عقب إعلان حركة النهضة مقاطعتها المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في 17 ديسمبر 2022، ونجاحها في إقناع عدد لا بأس به من الأحزاب السياسية بمقاطعة هذه الانتخابات؛ لجأت الحركة إلى بعض الإجراءات التي تعمل من خلالها على محاولة عرقلة إجراء هذه الانتخابات، وذلك عبر إرباك المشهد السياسي، ومن ثم التأثير سلباً على توجهات الناخبين إزاء عملية التصويت في هذه الانتخابات التي تشهد تنافساً بين 1055 مرشحاً على 161 مقعداً برلمانياً بعد أن تم تخفيض عدد مقاعد البرلمان من 217 مقعداً.
مداخل مترابطة
تتبع حركة النهضة مجموعة من الإجراءات، خلال المرحلة الحالية، وذلك على النحو التالي:
1- دعوة المواطنين إلى عدم الذهاب لصناديق الاقتراع يوم إجراء الانتخابات، إذ تقوم حركة النهضة بشكل أساسي بتنظيم حملات إعلامية مكثفة تدعو الناخبين بشكل صريح إلى مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة، حيث تقوم بحملات تشويش على الحملات الانتخابية للمرشحين، ومن ذلك استخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل موقع “فيسبوك” و”تويتر” لتضليل الناخبين من خلال الإعلان عن ترشيحات غير صحيحة، بنشر صور لأشخاص آخرين غير المرشحين الفعليين لخوض السباق الانتخابي، وهو ما أعلن عنه “حراك 25 يوليو” الداعم للرئيس “سعيد” قبل عدة أيام للإشارة إلى حملة التشويش التي تقودها حركة النهضة والأحزاب المعارضة لإرباك المشهد الانتخابي، وهو ما أكده أيضاً رئيس الهيئة المستقلة للانتخابات “فاروق بو عسكر” في 6 ديسمبر الجاري، عندما أشار إلى أن الحملات الانتخابية تتعرض للتشويش عبر ممارسات غير أخلاقية وغير قانونية، واتهامه أطرافاً سياسية –دون تسميتها- بالوقوف خلف هذه الممارسات، وذلك بهدف دفع الناخب إلى مقاطعة الانتخابات.
2- التشكيك في شرعية البرلمان القادم، منذ إقرار الدستور الجديد بعد الاستفتاء الشعبي عليه في 25 يوليو الماضي، وتغيير القانون الانتخابي؛ شنت حركة النهضة حملات غير مسبوقة وجّهت فيها انتقادات عديدة للقانون الانتخابي الجديد الذي تم اعتماده كقاعدة قانونية لإجراء الانتخابات وفقاً لها، بدءاً من أن الاعتماد على نظام الانتخاب الفردي سيحرم الأحزاب من فرصة الحصول على نتائج إيجابية في البرلمان، وأن الدستور الجديد ينص على برلمان ليست له أية صلاحيات في ظل تكريس كافة الصلاحيات في يد رئيس الدولة من أجل تكريس نظام حكم فردي ديكتاتوري، وأن البرلمان الجديد الذي سينتج عن الانتخابات المقبلة سيكون برلماناً ضعيفاً، والترويج لذلك لإقناع الناخبين بعدم الذهاب للتصويت ومقاطعة الانتخابات.
3- المساس بنزاهة ومصداقية رئيس الدولة، حيث تحاول حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني التشكيك في نزاهة ومصداقية رئيس الدولة “قيس سعيد” وذلك من خلال شن حملات إعلامية تعمل على تأليب الرأي العام الداخلي ضده، وذلك على النحو التالي:
1- ازدواجية الخطاب السياسي، تعمل حركة النهضة على ترسيخ صورة في أذهان الناخبين وأفراد المجتمع التونسي خلال الوقت الحالي بأن الخطاب السياسي لرئيس الدولة “قيس سعيد” يتسم بالازدواجية واعتماد المخادعة، وإيهام الرأي العام بالحرص على مصالحه، ودور الدولة في حماية فئاته المتضررة من تردي الأوضاع الاجتماعية للمواطنين، وذلك بدلاً من تقديم حلول وإجراءات فاعلة لحل الأزمة الاقتصادية وتداعياتها على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للمواطنين.
