شهدت تركيا هجوماً انتحارياً في 13 نوفمبر الجاري أسفر عن سقوط عدد من القتلى والجرحى، وجاء الهجوم بالتزامن مع تصاعد حالة الاستقطاب في الداخل التركي، إضافة إلى تفاقم أزمة اللاجئين، وصعود التوتر المستتر مع “داعش”. وتكشف طبيعة الهجوم عن أنه لا يمكن استبعاد أن تكون العملية الإرهابية الأخيرة من تنفيذ جهات لديها ملفات شائكة مع تركيا، وخاصة “حزب العمال الكردستاني”، ناهيك عن أن هذا الهجوم ربما يُنذر بعمليات مماثلة قد تشهدها البلاد خلال المرحلة المقبلة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات في العام المقبل، فضلاً عن التطور الحادث في السياسات التركية تجاه الفصائل الموالية لها في سوريا.
يبدو أن تركيا قد عادت إلى دوامة العنف بعد وقوع انفجار كبير في شارع الاستقلال السياحي الشهير وسط مدينة إسطنبول في 13 نوفمبر الجاري، وأسفر عن وقوع ستة قتلى ونحو 56 من الجرحى. ويمكن أن ينقل هذا الهجوم الذي يُعتقد أنه نُفذ بواسطة انتحاري، المشهد الميداني والسياسي لمساحات أكثر تعقيداً وتشابكاً، فضلاً عن انعكاساته المحتملة على الانخراط العسكري التركي في صراعات الإقليم.
وأدى الهجوم إلى إثارة مخاوف السلطات التركية، خاصة أنه جاء بعد نحو 5 سنوات من الهدوء، وتأكيد أنقرة على أنها نجحت في محاصرة العنف. وتعهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -في كلمة متلفزة- بالكشف عن منفذي التفجير، وقال إنهم “سينالون عقابهم”، وأضاف أن “العناصر التي تحاول النيل من الدولة التركية لن تحقق طموحها”، وهو ما يطرح دلالات عديدة خاصة فيما يتعلق بتوقيتها، حيث تتزامن مع اقتراب العملية الانتخابية، واتجاه تركيا إلى تطوير ملحوظ في توجهاتها الخارجية.
توقيت لافت
يُعد الهجوم الأخير من أخطر الهجمات الإرهابية التي شهدتها تركيا في السنوات الأخيرة، وجاء في توقيت لافت حيث وقع التفجير بعد يومين من بدء لجنة وزارية في 11 نوفمبر الجاري تابعة لمجلس أوروبا مباشرة إجراءات قانونية ضد أنقرة تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان بسبب رفضها الإفراج عن بعض المعتقلين، وفي الصدارة منهم الناشط الحقوقي عثمان كافالا، وزعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش.
كما توازى الهجوم مع اتجاه تركيا نحو إعادة هيكلة وتنظيم الفصائل الموالية لها في الشمال السوري، والتي تنضوي تحت ما يسمى “الجيش الوطني السوري”، وذلك في إطار جهود تركيا للتقارب مع النظام السوري، وتعزيز التنسيق مع القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في المشهد السوري، وبخاصة موسكو وطهران. وكشفت تقارير عن مطالبة الحكومة التركية “الائتلاف الوطني السوري” (الذراع السياسي للجيش السوري الحر) بمغادرة البلاد إلى مكان آخر قبل حلول نهاية عام 2022.
على صعيد ذي شأن، فإن الهجوم تزامن مع تصاعد السياسات التركية المناهضة للاجئين السوريين، ومنها اعتقال السوريين وترحيل قطاع واسع منهم قسريا، فضلاً عن إعادة توطين مليون لاجئ في شمال سوريا، كما تصاعدت حدة التوتر المجتمعي في الداخل التركي ضد اللاجئين، حيث بات يصفهم الأتراك بالقاذورات، ناهيك عن إنتاج فيلم وثائقي تحت عنوان “الغزو الصامت” في مايو الماضي، وهو فيلم قصير لا تزيد مدته على 8 دقائق، يتحدث عن ملف اللاجئين السوريين في تركيا، راسماً صورة افتراضية قاتمة لمستقبل لتركيا، ويظهر الفيلم صورة إسطنبول عام 2034. وقد تحولت إلى مدينة مدمرة، يُلاحَق فيها الأتراك من قبل السوريين في الشوارع، وهو ما اعتبره بعض المراقبين تحريضاً واضحاً على اللاجئين السوريين.
