محطتان ونصف – الحائط العربي
محطتان ونصف

محطتان ونصف



قام الرئيس الأميركي جو بايدن الأسبوع الماضي بزيارة للشرق الأوسط شملت محطتين ونصف، في إسرائيل وبيت لحم والسعودية، وعلى الرغم من غرابة هذا الوصف وما يبدو عليه من تبسيط للأمور فأعتقد أنه يعكس ترتيبات الزيارة بدقة شكلاً، بعدما بات في كل من إسرائيل والمملكة وقضى جزءاً من يوم عمل مع السلطات الفلسطينية، والأهم من ذلك أنه عكس أيضاً الأولويات الأميركية من الزيارة وأهم مضامينها للأطراف المضيفة والمشاركة.

وذلك لاحتياج بايدن وإسرائيل التحاور حول مدى اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط والتزامها أمن إسرائيل ومصالحها الإقليمية، وكذلك إدارة وتنسيق ردود الفعل للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران من عدمه مع اختلاف الرؤى في هذا الخصوص، وهي زيارة شملت تنسيق المواقف حول عديد من القضايا التكنولوجية والعلمية واستثمار إسرائيل لها في علاقاتها الخارجية، إن كان ذلك مع العرب أو مع غيرهم مثل الصين والولايات المتحدة، والتمسك بحقوق الملكية الفكرية والأمنية.

وصدر عن هذه المحطة “إعلان القدس”، الذي لم يراع الحساسيات الدولية أو العربية على الإطلاق، فعنوانه يقر ضمنياً بالسيادة الإسرائيلية على القدس بخاصة، ولم يتضمن الإعلان أي إشارة أو إيحاء بتوافر تحفظ أميركي في هذا الشأن، ولم ينوه النص بأي التزام إسرائيلي تجاه حل الدولتين أو أُسسه، أو حتى مطالبة أميركية لإسرائيل بوقف الإجراءات المعرقلة للسلام مثل التوسع الاستيطاني والجارية حالياً في الضفة الغربية والساحات المحيطة بالقدس.

وأكد البيان مجدداً على استجابة أميركا لاحتياجات إسرائيل الأمنية، وخطورة السياسات الإيرانية النووية، من دون مطالبة تل أبيب بالتشاور المسبق قبل أي عمل أحادي.

وتلى الزيارة مباشرة تصريح من رئيس الأركان الإسرائيلي بأنهم يعدون لعمل عسكري شامل ضد إيران إذا لزم الأمر، وهو أمر أثق أنه أزعج الجانب الأميركي الذي لايزال يسعى للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران.

ومن ثم فمع تحفظي شكلاً وموضوعاً على إعلان القدس لا يسعني إلا الاعتراف أنه يعكس التوازن الغريب القائم بين أميركا وإسرائيل في الوقت الحالي، فلم يعد يعطي بايدن القضية الفلسطينية الاهتمام الواجب، وخلا البيان من إشارة إلى التزام إسرائيل حل الدولتين، ولم يشمل حتى اكتراث كليهما بالقدر الكافي بالمواقف والمطالب الفلسطينية، وجاءت الالتزامات جميعاً وحصرياً من قبل أميركا لإسرائيل.

وأبرز إيجابيات نصف اليوم الأميركي في الساحة الفلسطينية كانت أن بايدن قرر تناول (ولو قليلاً) هذا الموضوع كجزء مما يسمى بالمواقف الأميركية التقليدية استجابة للتيار اليساري داخل حزبه المتمسك بحل الدولتين، بخاصة بعدما تراجع عن تصحيح عدد من القرارات “الترمبية” مثل إغلاق القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وإغلاق مكتب السلطة الفلسطينية في واشنطن، واكتفى باستئناف المساعدات الأميركية، وقد أكد الرئيس الأميركي أنه يدعم الفلسطينيين اقتصادياً وإنسانياً، مع التنويه أنه يؤيد حل الدولتين، مع أن ذلك لن يتحقق في المستقبل المنظور، وإذ أشار إلى معاناة الشعب الفلسطيني فكان من الأجدى والأوقع سياسياً أن يعبر عن كل ذلك علناً في إسرائيل كرسالة سياسية للمنطقة وللعالم، وليس في بيت لحم كرسالة إنسانية، يلاحظ أنه طالب السلطة بدعم المؤسسات والتعامل مع الفساد، في حين يطالب إسرائيل بوقف أي من ممارساتها اليومية غير المشروعة ضد الفلسطينيين، أي أن إيجابيات المحطة النصفية كانت في رمزيتها وجوانبها الإنسانية، وسلبياتها كانت في رعونة جوانبها السياسية.