2- توجيه اتهامات لرئيس الدولة بالتطبيع مع إسرائيل، وذلك على خلفية مصادقة الحكومة التونسية في بداية شهر ديسمبر الجاري على بروتوكول الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية في المتوسط، وذلك بعد أن تم رفضه وتأجيله عدة مرات من قبل البرلمانات المتعاقبة في البلاد منذ طرحه لأول مرة في عام 2008، وكان ذلك بسبب تحفظات حول التعاون مع إسرائيل في إطار هذه الاتفاقية. وفي هذا الإطار، تحاول حركة النهضة التسويق لفكرة أن الرئيس “قيس سعيد” صدق على هذا البروتوكول بما يسمح بالتعاون مع إسرائيل، رغم إعلانه في مايو 2021 رفضه التطبيع مع إسرائيل، ووصفه اتفاقيات التطبيع المبرمة بينها وبين بعض الدول العربية بأنها خيانة وإنكار لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي ذلك محاولة من حركة النهضة للخروج من أزماتها الداخلية والتحقيقات القضائية مع أمينها العام “راشد الغنوشي” ومن بينها الإساءة لرئيس الدولة.
3- السماح للقوى الأجنبية بالتدخل في الشأن الداخلي، حيث شنت حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني حملة انتقادات شديدة ضد الرئيس “قيس سعيد” في شهر نوفمبر الماضي، عندما اتهمته بالسماح لفرنسا بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وذلك على خلفية التصريحات التي أطلقها الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” خلال مشاركته في القمة الفرانكفونية في 19 نوفمبر الماضي، التي استضافتها البلاد بمينة جربة، حيث أشار “ماكرون” في تصريحاته إلى تأييده الإجراءات الإصلاحية التي يقوم بها الرئيس “سعيد”، وأن الوقت قد حان لإجراء تغييرات كبيرة في تونس لتحقيق الاستقرار السياسي، إلا أن حركة النهضة وظفت هذه التصريحات في محاولة لإحراج الرئيس “سعيد” وتأليب الرأي العام التونسي ضده.
إذ وصفت تصريحات “ماكرون” باعتبارها تدخلاً في الشأن الداخلي التونسي، وأن التصريحات منافية للديمقراطية بدعمه ما أطلقوا عليه “الانقلاب الدستوري” للرئيس “سعيد”، كما وصفوا عدم رد الرئيس “سعيد” على تصريحات “ماكرون” بأنها تعبر عن الخضوع لإملاءات المستعمر القديم الجديد “فرنسا”، وذلك في محاولة من حركة النهضة للتغطية على الاتهامات الموجهة إليها باستقوائها بدول وجهات أجنبية للتدخل وإعادة مرحلة ما قبل 25 يوليو، ومطالبة الرئيس الأسبق “المنصف المرزوقي” لفرنسا بالتدخل المباشر لمنع الرئيس “سعيد” من استكمال الإجراءات الاستثنائية التي فرضها.
4- التحريض على الخروج في مظاهرات لإثارة الفوضى في الشارع، وذلك من خلال تحريض أنصارها على الخروج في أشكال احتجاجية ضد الرئيس “قيس سعيد”، حيث رفع المتظاهرون شعارات طالبت بإسقاط النظام السياسي القائم، متهمين الرئيس “قيس سعيد” بقمع الحريات وتجميع السلطات بين يديه؛ كما رفعوا شعارات أخرى منددة بتدهور الأوضاع المعيشية بسبب استمرار الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد.
