رؤية بيدرسون:
محركات عدم الاستقرار في سوريا وسبل الخروج من أزمتها

رؤية بيدرسون:

محركات عدم الاستقرار في سوريا وسبل الخروج من أزمتها



في أحدث إفادة له أمام مجلس الأمن الدولي، كشف المبعوث الأممي لدى سوريا جير بيدرسون، في 25 يناير الجاري، أن الأزمة السورية بلغت “أبعاداً ملحمية”. فالأزمة، التي تجاوزت عقدها الأول، لا تزال تشهد تصعيداً عسكرياً، ولا يوجد أفق للتسوية السياسية المتعثرة على خلفية تعمق انقسام السوريين، واستمرار التدخلات الخارجية الضاغطة سياسياً وعسكرياً، فيما ينعكس التصعيد العسكري والتعثر السياسي على حياة الشعب السوري الذي يدفع كلفة الحرب الضخمة على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والإنسانية بشكل عام.

ومن المتصور أن بيدرسون يطرح باستمرار في إفاداته أمام مجلس الأمن واقع الأزمة السورية، إلا أن القاسم المشترك بين تلك الرؤى يعكس مدى تشاؤم المبعوث الأممي من مستقبل الأزمة السورية.

ففي إفادة سابقة (25 أكتوبر 2022) قال بيدرسون: “لا نزال بعيدين جداً عن تحقيق هدف التسوية السياسية في الوقت الحالي”، وذلك على خلفية “التحديات الدبلوماسية والحقائق على الأرض التي تجعل التقدم نحو حل شامل أمراً صعباً”، ومع ذلك يشير إلى أن هناك سبلاً يمكن المضي بها قدماً في محاولة اختراق الأزمة.

دوافع التعثر

يستند بيدرسون في تبرير رؤيته لواقع الأزمة السورية إلى اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تصاعد الصراع بين خمسة جيوش: أشار بيدرسون إلى أن هناك خمسة جيوش تتصارع على الساحة السورية، بالإضافة إلى الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي وصفها بالنشطة.

وعلى الرغم من أنه لم يكشف بالتفصيل عن خريطة تلك القوى، لكن هذه القوى والأطراف هي ذاتها التي تتصارع على الساحة منذ اندلاع الصراع السوري المسلح، ومنها القوات المحلية، وهي: قوات النظام السوري، وقوات المعارضة السورية المسلحة، والمليشيا الكردية. ويضاف إلى ذلك القوات والجماعات الأجنبية، وهي: القوات الروسية، والقوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي، والقوات الإيرانية، والفصائل المسلحة التابعة لإيران، بالإضافة للقوات التركية.

وبحسب مركز “جسور” للدراسات، فإن خريطة السيطرة المستقرة إلى الآن منذ عام 2020 تشير إلى أن النظام يسيطر على النسبة الأكبر من الأرض (63.38%)، يليه “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بنسبة سيطرة تبلغ (25.64%)، فيما تسيطر فصائل المعارضة السورية على (10.98%)، بينما خسر تنظيم “داعش” الأرض، رغم أنه يعاود نشاطه مجدداً.

2- تزايد تأثير الأزمات الخارجية: بالإضافة إلى نحو عقد من الدمار والحرب والفساد وسوء الإدارة والعقوبات، فإن هناك أزمات خارجية لعبت دوراً في استدامة الأزمة السورية وتعميقها، منها جائحة “كوفيد 19″، والحرب الروسية-الأوكرانية، وانهيار الاقتصاد اللبناني.

وينظر إلى أن تأثير جائحة “كوفيد 19” انعكس مباشرة على الأوضاع الإنسانية والعمل الإغاثي في سوريا، حيث أشارت تقارير الأمم المتحدة إلى تراجع مؤشرات الأمن الغذائي خلال فترة الجائحة، بينما يكشف أحدث تقرير حول هذه الأوضاع عن تضاعف الاحتياجات الإنسانية لتصل إلى 14.6 مليون سوري، بزيادة 51% تقريباً عن عام 2019 قبل الجائحة.

كما فاقمت الأزمة الاقتصادية في لبنان من الأوضاع الصعبة على اللاجئين السوريين هناك، في حين أن الحرب الروسية-الأوكرانية انعكست على خريطة الصراع السوري، حيث تعيد واشنطن تعزيز حضورها العسكري بالتعاون مع “قسد”، في الوقت الذي تسعى فيه تركيا إلى استغلال الحرب لصياغة ترتيبات جديدة بدعم روسي في إطار التقارب المحتمل بين أنقرة والنظام والسوري.

3- تراكم تعقيدات التسوية السياسية: بحسب رؤية بيدرسون، فإن التطورات التي تشهدها الساحة السورية، ومن بينها ما سلفت الإشارة إليه من استمرار تعقيدات الأوضاع الميدانية، لا يختلف الوضع السياسي عنها من حيث مستوى التعقيدات التي ترحل باستمرار مسار التسوية السياسية، في ظل طبيعة الاستقطابات ما بين كافة الأطراف، واتجاه الأطراف إلى اللجوء إلى القوة العسكرية لتعزيز مناطق النفوذ.

فتركيا تلوح بعملية عسكرية ضد الأكراد، وعلى الرغم من الحديث عن إمكانية حدوث تقارب بين دمشق وأنقرة، إلا أنه من الوارد أن ينعكس ذلك جزئياً على عملية التسوية، وبالتالي لا تزال التسوية الشاملة غير محتملة.

