إن ثمة تساؤلاً رئيسياً يُطرح في الآونة الأخيرة يتعلق بفرص عودة الأطراف السودانية إلى منبر جدة في ظل سياقات حاكمة تتمثل في فشل كافة الوساطات المطروحة لحل الأزمة السودانية، ومواصلة التصعيد السياسي والعسكري بين طرفي الأزمة، وتجميد السودان عضويته في إطار تجمع “إيجاد”، ورفض “البرهان” أية وساطة خارجية لحل الأزمة، وتنامي الاختلافات بين التيارات السياسية السودانية. غير أن هناك احتمالاً أكثر ترجيحاً يطرحه البعض وهو عدم اتفاق طرفي النزاع على أي وساطة مطروحة واستمرار القتال، وما يتضمنه ذلك من فوضى ممتدة وتأثيراتها على دول الجوار الإقليمي.
تعددت المبادرات الهادفة إلى حل الأزمة السودانية منذ اندلاعها في أبريل من العام الماضي بين القوات المسلحة السودانية بقيادة “عبد الفتاح البرهان” وقوات الدعم السريع بقيادة “محمد حمدان دقلو”، وقد تنوعت هذه المبادرات ما بين مبادرات إقليمية ودولية. ولعل من أهم تلك المبادرات ما يعرف بمنبر “جدة” وهي سلسلة من المحادثات التي انطلقت في 6 مايو 2023 برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من نقل ملف التفاوض بين طرفي النزاع إلى الهيئة الحكومية للتنمية “إيجاد”، إلا أن الحكومة السودانية قد قامت في منتصف يناير من العام الجاري بتجميد عضوية البلاد في المنظمة بذريعة تجاهلها قرار السودان المعني بوقف انخراطه وتجميد تعامله في أية موضوعات تخصه، وقد أثارت هذه التطورات تساؤلات حول احتمالية عودة ملف الأزمة السودانية إلى منبر “جدة”.
سياقات حاكمة
ثمة العديد من السياقات الحاكمة لتطور ملف الأزمة السودانية، والتي تتحكم بدورها في المسارات المختلفة التي يمكن أن يؤول إليها الملف التفاوضي. ويمكن إلقاء الضوء على أبرز هذه السياقات كما يلي:
1- فشل كافة الوساطات المطروحة لحل الأزمة: فعلى الرغم من تعدد المحاولات والمبادرات الدولية والإقليمية الهادفة إلى حل الأزمة منذ اندلاعها في أبريل من العام الماضي، إلا أنها قد فشلت في حلحلة الصراع، ويرجع ذلك نتيجة عدد من الأسباب لعل من أهمها تمسك “البرهان” بانسحاب الدعم السريع من المدن، وإعادة ما نهبه الدعم السريع من ممتلكات خاصة بالدولة والمواطنين، وتمسك “البرهان” بخروج الدعم السريع من “الخرطوم”.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن من أهم هذه المبادرات “قمة القاهرة لدول جوار السودان” التي عُقِدت في 13 يوليو 2023 بين كل من ليبيا، تشاد، جنوب السودان، إريتريا، وإثيوبيا، وأفريقيا الوسطى، بهدف مناقشة الأزمة السودانية ومحاولة إيجاد مسارات لتسوية الصراع، بالإضافة إلى مبادرة جدة المعروفة باسم “منبر جدة”، والتي انطلقت في 6 مايو 2023 برعاية المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية بهدف استعادة الخدمات الأساسية، ووضع جدول زمني لمفاوضات موسّعة للوصول إلى وقفٍ دائم للأعمال العدائية وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية الطارئة، يضاف لما سبق مبادرة “إيجاد” والتي بدأت في 10 يونيو 2023.
2- مواصلة التصعيد السياسي والعسكري بين طرفي الأزمة: عقب قرار الحكومة السودانية بشأن تجميد عضويتها في “إيجاد” حيث شهدت البلاد الكثير من المعارك بين الجيش والدعم السريع، وخاصة في ولاية “غرب كردفان” و”الخرطوم” و”شمال دارفور” و”القضارف” و”نهر النيل” والتي حاول فيها كل طرف توسيع نفوذه بشكل أكبر في الولايات، وتكبيد الطرف الآخر خسائر عديدة سواء في الأرواح أو المعدات العسكرية، وقد أدى ذلك إلى سقوط العديد من الضحايا المدنيين جراء الهجمات المتبادلة لطرفي الصراع، بالإضافة إلى تدمير الكثير من المنازل والمؤسسات الاستراتيجية في السودان. وأدى تصاعد المعارك أيضاً إلى نزوح عدد كبير من السكان في المدن التي تشهد أعمال قتال.
3- تجميد السودان عضويته في إطار تجمع “إيجاد”: حيثأصدرت الحكومة السودانية قراراً بتجميد عضويتها في 20 يناير الماضي، وقد جاء ذلك القرار على خلفية اعتبار وزارة الخارجية أن منظمة “إيجاد” انتهكت سيادة السودان نتيجة دعوتها لقائد الدعم السريع “حميدتي”، ولتجاهل “إيجاد” قرار السودان السابق الذي نُقل إليها من الحكومة والتي طالبت في إطاره المنظمة بتجميد تعاملها معها في أي موضوع يخص الشأن السوداني، وقد تجاهلت “إيجاد” ذلك من خلال إدراجها بنداً عن السودان في قمتها الاستثنائية المقرر عقدها في العاصمة الأوغندية “كمبالا”.
