سياسات مرنة:
ما هي الملفات الاقتصادية التي ستركز عليها الحكومة التركية الجديدة؟

سياسات مرنة:

ما هي الملفات الاقتصادية التي ستركز عليها الحكومة التركية الجديدة؟



إن فوز “أردوغان” بفترة رئاسية جديدة وتغييره غالبية الوزراء خاصة في الحقائب الاقتصادية، يُرّجح اتّباع أنقرة سياسات نقدية ومالية وتجارية مرنة تمكنها من تعزيز اقتصادها المتراجع، وذلك بالتركيز كأولوية على احتواء معدل التضخم وسعر صرف الليرة مع الرفع التدريجي لسعر الفائدة كثلاثي محوري لتعزيز الوضع النقدي والمالي، والاتجاه لتعزيز التبادل التجاري مع دول الشرق الأوسط، ودول الخليج تحديداً، فضلاَ عن زيادة ثقلها الإقليمي والدولي عبر مشاريع إقليمية في مجالي الربط البري بين الشرق والغرب وتأمين إمدادات الطاقة العالمية، في محاولة لملء الفراغ الاقتصادي الناتج عن الصدمات العالمية الأخيرة.

فقد أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” خلال مؤتمر صحفي في 3 يونيو 2023، عن تشكيلة الحكومة التركية الجديدة رقم 67، والتي تضمنت تعيين 15 وزيراً جديداً من أصل 17 في الحكومة المؤلفة، ولعل الحقائب الوزارية الاقتصادية محل اهتمام العديد من المراقبين، نظراً لحاجة “أردوغان” لدعم الاقتصاد التركي المتراجع، والتي كانت من أبرز وعوده الانتخابية بعد فقدان جزء كبير من شعبيته على خلفية تدهور الأوضاع المعيشية للمواطنين الأتراك.

جدير بالذكر أن الفريق الاقتصادي الوزاري مكون من 9 وزارات (انظر شكل رقم 1)، تم تعيين 8 وزراء جدد مع الإبقاء على “محمد نوري أرصوي” وزيراً للثقافة والسياحة، كما تم تغيير اسم وزارة البيئة والتخطيط العمراني إلى وزارة البيئة والتخطيط العمراني والتغير المناخي، وفي سياق متصل عيّن “أردوغان” الدكتورة “حفيظة أركان” رئيسة للبنك المركزي، لتكون أول امرأة تتولى هذا المنصب في تركيا.

شكل (1): أسماء الوزراء الذي تولوا الحقائب الاقتصادية في الحكومة التركية رقم 67

(Source: www.tccb.gov.tr)

أولويات التحرك

إن التحول المرتقب من تغيير قيادات الوزارات الاقتصادية من المفترض أن يركز على الملفات الاقتصادية ذات الأولوية، والتي تتشابك لتحفيز وتطوير الأسواق التركية الرئيسية، سواء سوق السلع أو سوق المال أو سوق العمل، وذلك على النحو التالي:

1- السيطرة على ثلاثي عناصر استقرار سوق النقد: يواجه الوضع الداخلي التركي تراجعاً بسبب عدم التناسق في السياسات النقدية المعنية بسعر الصرف، وسعر الفائدة، والتضخم؛ حيث أدت سياسة ضغط الرئيس “أردوغان” على البنك المركزي التركي لخفض سعر الفائدة بشكل رئيسي إلى ارتفاع معدل التضخم، مع الأخذ في الاعتبار أن الحرب الروسية-الأوكرانية كانت أحد عناصر تعميق ذلك الخلل الذي أدى إلى تراجع كافة المؤشرات السابقة (انظر شكل 2).

شكل (2): تطور سعر صرف الليرة والتضخم وسعر الفائدة خلال الفترة (يناير 2022 – مايو 2023)

(المصدر: بيانات البنك المركزي التركي).

تُعد السيطرة على التضخم إحدى أولويات الحكومة والبنك المركزي، وهو ما أكّد عليه نائب رئيس الجمهورية “جودت يلماز”، بأنه سيضع مكافحة التضخم في صدارة الأولويات، وسيعير اهتماماً خاصاً بمسألة تحسين بيئة الاستثمار خلال عمل الحكومة الجديدة، فضلاً عما أكده وزير المالية والخزانة “محمد شيمشك” بضرورة مكافحة التضخم، مشدداً على أنه لم يعد هناك خيار سوى العودة إلى أساس منطقي في السياسات الاقتصادية لضمان القدرة على التنبؤ بتبعاته.