5- تشكيل تحالفات وتكتلات سياسية مناوئة للدولة، إذ دأبت حركة النهضة في مرحلة ما بعد الإجراءات الاستثنائية التي تم فرضها في 25 يوليو 2021، على الدخول في تحالفات وتكتلات سياسية مع حزب قلب تونس وائتلاف الكرامة ثم مع جبهة الخلاص الوطني بزعامة “أحمد الشابي” و”حراك تونس الإرادة” و”الأمل”، وحراك “مواطنون ضد الانقلاب” في محاولة منها للعودة بالبلاد إلى مرحلة ما قبل 25 يوليو، ثم تطور الهدف من هذه التحالفات لمعارضة أي إجراءات أو سياسات يتخذها رئيس الدولة وحكومته برئاسة “نجلاء بودن” لعرقلة تنفيذ خريطة الطريق التي أعلنها الرئيس “سعيد” في 13 ديسمبر 2021 لإجراء الإصلاحات السياسية والدستورية التي بدأت بإجراء الاستشارة الإلكترونية، ثم الاستفتاء على الدستور في 25 يوليو الماضي، وصولاً إلى إجراء الانتخابات البرلمانية في 17 ديسمبر الجاري. وفي هذا الإطار، تواصل حركة النهضة تحالفاتها مع هذه الأحزاب والتكتلات بغرض عرقلة إجراء الانتخابات القادمة.
6- توظيف الأزمة الاقتصادية لتأليب الرأي العام الداخلي، تسعى حركة النهضة طوال الوقت لتوظيف الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في البلاد بهدف تأليب الرأي العام الداخلي ضد الرئيس “قيس سعيد” وإقناعهم بعدم جدوى المشاركة في الانتخابات البرلمانية التي سيتم إجراؤها بعد بضعة أيام، وظهر ذلك في أكثر من مناسبة، ومنها تصريحات “راشد الغنوشي” قبل محاكمته في قضية الفساد المتورط بها المعروفة باسم “إنستالينغو” وهي الشركة التي استخدمتها حركة النهضة في عام 2021 لتشويه صورة رئيس الدولة والإساءة إليه، حيث ادعى “الغنوشي” أن محاكمته بغرض التغطية على نقص المواد الأساسية في الأسواق، وأيضاً لصرف الأنظار عن الانتخابات التي سيتم تزييف نتائجها، وتهدف حركة النهضة من ذلك إلى تصدير أزماتها في ظل الملاحقات الأمنية والقضائية لقادتها بسبب قضايا الفساد المتورطين بها ومن أهمها الحصول على تمويلات خارجية للتأثير في الوضع الداخلي للبلاد وخاصة خلال فترة الانتخابات.
7- المطالبة بتغيير الحكومة الحالية لضعف أدائها في مواجهة الأزمات القائمة، تعمل حركة النهضة وجبهة الخلاص الوطني على إبراز ضعف الأداء الذي تتسم به الحكومة الحالية برئاسة “نجلاء بودن” وذلك من خلال التركيز في وسائل الإعلام على مدى ضعف الحكومة الحالية وخضوعها بالكامل لسلطة ونفوذ رئيس الدولة، لدرجة أنها أصبحت بلا صلاحيات تستطيع من خلالها أداء مهامها الموكلة إليها، حتى إنها عجزت عن حلّ مشكلة نقص السلع الغذائية داخل الأسواق، وهو ما دفع جبهة الخلاص الوطني للمطالبة بإسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة إنقاذ وطني قادرة على التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد.
إفشال الخطة
الخلاصة، تعكس الإجراءات التي تتخذها حركة النهضة لإرباك الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها بعد بضعة أيام في تونس، رغبة حقيقية من قبل الحركة وحلفائها من الأحزاب السياسية والتنظيمات المعارضة لعرقلة هذه الانتخابات، بغرض إفشال خطة الرئيس “سعيد” لإجراء تغيير جذري في الحياة السياسية لا تتصدر فيها حركة النهضة المشهد السياسي المقبل، وهو الدافع الحقيقي الذي يفسر محاولات حركة النهضة لعرقلة هذه الانتخابات. وفي ضوء ما سبق، ورغم الحديث عن ضعف المكانة الحالية لحركة النهضة في المشهد السياسي الراهن، إلا أنه لا يمكن استبعاد احتمالات تأثير تكتيكات حركة النهضة سلباً على توجهات بعض الناخبين في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وهو ما يمكن أن يؤثر سلباً على نسبة المشاركة فيها.