دلالات عديدة
يكشف التفجير الذي وقع بمنطقة إسطنبول خلال الساعات الماضية عن دلالات عديدة يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- انتقام مباشر لداعش من السلطات التركية: تُشير بعض الفرضيات إلى أن الهجوم ربما لا ينفصل عن محاولة تنظيم “داعش” الانتقام من السلطات التركية بعد توقيفها أحد أهم كبار المسؤولين التنفيذيين في تنظيم “داعش”، وهو “بشار خطاب غزال الصميدعي” الملقب بـ”حجي زيد”. واللافت في هذا السياق، أن الرئيس التركي أعلن عشية تفجير شارع الاستقلال الحالي أن الهجوم تم تنفيذه بقنبلة، كما شدد الرئيس التركي على أن محاولات هدم تركيا عبر الإرهاب لن تنجح، وهو ما يرجح فرضية أن يكون التنظيم قد قام بهذا التفجير وسط منطقة مزدحمة، على نحو قد يزيد من صعوبة كشف منفذه من جانب الشرطة التركية، ومن جانب آخر إظهار ضعف السلطات الأمنية، ناهيك عن التأكيد على قدرة التنظيم واحتفاظه بحق الرد في الوقت المناسب، وكذلك إثبات قدرته على التماسك والاستمرار.
2- الرد على السياسات القمعية ضد اللاجئين: قد يكون انفجار إسطنبول الحالي رداً على السياسات القمعية التي يتبناها الداخل التركي ضد اللاجئين السوريين، والتي وصلت إلى حد أعمال القتل والتخريب للمنشآت والمباني التي يقيم فيها السوريون. كما بات الكثير من اللاجئين السوريين في تركيا يشعرون بالقلق حيال خطط أنقرة لإعادة “مليون” منهم إلى “مناطق آمنة” داخل سوريا، وظهر ذلك في إصدار وزير الداخلية التركي سليمان صويلو في يوليو الماضي قراراً يقضي بعدم السماح بعودة السوريين الذين ذهبوا لسوريا لقضاء إجازة العيد إلى تركيا.
ويشار إلى أن منظمة هيومن رايتس ووتش، قد قالت في تقرير أصدرته في 24 أكتوبر الماضي، إن تركيا اعتقلت ورحلت مئات اللاجئين السوريين رجالاً وصبية هذا العام، واحتجزتهم تعسفياً، وأجبرتهم على العودة إلى شمال سوريا، وهي إجراءات مثّلت ضربات قوية لأوضاع اللاجئين في تركيا، وفرضت عليهم تأثيرات عكسية، وهو ربما ما يكون دفع بعض اللاجئين الذين تضرروا من السلوكيات القمعية التركية إلى تبني خطط عديدة للرد على تلك السياسات، ومنها ما يتعلق بتنفيذ عمليات إرهابية نوعية يحاول من خلالها اللاجئون إثبات قدرتهم على الانتقام، والرد على الممارسات العنصرية ضدهم.
3- إثبات الفصائل الموالية لتركيا في الشمال السوري مكانتها: لا يمكن فصل ما شهده شارع الاستقلال في إسطنبول عن احتمال مسارعة الفصائل الموالية لتركيا في الشمال السوري (الجيش السوري الحر) إلى الرد على السياسات الجديدة التي تبنتها أنقرة، وفي الصدارة منها إعادة هيكلة فصائل الجيش الوطني السوري، ودمج الفصائل المكونة له في كيان واحد. وتعارض هذه الفصائل السياسات التركية الجديدة، خاصة أن هذه السياسات قد تضر بمصالحها والامتيازات التي تحصدها من وراء حكمها مناطق الشمال السوري.
