جلسة استماع:
متاهة الانتقال: المشكلات الرئيسية المعرقلة لاستقرار ليبيا

جلسة استماع:

متاهة الانتقال: المشكلات الرئيسية المعرقلة لاستقرار ليبيا



نظّم مركز “العالم العربي للأبحاث والدراسات المتقدمة”، بالقاهرة، بتاريخ 4 يناير 2023، جلسة استماع بعنوان “المشكلات الرئيسية المعرقلة لاستقرار ليبيا”، واستضاف المركز عبد الستار حتيتة الكاتب الصحفي المتخصص في الشأن الليبي (كمتحدث رئيسي في الجلسة)، كما شارك في الجلسة عددٌ من الخبراء والباحثين المتخصصين في مجالات مختلفة، وهم: الدكتور محمد عز العرب، والدكتور محمد عباس ناجي، والأستاذ أحمد عليبة، والأستاذ عمرو عبدالعاطي، والأستاذ حسين معلوم، والدكتور حمدي بشير، والأستاذ محمد الفقي، والأستاذ كرم سعيد، والدكتور هيثم عمران.

مسارات معقّدة

يُحدد “حتيتة” عدداً من مسارات الأزمة الليبية منذ اندلاع المواجهات خلال أحداث عزل الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عن الحكم في عام 2011، والتي ساهمت في تعقيدات المشهد الحالي، كالتالي:

1- تعدد الولاءات الخارجية لأطراف داخلية: خلال المواجهات التي اندلعت لعزل “القذافي” من الحكم، ظهرت ولاءات بعض الأطراف المشاركة ضد النظام السابق في مرحلة مبكرة، إذ كانت جبهة الإنقاذ التي كانت تضم تيارات إسلاموية، وتسيطر عليها بعض القوى الدولية، مقابل شريحة واسعة من قطاعات شبابية كانوا يحلمون بمستقبل أفضل ومتعطشين للحريات، ورغم وجود ولاءات لأطراف داخلية لقوى دولية، وتحديداً حلف الناتو، شاركت مختلف الشرائح المناوئة للنظام الليبي السابق في غرفة عمليات مشتركة، لمواجهة القوات التابعة للقذافي.

2- تخطيط الإسلامويين للسيطرة على المشهد: عقب مرور عامين أو ثلاثة من سقوط نظام القذافي، شهدت ليبيا صعوداً للتيارات الإسلاموية بصورة ملفتة، سواء الإخوان أو تشكيلات تتبع لتنظيم القاعدة، مقابل تراجع لشريحة “القطاعات الشبابية” التي كانت تضم أساتذة جامعات وفئات أخرى، وكان أهم ما يميزها عدم وجود ولاءات لأطراف خارجية، وبدا أن تلك الشريحة خارج المعادلة لصالح سطوة التيارات الإسلاموية. وهنا، فإن هذه الشريحة تعرضت للخداع ولم تدرك ذلك إلا بعد فترة من الزمن، وكان واضحاً أن التيارات الإسلاموية تخطط للمستقبل بالهيمنة على المشهد، بتنسيق مع أطراف خارجية، من خلال السيطرة على أسلحة تكتيكية بعيدة المدى، وترك الأسلحة الخفيفة لشرائح تشارك في القتال ضد القوات التابعة للقذافي.

3- عودة الإخوان للمشهد عبر اتفاق “الصخيرات”: بحلول عام 2014، حدث تراجع للإخوان في المشهد الليبي، وتحديداً على مستوى مجلس النواب، بإسقاط الليبيين لقيادات الإخوان، ولم ينجح سوى عدد قليل من النواب الإسلامويين، وباتت أقلية بنحو 25 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد مجلس النواب الليبي،ولجأ النواب الـ 25 إلى مقاطعة جلسات مجلس النواب، وبدأوا في التواصل مع أطراف خارجية، وبدأت بعض الأطراف الإقليمية تميل إلى المليشيات في الغرب الليبي،مثل زيارة مستشار الرئيس التركي رجب طيب أرودغان إلى طرابلس، رغم حديث رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح إليه بأنه لا يصح له زيارة طرابلس. وتوالت المؤتمرات لإعادة النواب الـ 25 من التيارات الإسلاموية، وتم الاتفاق في النهاية على اتفاق الصخيرات، رغم عدم توقيع المجلس النواب الجديد أو المؤتمر الوطني العام على الاتفاق.

