رسائل سياسية:
ما دلالات التحركات العسكرية الأمريكية على حدود سوريا والعراق؟ 

رسائل سياسية:

ما دلالات التحركات العسكرية الأمريكية على حدود سوريا والعراق؟ 



تُثير التحركات العسكرية الأمريكية الأخيرة، على طول الحدود بين سوريا والعراق، قدراً كبيراً من الاهتمام، خاصة أن عدداً من المؤشرات اللافتة تؤكّد أن هذه التحركات ليست اعتيادية، بقدر ما تشير إلى توجيه رسائل محددة إلى اللاعبين الدوليين على الساحتين السورية والعراقية، في إطار المحاولات الأمريكية للتضييق على روسيا في مناطق نفوذها، فضلاً عن قطع طرق الإمداد اللوجيستي الإيراني عن المليشيات التابعة لها هناك. وتأتي التحركات العسكرية الأمريكية في ظل ما يتردد إعلامياً حول “عقيدة بايدن”، التي تؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست لديها النية في سحب قواتها العسكرية من سوريا، أو من العراق، خاصة أن التحركات العسكرية الأخيرة تمت في شمال شرق الفرات حتى قاعدة “التنف” بالقرب من المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن.

فقد ظهرت عدة مؤشرات لافتة تتعلق بتعزيز التواجد العسكري الأمريكي في سوريا والعراق، خلال الأشهر الأخيرة عموماً، وفي نهايات أغسطس وبدايات سبتمبر الجاري بوجه خاص، لعل أهمها هي التالي:

مؤشرات لافتة

1- حركة نشطة للتحشيد العسكري على حدود سوريا والعراق: إذ تتواتر الأنباء عن حركة نشطة لطائرات الشحن العسكري الأمريكية في قاعدة عين الأسد العراقية، وعن نقل أرتال عسكرية وأسلحة وذخائر من العراق إلى الحسكة السورية، وإلى قاعدة التنف الاستراتيجية. هذا بالإضافة إلى التحشيد الواضح الذي يتم في منطقة القائم العراقية والبوكمال السورية.

كما قامت القوات الأمريكية أيضاً بإجراء عدد من التدريبات والمناورات المشتركة مؤخراً، مع “وحدات كردية” في منطقة القامشلي، تم خلالها استخدام الأسلحة الثقيلة ومضادات الطيران والعربات المدرعة. وكانت قاعدة الشدادي بريف الحسكة قد شهدت تدريباً أمريكياً آخر، في منتصف أغسطس الماضي، يتضمن تدريبات على الأسلحة الثقيلة والطيران الحربي والمروحي.

2- زيارة مسؤولين عسكريين أمريكيين للمنطقة: حيث إن الولايات المتحدة تقوم بتعزيز تواجدها العسكري في الشرق الأوسط بشكل عام، من خلال إعلان البنتاغون عن إرسال طائرات حربية متطورة، من طراز “F-35″، و”F-16″، فضلاً عن إعلان الأسطول الخامس الأمريكي عن وصول أكثر من 3000 جندي أمريكي، في إطار خطة أمريكية لتعزيز تواجدها في المنطقة.

ولعل هذا يتواكب مع زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، مارك ميلي، للأردن، في 23 أغسطس الماضي، وتصريحاته لقناة “المملكة”، في مقابلة خاصة، أشار فيها إلى أن “منطقة الشرق الأوسط مهمة جداً جداً للولايات المتحدة”، مؤكداً أنه لا يتصور “أن تتخلى الولايات المتحدة عن الشرق الأوسط أبداً”، بالإضافة إلى إشارته للتهديد الذي يُشكله “بعض إرهابيي تنظيم (داعش) الذين يجوبون صحراء سوريا وإلى حد ما العراق على الأردن”.

3- التوتر الروسي الأمريكي في منطقة الحدود السورية العراقية: فالمنطقة التي تقع على جانبي الحدود بين سوريا والعراق عموماً، وفي شرق سوريا على وجه الخصوص، لم تكن بعيدة عن مناخ التوتر، طوال السنوات الماضية، بين الولايات المتحدة من جانب، وروسيا وإيران من جانب آخر. رغم ذلك، فإن التحركات الأمريكية، وما يتوازى معها من تحركات روسية إيرانية، تُنذر بتصعيد وشيك في المنطقة، بل وتتجاوز قواعد الاشتباك المعمول بها خلال الفترة الماضية، نتيجة تداخل مناطق نفوذ هؤلاء اللاعبين.