وتشير التصريحات السابقة إلى اتجاه السياسات النقدية والمالية للتركيز على احتواء التضخم عبر عدة أدوات على رأسها الاتجاه لرفع سعر الفائدة تدريجياً، وزيادة جذب الاستثمارات الأجنبية لزيادة المعروض النقدي من العملات الصعبة بما يؤدي لرفع قيمة الليرة، وبالتبعية خفض أسعار السلع التي يتم استيرادها (خاصة مصادر الطاقة والغذاء)، وسيكون لمجتمع الأعمال التركي دور رئيسي في هذا التحرك، وهو ما دلل عليه مؤخراً عقد عدة لقاءات بين رجال الأعمال الأتراك بنظرائهم السعوديين في يونيو الجاري، حيث عقدت غرفة جدة في 6 يونيو الجاري لقاء مع وفد جمعية رجال الأعمال والصناعيين الأتراك “موسياد”، كما استضافت غرفة مكة المكرمة في 8 يونيو ملتقى الأعمال السعودي التركي، في محاولة لضخ استثمارات سعودية في الداخل التركي.

 2- تعزيز التجارة مع دول الخليج: تسعى أنقرة لاستكمال وتعظيم الاستفادة من سياسة “صفر مشاكل” مع دول منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً دول الخليج، لتعزيز وتنسيق التعاون الاقتصادي في شتى المجالات، ولا سيما على مستوى التبادل التجاري بما يضمن تقليص فاتورة الاستيراد ودعم الصادرات لتلك الدول، ويُرى أنه لتحقيق ذلك قد تسعى أنقرة لتوقيع اتفاقات تجارة حرة مع دول الخليج، أو حتى اتفاقات تجارة تفضيلية، بما يعزز حركة التجارة معها. ولعل اتفاق الشراكة الشاملة الذي وقعته الإمارات وتركيا في مارس 2023 قد يتكرر مع بعض دول الخليج، وذلك لمحاولة الوصول للمستهدفات الطموحة التي تمت الإشارة إليها على النحو التالي:

توقع وزير الدولة الإماراتي للتجارة الخارجية “ثاني الزيودي” (في مارس 2023)، أن يشهد حجم التبادل التجاري بين البلدين نمواً يصل إلى أكثر من 40 مليار دولار سنوياً في غضون خمسة أعوام (من نحو 9.8 مليارات دولار في عام 2022).

2- أشار وزير التجارة التركي السابق “محمد موش” (في يونيو 2023)، إلى استهداف رفع حجم تجارة بلاده مع السعودية إلى 10 مليارات دولار خلال الأعوام المقبلة (من نحو 5.2 مليارات دولار في عام 2022).

3- توقع “يشار أوغلو” رئيس مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي السابق (في سبتمبر 2022)، أن يتجاوز حجم التجارة مع قطر 5 مليارات دولار بحلول 2025 (من نحو 2.2 مليار دولار في عام 2022).

تعد إحدى أدوات تعزيز العلاقات التركية-الخليجية الاقتصادية، والتي قد تتحرك أنقرة لتفعيلها خلال الفترة المقبلة، آلية الحوار الاستراتيجي التي أُنشئت بين تركيا ومجلس التعاون لدول الخليج العربي في 2 سبتمبر 2008، والتي عقدت 5 اجتماعات كان آخرها في 2016، ولا يستبعد أن يتم إعادة طرح إقامة منطقة تجارة حرة بين الجانبين، وهي التي تم التفاوض سابقاَ بشأنها بعد توقيع الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي بين دول المجلس وتركيا في مايو 2005، ويعزز من ذلك الطرح أن فائض الميزان التجاري بين تركيا ودول الخليج يصب في صالح الثانية (انظر الجدول 1)، بما يلقى قبولاً خليجياً.

(الجدول 1) فائض الميزان التجاري بين تركيا ودول الخليج
(Source: www.trademap.org)

تكشف البيانات السابقة أن إجمالي حجم صادرات تركيا لدول الخليج بلغ نحو 9.3 مليارات دولار في 2022، مقابل واردات بقيمة 11.8 مليار دولار، أي حققت عجزاً في ميزانها التجاري مع تلك الدول بنحو 2.5 مليار دولار، ويُرى أن أنقرة مستعدة لتغض النظر عن ذلك العجز في مقابل مصالح اقتصادية واستراتيجية أخرى ستستفيد منها من دول الخليج (مثل جذب الاستثمارات الأجنبية، ودفع الشركات التركية للعمل في دول الخليج..)، كما أن خفض الرسوم الجمركية قد يعزز من صادرات أنقرة لتلك الدول، بما يخفض من العجز التجاري مستقبلاً، لا سيما وأن القرب الجغرافي قد يسهم في زيادة تنافسية سلعها في الأسواق الخليجية.