ورغم عدم تصريح تركيا رسمياً بهذه الخطة، أو التلميح بالمضيّ فيها؛ إلا أن مؤشرات ظهرت في الفترة الأخيرة تلمح إلى أن ثمة خطة تركية تستهدف إعادة ضبط الهياكل التنظيمية الموالية في الشمال السوري، وبخاصة “الجيش الوطني”، بمناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”. ويشار إلى صمت تركيا في أكتوبر الماضي عن توغل “هيئة تحرير الشام” في محافظة حلب، واقتحام مدينة عفرين والسيطرة عليها، وطرد عناصر ما يُعرف بـ”الفيلق الثالث” التابع لـ”الجيش الوطني السوري”.
في هذا السياق، فإنه من المحتمل تورط بعض الجماعات الموالية لتركيا في الشمال السوري عن هجوم شارع الاستقلال في إسطنبول، وذلك في إطار محاولة منها للضغط على تركيا لوقف سياستها المتعلقة بإعادة هيكلة الفصائل في الشمال السوري من جهة، ومن جهة أخرى إثبات أنها تمتلك القدرة على تنفيذ عمليات إرهابية قوية ترد من خلالها على السياسات التركية التي لا تتفق مع مصالح الفصائل الموالية في سوريا.
4- تجاوز الخطوط الحمراء ضد الأكراد: يظل استمرار العنف ضد القوى الكردية، وصعود الأفكار القومية المتشددة، أحد المحركات التي تثير غضب الأحزاب والقوى السياسية الكردية ضد حكومة العدالة والتنمية. وقد اعتبرت العناصر الكردية أن الاستمرار في اعتقال زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش المعتقل منذ عام 2016 بتهمة الإرهاب، ناهيك عن ضجة واسعة أعقبت تقارير منشورة في مطلع نوفمبر الجاري تشير إلى استخدام الجيش التركي أسلحة كيماوية في قصف مناطق كردية في شمالي العراق وسوريا، وهو ربما ما دفع حزب العمال الكردستاني للتعاطي معها بعنف خاصة مع سلوك متواصل يحكمه العداء تجاه الحكومة التركية. ومن ثم فقد يشير تفجير شارع الاستقلال باسطنبول إلى أن السياسات التركية العدائية ضد الأكراد ربما مثلت بيئة مواتية للعناصر الكردية الأكثر يمينة للتفكير في الرد على أنقرة من خلال تبنى هجوم انتحاري قادر على تعرية حكومة العدالة والتنمية، ووضعها في مأزق يربك حساباتها قبل العملية الانتخابية المقرر لها منتصف العام المقبل.
ويشار إلى أن احتمال تورط حزب العمال الكردستاني في الهجوم الأخير، أصبح هو الفرضية الأقرب للحكومة التركية، خاصة بعد تأكيد سليمان صويلو وزير الدخلية التركي على أن ثمة استنتاجات حول الحادث تشير إلى مسؤولية الكردستاني، وقال صويلو في تصريحات له بعد ساعات من الهجوم: “وفقًا لاستنتاجاتنا، فإنّ منظّمة حزب العمّال الكردستاني الإرهابيّة هي المسؤولة عن الاعتداء”.
وبرغم عدم إعلان الكردستاني عن مسئوليته عن التفجير أو نفي كلام وزير الداخلية التركي إلا أن ثمة مؤشرات تلمح إلى تصاعد حدة غضب القوى الكردية في الإقليم من عنف النظام التركي، والإصرار على عسكرة الأزمة تجاه الكرد سواء فى شمال سوريا أو شمال العراق ناهيك عن رغبة كردية محتملة في إرباك المشهد التركي قبل الانتخابات، واستهداف الروح المعنوية للحزب الحاكم، وإيصال رسالة تؤكد على أن التيار الكردي لا يزال رقم صعب في المعادلة السياسية التركية رغم كل كل محاولات الاستهداف والإقصاء.
ختاماً، يمكن القول إن هجوم إسطنبول يشير إلى أن تركيا ليست في مأمن من الضربات الإرهابية، وأنها سوف تكون إحدى المناطق الرئيسية التي سوف تسعى القوى المناهضة للحكومة التركية إلى رفع مستوى نشاطها وتكريس نفوذها فيها خلال المرحلة القادمة، في ضوء رفضها ومعارضتها للسياسات التركية تجاهها.