4- محاولة إزاحة حكومة السراج والتدخل التركي: حاول اللوبي التابع لإحدى الدول الإقليمية وتقوده دولة عربية في ليبيا، إزاحة حكومة فايز السراج خلال عام 2017، لصالح تشكيل حكومة جديدة بقيادة خليفة الغويل، وهذا الرجل كان يتعاون مع التيارات الإسلاموية، ولكن لم يكتب لتلك المحاولات النجاح بإزاحة السراج والمليشيات الموالية له، من خلال دعم أمريكي بمنح خطة هجوم “الغويل” والمليشيات الموالية له، وبالتالي هُزم الحلف المناوئ للسراج، ويُعد هذا العام بداية التدخل الحاسم لتركيا في ليبيا، بإرسال ضباط أتراك وإنشاء قواعد عسكرية في أكثر من منطقة بالغرب الليبي، وبدأت أنقرة في التحالف مع كل المكونات المتحاربة في الغرب الليبي، وهيمنت على هذا الخليط من المليشيات.

5- استدعاء مرتزقة بعد تقدم الجيش الوطني لطرابلس: دفعت تعقيدات المشهد الليبي، المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، إلى التحرك باتجاه العاصمة طرابلس،والسيطرة على بعض المدن،بدافع وطني، دون استشارة أي من الأطراف الإقليمية والدولية، وساهمت القوات التركية مع المليشيات بالغرب في مواجهة هذا التقدم للجيش الوطني باتجاه العاصمة طرابلس، مع دفع أنقرة بمرتزقة من خارج ليبيا في المواجهات سواء من سوريا أو دول أخرى في أفريقيا، في إطار الاتفاق الأمني الموقع مع حكومة السراج آنذاك.

عوامل معرقلة

يشير “حتيتة” إلى عددٍ من العوامل المعرقلة لحل الأزمة الليبية حتى الآن، في ضوء تعدد الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وأبرز تلك العوامل:

1- تركيز الأطراف الليبية على الصراع وليس الحل: ساد اتجاه في النقاش، بأن تشخيص الأزمة الليبية يُشير إلى أن مختلف الأطراف تهتم بالصراع على السلطة ولا يوجد تفكير في إقامة دولة وطنية، في ضوء اختلاف الأجندات للأطراف الليبية المختلفة، في ضوء صراع المصالح بين بعض الأطراف، ومحاولات الحصول على مكاسب مادية، والصراع على النفوذ بين بعض الأطراف وشخصيات محسوبة على النظام الليبي السابق، وباتت الأزمة الليبية غير قابلة للحل، إذ إن المعضلات السياسية تحولت إلى صفقات سياسية، وليس هناك مشروع سياسي، كما أن أحد أهم أبعاد الصراعات في ليبيا، هو كيفية إدارة ملف الطاقة الذي يضخ أموالاً طائلة، ويلعب المصرف المركزي الليبي دوراً كبيراً في توزيع الأموال وتقوده شخصيات إخوانية.

2- تحركات الإخوان وتعدد المليشيات بالمنطقة الغربية: ثمة أزمة تتعلق بالتيارات الإسلاموية، وتحديداً جماعة الإخوان في ليبيا، إذ إنها تتدخل لعرقلة أي تفاهمات سياسية منذ محاولة إسقاط نظام معمر القذافي وحتى الآن. وهنا، نحن أمام فصيل لا يخضع للأجندة الوطنية، وإنما تتدخل في ذلك أجندة التنظيم الدولي للإخوان، إذ إن توجهات جماعة الإخوان في ليبيا تقودها أطراف خارجية بالأساس، تعمل ليس لمصلحة ليبيا، وإنما لصالح التنظيم الدولي للإخوان. وحينما حاول خالد المشري المضي في تحقيق تفاهمات سياسية، عرقل الإخوان هذا المسار وذلك بقيادة القيادي الإخواني “علي الصلابي”، تخوفاً من فقدان الإخوان التأثير وتشكيل حكومة جديدة. كما أن مشهد المليشيات معقد في الغرب الليبي، خاصة مع عدم تماسك القبائل بصورة كبيرة مقارنة بالشرق والجنوب، وبالتالي فإن هناك مليشيات في طرابلس ومصراتة وصبراتة والزنتان والزاوية، وهناك صراعات مع بعضهم بعضاً وحساسيات كبيرة، ورغبة في السيطرة وتعزيز النفوذ. نجد بعضهم يتحالف مع البعض الآخر، والعكس، خاصة مع انتشار أفكار التطرف لدى هذه المليشيات.