4- رفض “البرهان” أي وساطة خارجية لحل الأزمة السودانية: حيث أكد أن أي حل من الخارج لن يصمد، مشدداً على أنه لا يمكن لأي جهة أن تفرض على السودان أي إجراءات، ورفض الحديث مع أي وسطاء سواء في “جوبا” عاصمة جنوب السودان وذلك من خلال الدعوة التي تلقاها من جبهة “تقدم” التي كانت تسعى للوصول لحل بشأن الأزمة السودانية، وكذلك رفضه حضور “ورشة القاهرة” بالعاصمة المصرية التي عُقدت لمناقشة الأوضاع الأمنية في “دارفور”، ودعوته السياسيين للبحث عن الحلول من داخل الوطن وليس خارجه، وهذا يؤكد رفضه التام لأي وساطة خارجية لحل الأزمة السودانية.
5- تنامي الاختلافات بين التيارات السياسية السودانية: وذلك نتيجة انقسام الرأي العام في الأوساط السودانية بين التيارات السياسية والمدنية بشأن قرار تجميد عضوية السودان في منظمة “إيجاد”، حيث انقسم الرأي إلى تيارين رئيسيين؛ أيد التيار الأول قرار الحكومة السودانية واتهم “إيجاد” بعدم الحياد وعدم النزاهة، وأنها تسعى إلى فرض حلول ليست في صالح الشعب السوداني، وأنها منحازة لقوات الدعم السريع. بينما عارض التيار الثاني قرار الحكومة بذريعة أنه سيؤدي إلى إطالة أمد الحرب، ومواصلة المعاناة التي يشهدها المواطنون جراء الهجمات المتبادلة بين طرفي الصراع، مع صعوبة التوصل لحل سلمي لإنهاء الحرب المستمرة.
سيناريوهات محتملة
ثمة العديد من السيناريوهات المرتبطة بمصير الأزمة السودانية، سواء في شقها التفاوضي أو في تطور مسارات الحرب في ساحة القتال، ويمكن إلقاء الضوء على أبرز تلك السيناريوهات كما يلي:
1- إحالة ملف التفاوض إلى منبر جدة مرة أخرى: وذلك استناداً إلى تصريحات الجيش التي أبدى فيها استعداده للعودة إلى منبر “جدة” بشرط تنفيذ الدعم السريع ما تم الاتفاق عليه سابقاً في مفاوضات “جدة” التي عُقدت في 11 مايو الماضي، وأيضاً من خلال إعلان الدعم السريع استعداده للعودة بشرط عدم انسحاب الجيش من المفاوضات مرة أخرى. وعلى الرغم من احتمال استقرار طرفي النزاع على العودة إلى منبر “جدة” مجدداً، إلا أنه من المرجح فشل الأطراف في التوصل إلى اتفاق دائم في إطاره وذلك نتيجة عدم وجود إرادة سياسية حقيقية لإنهاء الحرب، ولإعلاء قادة الحرب المصالح الشخصية على المصالح الوطنية.
2- ظهور وساطة أفريقية لمحاولة التوفيق بين طرفي الأزمة: وفي إطار هذا السيناريو فإنه من المحتمل أن تدخل دولة أفريقية جديدة للتوسط لحل الصراع في السودان، ومن المرجح أن ترعى الجزائر هذه المحاولات في الفترة المقبلة، حيث دعت رسمياً قائد الجيش السوداني “البرهان” في يناير الماضي لمناقشة الأوضاع في السودان، وتعهدت بمساندة السودان حتى يتجاوز ظروفه الصعبة.
3- عدم اتفاق طرفي النزاع على أي وساطة مطروحة: ويعتبر هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، وذلك على الرغم من الضغوط التي يمارسها الفاعلون الدوليون والإقليميون سواء على مستوى الدول أو على مستوى المنظمات. ويحمل هذا السيناريو في طياته العديد من النتائج المحتملة سواء على السودان والمتمثل أهمها في تقسيمه إلى عدد من الدويلات التابعة لطرفي النزاع، أو على دول الجوار بشكل خاص ومنطقة القرن الأفريقي بشكل عام، وتتمثل أهم تلك النتائج في هذه الحالة في انتشار الجريمة المنظمة العابرة للحدود الرخوة، وإيواء الحدود السودانية للحركات المسلحة التي تقاتل الأنظمة الحاكمة في هذه الدول، وانتقال الصراع إلى الدول التي تعاني من توترات سياسية وأمنية مثل إثيوبيا، وأفريقيا الوسطى، وتشاد، وجنوب السودان، فضلاً عن إريتريا.
إطالة الصراع
وختاماً، يمكن القول إن تعدد المبادرات الهادفة إلى حل الأزمة السودانية يمكن أن يؤدي إلى إطالة أمد الصراع من خلال تشتت فرقاء الحرب بين المنابر المختلفة، كما أنه يعكس في طياته عدم وجود إرادة سياسية حقيقية من المجتمع الدولي لحل هذه الأزمة بشكل جذري. وفيما يتعلق بمسارات الملف التفاوضي السوداني، فإنه من المرجح استمرار عدم التوافق بين قائد الجيش “عبد الفتاح البرهان” وقائد الدعم السريع “حميدتي” بشأن القائمين بالوساطة، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم احتمالات تقسيم السودان إلى عدة دويلات.