر”، في ٢٠ ديسمبر الماضي، عنصراً إرهابياً تابعاً لتنظيم “داعش” في مدينة الباب بشمال سوريا، الهجوم الأول الذي تشنه بريطانيا، ولكن كانت هناك ضربات عسكرية متعددة خلال العام الماضي. ففي ١٠ أكتوبر الماضي، استهدف أحد الإرهابيين كان على دراجة نارية في شمال سوريا. وقبل ذلك، وفي ١٤ يونيو الماضي، انضمت طائرات تابعة للقوات الجوية الملكية إلى طائرات التحالف في استهداف إرهابيين تابعين للتنظيم كانوا يحاولون إعادة تعزيز تواجدهم في منطقة بشمال تكريت.
5- دعم جهود الاستقرار في المناطق المحررة: في إطار جهود الحكومة البريطانية لمساعدة الدول العربية التي تشهد أزمات داخلية، والحفاظ على استقرار المناطق التي تضم لاجئين، والذين عادة ما يكونون أحد أهم الروافد للتنظيمات الإرهابية، أشار الموقع الإلكتروني للتحالف الدولي إلى أن المملكة ملتزمة بحوالي ٣.٣ مليار جنيه استرليني لتقديم المساعدة لسوريا والدول المجاورة التي تستضيف اللاجئين، على نحو يجعلها واحدة من أكبر المانحين في العالم. وتخصص بريطانيا ٢٧٢ مليون جنيه استرليني للمساعدات الإنسانية في العراق، والتي توفر الاحتياجات الأساسية والرعاية الصحية لآلاف العائلات النازحة.
6- المشاركة في العمليات القتالية: تشير تقديرات إلى أن سلاح الجو الملكي البريطاني نفذ خلال عمليات التحالف الدولي لهزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي أكثر من ٥٥٠٠ مهمة قتالية، وأطلق أكثر من ٤٣٠٠ صاروخاً. وعلى عكس الضربات العسكرية الأمريكية ضد التنظيمات الإرهابية التي كانت تصيب العديد من المدنيين، فإن العمليات العسكرية البريطانية ضد التنظيمات الإرهابية في المنطقة تراعي عدم استهداف المدنيين. وقد ذكر والاس أن مشغلي الطائرة من دون طيار لاستهداف القيادي الإرهابي، في 20 ديسمبر الماضي، قللوا من المخاطر المحتملة على المدنيين. ويكشف الموقع الإلكتروني للتحالف الدولي أن ما يقرب من ١٤٠٠ جندي بريطاني يشاركون في عمليات مكافحة “داعش” في المنطقة.
7- محاكمة بريطانيين موالين لـ”داعش”: مع انخراط العديد من المواطنين البريطانيين في أنشطة التنظيم الإرهابي، اتخذت السلطات الأمنية البريطانية إجراءات عديدة لاعتقالهم بموجب عدد من مواد قانون مكافحة الإرهاب وتقديمهم للمحاكمات. ففي ١١ أغسطس الماضي، اعتقلت الشرطة البريطانية آين ديفيس (٢٩ عاماً) في أحد المطارات خلال عودته من تركيا، لكونه أحد أفراد خلية “بيتلز” التابعة لتنظيم “داعش”، التي نشطت في سوريا بين عامي ٢٠١٢ و٢٠١٥، والمتهمة بالإشراف على احتجاز ما لا يقل عن ٢٧ صحفياً وعاملاً في المجال الإنساني من الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وأسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، والدنمارك، والسويد، وبلجيكا، واليابان، ونيوزيلندا، وروسيا. وفي ٢٧ فبراير الفائت، بدأت محاكمته. ويلاحق ديفيس بتهم تتعلق بتمويل نشاط إرهابي، وحيازة سلاح لأغراض تتعلق بالإرهاب.
انتقادات مستمرة
رغم النجاحات المتعددة التي حققتها المملكة المتحدة، واتخاذها إجراءات فردية ومتعددة مع شركائها الغربيين وبعض دول الشرق الأوسط لمواجهة تنامي الظاهرة الإرهابية في المنطقة، فإن هناك انتقادات للمقاربة البريطانية لمكافحة الإرهاب، والتي سيكون لها تداعيات غير مقصودة؛ لفشلها في إعادة أعضاء التنظيم السابقين من المخيمات السورية بما يتماشى مع جهود الدول الغربية الأخرى، ولا سيما فرنسا، وأسبانيا، واستراليا، وكندا، في وقت تتزايد فيه المخاوف من فقدان القوات المحلية السورية الحفاظ على الأمن والنظام في معسكرات الاعتقال، وخاصة مخيم الهول في شمال سوريا.