أما المحطة الثانية في الجولة فكانت في السعودية، وأجدها الأكثر حساسية والأقوى من حيث النتائج للجانب العربي، وأعني بذلك الرسالة الأعمق والاستراتيجية بما يتجاوز قرارات محددة حول قضايا بعينها كان يمكن تحقيقها عبر اتصالات دبلوماسية مكثفة، فلقد مرت العلاقات الأميركية العربية بقدر غير قليل من الاضطراب عقب انتخاب بايدن والمواقف التي اتخذها قبل وبعد انتخابه مباشرة، وعلى وجه الخصوص مع السعودية والإمارات ومصر، وها هو يحضر إلى جزء من العالم العربي ويزور المملكة ويلتقي قادة هذه الدول وغيرهم، وهناك دلالة مهمة كونه الضيف المبادر والمُلح الذي اهتم بالتوقف عربياً، وقبِل بأغلب ترتيبات المضيف، قبِل بكل ذلك بحسب قوله لإعادة مركزة العلاقات الأميركية السعودية الممتدة، والتواصل الاستراتيجي مع مصر، وتكثيف الاتصالات مع الإمارات وصيانة المصالح الأميركية في العالم العربي، في ظل المنافسة المستجدة والقادمة من روسيا والصين، على الرغم من أن الدافع الرئيس كان محاولة ضبط أسعار الطاقة العالمية وتداعياتها الاقتصادية وأثرها السلبي على فرص الإدارة والحزب الديمقراطي في انتخابات الكونغرس المقبلة، فضلًا عن السعي التقليدي لخطوات محددة وإنما محدودة تجاه إسرائيل، بعدما روجته إسرائيل عن خلق حلف عربي إسرائيلي ضد إيران.

وأرى في القمة الأميركية مع عدد من القادة العرب أهمية كبيرة، ليس لحداثة أسلوب السلام والتحية بالقبضة الذي ركز عليها الإعلام، أو نتيجة للتوصل إلى بعض الاتفاقات المحددة، وإنما باعتبارها مؤشراً بيقين أميركي أنها تحتاج المنطقة، وعليها مراعاة الحساسيات والمواقف العربية بجدية أكبر، كما عكست أيضاً أن العرب أيقنوا أنهم يستطيعون التمسك بمواقفهم شكلاً ومضموناً حتى مع الولايات المتحدة، وكانت فرصة لمراجعة المدى الحقيقي والواقعي للدعم الأميركي، والدور الذي ستلعبه في المنطقة مستقبلاً، وهي أهم إنجازات المحطة العربية، إنجاز ستكون له توابع إيجابية كثيرة إذا استمرت الدول العربية على هذا السبيل، وللمملكة السعودية الدولة المضيفة دور هام ومميز في هذا الصدد، علماً أنني كنت أفضل أن ينظم الاجتماع في السعودية على يومين أحدهما للدولة المضيفة كما شهدنا، والآخر برئاسة مشتركة للسعودية ورئيس القمة العربية مقابل الجانب الأميركي، حتى يكون اللقاء عربياً بشكل كامل، ولا يصور على أنه مرتبط في المقام الأول بمجلس التعاون الخليجي مع أهميته.

خلاصة، أعتقد أن الزيارة كانت مفيدة عربياً بخاصة للسعودية ومصر والإمارات، لأنها فتحت المجال لإعادة العلاقات إلى صلتها الطبيعية، وجاءت مفيدة لهؤلاء وكافة الأطراف العربية الحاضرة لأنها وفرت فرصة مباشرة للعرب للتقييم الموضوعي للقدرات والنوايا الأميركية، وبعد هؤلاء أجد أن إسرائيل انتهزت الفرصة لتثبيت وتأكيد الدعم الأميركي لها مع زيادة الأصوات الناقدة لتعنتها تجاه الفلسطينيين، وجاء الجانبان الفلسطيني والأميركي في المرتبة الثالثة، حيث تم تسليط الأضواء ولو سريعاً على القضية الفلسطينية والمعاناة الإنسانية، وكانت فرصة أميركية للعودة لتبني سياسات واقعية وهي الدولة الكبرى الداعمة، وإنما التائهة سياسياً بين السعي لإعادة تاريخ وأمجاد الدولة العظمى والخشية والتردد من تحمل مسؤوليات ذلك في ظل بروز توجه انعزالي مجتمعي بعد أخطاء فادحة ومكلفة نتيجة لغزوات حربية غير مشروعة وغير مدروسة، لا يزال لها صدى داخلي واسع، وهو ما جعل بايدن يشير إلى أنه أول رئيس أميركي يزور المنطقة دون أن تكون بلاده مشتركة في نزاع عسكري.

نقلا عن اندبندنت عربية