3- المشهد القبلي المعقد وإعلاء المصالح الخاصة: أحد العوامل المعرقلة للتفاهمات وحل الأزمة الليبية، المشهد القبلي المعقد، في ضوء اعتراض بعض القبائل على عودة القبائل التي كانت متصدرة خلال فترة “القذافي” للحكم مرة أخرى، وتحديداً قبيلة القذافي، وهو ما يعرقل أي تفاهمات يمكن أن تنشأ، في حين تتداخل بعض القبائل مع المليشيات في الغرب، وهناك اجتماعات دورية لبحث المكاسب المتحققة من استمرار الأزمة، من خلال الأموال التي يحصلون عليها من أطراف دولية وإقليمية وأطراف متصارعة في المشهد الليبي، ثم إعادة تقسيم هذه المكاسب المادية والأسلحة على شيوخ القبائل، وبالتالي فإن ثمة استفادة من استمرار الوضع المضطرب والمعقد في ليبيا لأهداف خاصة.

4- التوجهات الرئيسية للغرب ومنع عودة نظام القذافي: حينما نتحدث عن نظرة المجتمع الدولي تجاه الأزمة الليبية، فإننا نتحدث بصورة رئيسية عن الموقف الغربي (الولايات المتحدة ودول أوروبية)،إذ إن الصين وروسيا ليستا نافذتين في هذا الملف، وإن كانت روسيا لديها قوات من “فاغنر” في ليبيا بالمنطقة الشرقية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عناصر “فاغنر” موجودة في ليبيا منذ أيام النظام السابق، في منطقة تُعرف باسم “المدينة الروسية”، وما حدث هو زيادة عدد تلك القوات فقط، ويعملون في صيانة المعدات العسكرية، ويستغل الغرب وجود الشركة لتشويه روسيا، باعتبار عناصر تلك الشركة “مرتزقة” في حين لا يتم النظر إلى المرتزقة في الغرب الليبي، وهذا يصب في صالح التيارات الإسلاموية. كما أن أحد التوجهات الرئيسية الحاكمة للغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية، أن الجيش الوطني الليبي يتكون من تشكيلات محسوبة على النظام السابق، ولا يمكن أن تسمح لهم بالعودة للسلطة مرة أخرى، وإعادة تكرار تجربة “القذافي” الذي يقوض مخططات الغرب في أفريقيا. ونجد أن دور المبعوثين الأمميين أنهم يتحركون في ضوء أجندة الغرب.

5- تباطؤ الدول العربية في التحرك على الساحة: قبل توقيع اتفاقيات الصخيرات، اتجهت بعض الأطراف في مجلس النواب، وداخل المؤتمر الوطني العام، إلى بعض الدول العربية،لطلب الرأي فيما يتعلق بالتوقيع على الاتفاق من عدمه، ولكن الاستجابة العربية كانت بطيئة مقارنة بسرعة الرد المطلوبة من قبل الأطراف الليبية، ولم يحدث اعتراض على الاتفاق وتم تمريره بتلاعب من قبل “الإخوان”، بالتوقيع عليه من الحضور فقط، وبالتالي فالدول العربية كانت بحاجة إلى انخراط أكبر، خاصة في ظل تدخلات قوى إقليمية تعمل كوكيل لحلف الناتو متمثلة في تركيا، مع الإشارة إلى سطوة حلف الناتو وصعوبة مواجهة تحركاته العسكرية في ليبيا من خلال أنقرة.

رؤية محتملة

وأخيراً، استبعد “حتيتة” أي طروحات متعلقة بانفصال بعض المناطق في ليبيا على وقع استمرار الأزمة الحالية، في ظل تركيبة الجيش الوطني الليبي الذي يضم ضباطاً وجنوداً من مختلف أقاليم ليبيا، كما أن هذا ليس من مصلحة أحد، كما أن طرح “الفيدرالية” في ليبيا يصعب تنفيذه أيضاً، وإذا حدث فأكثر منطقة ستتضرر هي الغرب، إذ إن العوائد الاقتصادية الأكبر من النفط الذي يتركز في الشرق والجنوب، كما أن الطرح المتعلق باللا مركزية في ليبيا غير محدد الخطوات والملامح.

وساد اتجاهٌ في النقاش خلال الجلسة بأن مسألة تقاسم السلطة بين الأطراف المختلفة، وتمثيلها في السلطة، من ضمن ذلك الأطراف المحسوبة على نظام “القذافي”، يمكن أن يُسهم في حل الأزمة المستمرة، خاصة أن قرار الحرب والتسوية في ليبيا بات مرهوناً بأطراف خارجية.