3- تعزيز الثقل الإقليمي عبر المشاريع الإقليمية: تطمح تركيا في أن تكون مركز ثقل في الشرق الأوسط، وبما يدعم دورها في علاقاتها الدولية خاصة مع الاتحاد الأوروبي. ومن ملامح ذلك الطموح ما يلي:

1- التحول لمحور ربط إقليمي بين الشرق والغرب: ترى أنقرة أن موقعها الجغرافي يؤهلها لأن تصبح مركزاً لربط الطرق البرية وشبكات السكك الحديدية القادمة من الشرق للغرب، وذلك من خلال الربط السككي مع الصين، وباكستان وإيران، ودول وسط أسيا والقوقاز (انظر خريطة 1).

خريطة (1): مسارات الربط البري بين شرق ووسط أسيا مع تركيا

(Source: www.indiapakistantrade.org)

وفي السياق ذاته، قد تدعم أنقرة مسعى العراق للربط مع أوروبا عبر الأراضي التركية، ويعد “طريق التنمية” الذي اقترحته بغداد مؤخراً ضمن مسار الربط المقترح لربط العراق بأوروبا برياً (انظر خريطة 2)، بما يجعل تركيا منطقة عبور رئيسية للتجارة العالمية، وفي هذ الإطار قد تسعى أنقرة للدفع بتنفيذ تلك المشاريع التي ستوفر لها عائدات كبيرة من رسوم العبور.

(خريطة 2) مسار الربط البري المقترح بين العراق وأوروبا عبر تركيا

(Source: www.globalsecurity.org)

2- تركيا منطقة عبور لمصادر الطاقة لأوروبا: لا يزال النظام التركي يضع نصب عينه أن يصبح لاعباً فاعلاً في سوق الطاقة العالمية، ومع ضآلة مصادر الطاقة التركية، تركز أنقرة على أن تصبح مركزاً مهماً لتوزيع الغاز الطبيعي، ويعزز من ذلك دعم روسيا لذلك الأمر، وذلك وفق ما اقترحه الرئيس الروسي في أكتوبر 2022 بأن تصبح تركيا أكبر مركز إمداد للغاز لأوروبا في تركيا، وهو ما لقي قبولاً لدى الجانب التركي، خاصة وأنه قد يجعلها مركزاً لاستقبال وتوزيع الغاز للعديد من الدول وليس الأوروبية فقط، كما أن أنقرة تقع على تقاطع العديد من خطوط الغاز الطبيعي والنفط القادمة من عدة مناطق (انظر خريطة 3)، وتطل بواجهة بحرية على البحر المتوسط، ويمكنها من خلال بناء خط أنابيب مع إسرائيل أن تصبح منطقة عبور رئيسية لغاز البحر المتوسط لأوروبا.

خريطة (3): أبرز خطوط أنابيب الغاز والنفط التي ترتبط بتركيا

(Source: https://intellinews.com)

إضافة إلى ذلك، يتمتع مضيقا البوسفور والدردنيل التركيان بأهمية كبيرة في عبور مصادر الطاقة بين الشرق والغرب، ولعل واقعة تكدس ناقلات النفط عند مدخل مضيق “البوسفور” في ديسمبر 2022 لرفض السلطات التركية السماح بمرورها دليل على تلك الأهمية. وجدير بالذكر أن نحو 3 ملايين برميل من النفط الخام يمر يومياً من خلال مضيقي البوسفور والدردنيل (وفق معهد الطاقة لجنوب شرق أوروبا)، بما يزيد من الأهمية الاستراتيجية لتركيا في تأمين إمدادات الطاقة العالمية.

ملء الفراغ

في الختام، تسعى أنقرة لتوظيف مقومات موقعها الجغرافي وعلاقاتها الإقليمية والدولية في تعزيز اقتصادها المتراجع، مع الأخذ في الاعتبار أن البيئة الإقليمية والدولية الحالية جاهزة لدور تركي متزايد لملء الفراغ في العديد من المجالات، حيث إن مرونة أنقرة تؤهلها للعب دور أكبر في سوق الطاقة العالمية التي شهدت العديد من الصدمات، كما أن تقدمها في العديد من المجالات وموقعها الجغرافي يدعم تحركاتها في لعب دور أكبر في سلاسل الإمداد العالمية، وسيكون ذلك شريطة تعزيز الاقتصاد التركي، مما يحفز العديد من الدول لضخ استثمارات في تركيا للاستفادة من ارتدادات ذلك على مصالحها الاقتصادية، إلا أن ذلك سيرتهن بأبعاد سياسية.