منذ قامت دولة الإمارات العربيّة المتحدة في العام 1971، ثمة محور لم تحِد عنه تلك الدولة الشابة التي أسّسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. هذا المحور هو الإنسان والاستثمار فيه. هذا ما يفسّر توجيه الشيخ محمد بن زايد كلمته الأولى منذ توليه موقع رئاسة الدولة إلى “أبنائه وإخوانه شعب دولة الإمارات والمقيمين على أرضها الطيبة” مع “تسليط الضوء على منهج الدولة وما تتطلع إلى تحقيقه خلال العقود المقبلة”. بمعنى أنّها دولة تنظر إلى المستقبل من منطلق قيم قامت عليها ورعتها منذ نشوئها قبل نصف قرن.
ليس صدفة أن يتوجّه الشيخ محمد إلى الإماراتيين وإلى كل مقيم في الإمارات. مسؤولية الدولة حماية كلّ من هو على أرض الإمارات ورعايته. يشير ذلك إلى أن الهمّ الأول للدولة والمسؤولين عن تلك الدولة هو الإنسان بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه أو ثروته. لم يحِد الشيخ زايد، رحمه الله، يوماً عن هذا النهج الذي كرّسه من طريق نشر ثقافة التسامح وتطوير التعليم بين كلّ الناس وكل الأديان بعيداً من أيّ تصعب أو تطرّف. ليست ثقافة التسامح سوى مرآة يتبيّن عبرها أنّه لم تكن هناك في يوم من الأيام أي عقدة من أي نوع، لا لدى الشيخ زايد ولا لدى الراحل الشيخ خليفة بن زايد الذي خلفه ولا لدى رئيس الدولة الجديد الشيخ محمّد بن زايد.
لا خروج عن أسس معيّنة معتمدة لدى الشيخ زايد منذ ما قبل قيام الدولة. لذلك قال الشيخ محمّد في كلمته الأخيرة “إن سيادة الإمارات وأمنها مبدأ لا يمكن التنازل عنه أو التهاون فيه، وسياسة الدولة ستظل داعمة للسلام والاستقرار في منطقتنا والعالم والشعب الإماراتي هو في قمة أولويات الدولة منذ نشأتها وسيظل كذلك”.
ليس صدفة توقيت هذا الكلام الذي يؤكّد بين ما يؤكده وجود دولة حقيقيّة تتبع سياسة مستقلة ترعى أوّل ما ترعاه مصلحة شعبها. من هذا المنطلق كانت شبكة العلاقات الواسعة التي أقامتها الإمارات، وهي شبكة تغطي القارات الخمس. من هذا المنطلق كانت القوة العسكريّة التي بنتها الإمارات بفضل جهود المؤسّس أولاً ثمّ الشيخ خليفة والشيخ محمد بن زايد في السنوات العشرين الأخيرة. هذه القوة العسكرية برهنت عن كفاءة كبيرة في معارك حقيقية خاضتها من أجل حماية الأمن الوطني. قدمت القوات المسلّحة، مثلها مثل أيّ جيش حديث، الدم من أجل حماية الأمن الإماراتي. كان ذلك على أرض اليمن حيث خاضت معارك شرسة دفاعاً عنه وعن أبنائه ودفاعاً عن كل دولة خليجيّة هدّد الوجود الإيراني، الذي يغطيه الحوثيون، أمنها.
يعرف محمّد بن زايد كرجل دولة جال في العالم ويعرف ما يدور فيه معنى الشأن الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين. لا دولة قويّة من دون اقتصاد قويّ. لذلك قال: “إن اقتصاد دولة الإمارات يعد اليوم ضمن أكثر الاقتصادات قوةً ونمواً”، لافتاً إلى أن “الله أنعم علينا بموارد غنية ومتعددة بخاصة مواردنا البشرية، إذ تمتلك دولة الإمارات ثروة متميزة من القوى العاملة الفتية والشاب وتشاركنا أكثر من 200 جنسية بفاعلية ونشاط في نمو اقتصادنا وتطوره”.
ولفت إلى أن “تنويع اقتصادنا ضرورة استراتيجية أساسية ضمن خططنا للتنمية”، لذا، رأى أنّ “من الضروري تسريع جهود التنمية الاقتصادية لبناء اقتصاد نشيط ورائد عالمياً. سوف نستمر في تعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية لدولة الإمارات وتحقيق أفضل المؤشرات العالمية في هذا المجال”.
ليس سرّاً أنّ الإمارات تعمل منذ سنوات عدّة من أجل تنويع اقتصادها. يدرك المسؤولون فيها أنّ النفط لا بدّ من أن ينضب يوماً ولن تبقى سوى ثروة الإنسان وما يستطيع أن ينتجه هذا الإنسان. أكثر من ذلك، تعمل الإمارات منذ اليوم على تطوير الطاقة النظيفة بكلّ أشكالها. لذلك قال محمد بن زايد إنّ الأولويات “تشمل كذلك تنمية قدراتنا في مجال العلوم والتكنولوجيا وتطويرها … لتحقيق فوائد لجميع قطاعات الاقتصاد والمجتمع … كما أن دور القطاع الخاص محوري ويجب تنشيطه وزيادة مساهمته في تنمية الاقتصاد”.
ليست دولة الإمارات سوى دولة متصالحة مع نفسها. هذا سرّها الذي يكمن في وجود وحدة حال بين المواطن والمقيم من جهة والمسؤول الأوّل عن الدولة من جهة أخرى. لا شرعيّة أكبر من شرعيّة مستمدة من علاقة مباشرة بين الحاكم من جهة والمواطن والشخص المقيم في الإمارات من جهة أخرى.
استطاعت الإمارات التمسك بقيم معيّنة محورها الإنسان بما يمثله من ثروة لا مفرّ من الاستثمار بها ومن امتلاك القدرة على التطور. والتطور يعني في هذه الأيام بالذات تحمّل مسؤوليات عالميّة والتعاطي مع التغيّرات التي تشهدها المنطقة في ظلّ التحدي الإيراني من جهة وما يعانيه العالم من مشاكل تسبب بها الغزو الروسي لأوكرانيا، خصوصاً في مجال الطاقة ونقص المواد الغذائية من جهة أخرى. لم يفت الشيخ محمّد تأكيد أنّ بلاده “ستواصل دعم أمن الطاقة العالمي كمحرك رئيسي للنمو الاقتصادي العالمي”، في رسالة جاءت مع وصول الرئيس جو بايدن إلى إسرائيل التي سينتقل منها إلى المملكة العربيّة السعوديّة.
يعرف محمّد بن زايد مشاكل العالم. جعل من الإمارات جزءاً من الحل لهذه المشاكل إن في مواجهة كلّ أشكال التطرّف، خصوصاً التطرّف الديني، أو مواجهة مشكلة الطاقة أو المشكلة الغذائية.
من هذا المنطلق، شارك الرئيس الإماراتي في القمة الافتراضيّة التي انعقدت في أثناء وجود الرئيس الأميركي في إسرائيل مع رئيس الوزراء الهندي ورئيس الوزراء الإسرائيلي. بحثت تلك القمّة في كيفية مواجهة أزمة الغذاء العالميّة في ضوء ما تستطيع الهند تقديمه في هذا المجال.
يبدو عهد محمّد بن زايد عهد الاستمرارية الإماراتية في طريق الإنتماء إلى المستقبل بتحدياته ومشاكله. إنّها الاستمرارية القائمة على الاستثمار في الإنسان والقيم الإنسانيّة قبل أيّ شيء آخر.
نقلا عن النهار العربي