ففي تصريحات إعلامية لقائد قوات “قسد” مظلوم عبدي، في 26 يناير الجاري، قال إنه يجري التنسيق مع النظام في دمشق أمنياً وعسكرياً، بينما لم يتخذ النظام موقفاً من الضغط التركي. كما ترجح تقديرات أمريكية أن واشنطن لن تكون طرفاً في تسوية على هذا النحو تقودها روسيا، خاصة وأن الإدارة الأمريكية تواجه ضغوطاً من الكونجرس لتقويض أي انفراجة سياسية أو اقتصادية يستفيد منها النظام.

الأولويات الستة

على ضوء ذلك، يمكن القول إن ثمة أولويات ستة سوف يتحرك بيدرسون بناءً عليها خلال المرحلة القادمة، وهي:

1- التراجع عن التصعيد الحالي: على الرغم من أن نهج خفض التصعيد محل توافق منذ اتفاقيات “سوتشي” الروسية 2017، والتي تم التأكيد عليها عام 2022، إلا أنه لا يمكن تجاهل تنامي مؤشرات التصعيد الميدانية.

ففي الوقت الذي لم تطلق تركيا بعد حملتها العسكرية ضد الأكراد، فإن الجبهة الشمالية السورية تشهد تسخيناً في إطار التصعيد ما بين الطرفين، ودخول واشنطن على الخط، كما هاجمت فصائل محسوبة على إيران بعض المواقع الخارجية، وتواصل إسرائيل مسار استهداف التواجد الإيراني في سوريا بوتيرة مرتفعة.

2- زيادة الدعم الدولي للعمليات الإنسانية: وجّه بيدرسون الشكر إلى الأطراف الدولية التي دعمت القرار 2672 والذي تم بموجبه تجديد عمل آلية إيصال المساعدات الإنسانية إلى شمال غرب سوريا عبر الحدود التركية لمدة ستة أشهر إضافية، وهو ما يبدو أنه سوف يحاول استثماره خلال المرحلة القادمة لتوفير مزيد من المساعدات إلى تلك المناطق.

3- استئناف عمل اللجنة الدستورية: ربما تتجه بعض القوى إلى تكثيف الدعوة إلى تحقيق المزيد من التقدم الموضوعي في إطار مسار جنيف، لا سيما استئناف انعقاد اجتماعات الهيئة الدستورية المصغرة في جنيف من دون تأخير. ولكن على التوازي يبدو أن بعض القوى الأخرى المعنية بتلك الخطوة لا تزال غير متوافقة على الإجراءات أو جدول أعمال مسار جنيف حال استئنافه.

4- حلحلة ملف المعتقلين والمفقودين والمخطوفين: وهو أيضاً أحد الملفات المعقدة والمتشابكة. فوفق تقارير الأمم المتحدة، فإن 150 ألف سوري مفقودون، بينما لا يتجاوب النظام مع هذا الملف، في الوقت الذي استخرج فيه شهادات وفاة لمعتقلين، وثبت لاحقاً وجودهم على قيد الحياة.

وفي أغسطس 2022، أوصى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة بتشكيل آلية خاصة ومحايدة للتعامل مع هذا الملف، فالآلية التي اعتُمدت في هذا السياق من قبل لا تزيد على كونها قاعدة بيانات في هذا الملف.

5- السعي لبناء الثقة تدريجياً: ويعد ذلكأحد التكتيكات التي يذكرها المبعوث الأممي باستمرار، ويقوم على إجراء مزيد من الحوارات بين الأطراف المعنية بقضايا الأزمة، لبناء الثقة بشكل متدرج، بحيث يتعين على كل طرف من النظام والمعارضة تقديم تنازل أو استجابة لطرح ما فيقابل بخطوة مماثلة من الطرف الآخر.

6- تعزيز الجهد المشترك حيال كافة القضايا: ففي رؤية المبعوث الأممي، فإن ذلك يكتسب أهمية خاصة، لا سيما أنه سوف يوفر إمكانية إشراك الفاعلين المحليين والجهات الدولية في الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى عملية سياسية شاملة تشرف عليها الأمم المتحدة.

تغييرات محدودة

في الأخير، من المتصور أن رؤية بيدرسون حيال الأزمة السورية وآفاقها لم تتغير كثيراً عن الإفادات السابقة، حتى وإن كانت الإفادة الأخيرة أكثر تفصيلاً. وربما يعود ذلك إلى أن الأزمة لم تراوح مكانها، فمحركاتها وتحدياتها لا تزال قائمة، بينما يعول على متغير ديناميكياتها، سواء عبر مراقبة تطور العلاقة بين أنقرة ودمشق، أو من خلال التطورات الميدانية على الأرض ذات الصلة أيضاً باحتمالات سيناريو التقارب وتداعياته المختلفة.  لكن كنتيجة محتملة لهذه التفاعلات، فإن المخارج الستة التي يطرحها ويكررها بيدرسون بصيغة أو بأخرى، ومن آن لآخر، لم يتلقفها الفاعلون الرئيسيون، على نحو يوحي بأن هؤلاء الفاعلين ما زالوا معنيين بمعادلات السيطرة ومناطق النفوذ على الأرض، وإعادة هندسة التفاعلات في إطار حسابات كل طرف ومصالحه في الأزمة.