ولعل ذلك ما يبدو بوضوح عبر الاتهامات من كل من الجانبين، الأمريكي والروسي، بشأن التفاعلات العدوانية لطائراتهما، خاصة في الأجواء السورية، ومنها إعلان الولايات المتحدة عن “سلوك غير آمن وغير مهني” للطيران الروسي، وإعلان موسكو عن “اقتراب خطير” لمقاتلة أمريكية من طراز “F-35″، من مقاتلة روسية من طراز “سوخوي 35”.

4- تزامن التحركات الأمريكية مع احتجاجات السويداء السورية: إذ إن التوقيت في التحركات العسكرية الأمريكية، خاصة في شرق سوريا، هو توقيت لافت من حيث تزامنه مع الاحتجاجات في السويداء السورية، التي وإن كانت قد بدأت بتأثير عوامل اقتصادية، بعد إلغاء الدعم الحكومي للمحروقات، وارتفاع كلفة النقل العام، وغلاء أسعار المواد الأولية، إلا أنها سرعان ما تحولت إلى مطالبات سياسية.

والملاحظ أن هذه المطالبات بدأت من المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي (رقم 2254)، ووصلت إلى المطالبة بتطبيق اللا مركزية، تلك التي يُقصد بها “إدارة ذاتية على نسق الإدارة الكردية”، المدعومة من الأمريكيين في شمال شرق البلاد. ولعل هذا ما يشي باحتمال أن تستهدف التحركات الأمريكية تحويل احتجاجات السويداء إلى مطالب بالانفصال.

دوافع متشابكة

تستند التحركات الأمريكية إلى عدد من الدوافع، التي تكشف عن رغبة واشنطن في ترسيخ وجود قواتها على الحدود بين سوريا والعراق لفترة طويلة، ولعلّ أهمها هي ما يلي:

1- التضييق على القوات الروسية في مناطق نفوذها: حيث يتبدى أن تطورات الحرب الروسية الأوكرانية، وتأثيراتها المتصاعدة على الولايات المتحدة الأمريكية، وحلف الناتو عموماً، تفرض إعادة تموضع ومحاولة فرض موازين جديدة في السياسات الخارجية الأمريكية بالشرق الأوسط، وخاصة في سوريا والعراق، من أجل رفع تكلفة الاستراتيجية الروسية، سواء في أوكرانيا، أو من خلال تواجدها في الساحة السورية.

ولعل هذا الاستهداف الأمريكي ينبني على ما تُشير إليه تقارير متعددة، من أن الولايات المتحدة تمتلك 28 قاعدة داخل سوريا، منها 24 قاعدة عسكرية، و4 قواعد لوجيستية، فضلاً عن تواجد نحو 2000 جندي أمريكي في الداخل السوري. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة قامت ببناء قاعدة عسكرية جديدة بمنطقة السويدية، في ريف الرقة الغربي، بالقرب من مدينة الطبقة، وأيضاً قامت بتجهيز قاعدة أخرى عند مدخل الرقة الجنوبي.

2- قطع طرق الإمداد اللوجيستي الإيراني: إذ يأتي هذا الاستهداف الأمريكي عبر تكثيف القوات الأمريكية لتواجدها في منطقة القائم الحدودية بين العراق وسوريا، لقطع طرق الإمداد اللوجيستي والعسكري الإيراني، وتحديداً طريق “طهران بيروت” الذي يمر عبر العراق إلى معبر البوكمال، ومروراً بمدن دير الزور وحلب في سوريا، ثم إلى لبنان.

ولا يتوقف الاستهداف الأمريكي عند هذا الحد، بل يستهدف التضييق على الأذرع الإيرانية، بعد أن تجرأت واتخذت مواقف قتالية ضد القوات الأمريكية، إذ يبدو أن التحركات الأمريكية تهدف إلى استنزاف هذه المليشيات، وإرباكها، والتمهيد لإضعاف النفوذ الإيراني في الداخل السوري، عبر تهديد مساراتها وطرق إمدادها، خاصة في ظل الرؤية الأمريكية بأن الحدود بين سوريا والعراق هي “الحبل السُري” لتلك المليشيات.

3- إحداث تغيير هيكلي في بِنَى الفصائل المسلحة: إذ يتضح من خلال إجراءات التقارب مع المكون العربي، في مناطق شرق الفرات، أن الهدف هو محاولة استقطاب هذا المكون، في خطوة يُراد منها إحداث تغيير ديموغرافي وهيكلي في بِنَى الفصائل المسلحة، خاصة أن الأكراد كانوا العنصر المهيمن على هياكل الإدارة الذاتية لهذه الفصائل، وعلى أجنحتها العسكرية.

والملاحظ أن الغرض الأمريكي من خطوة كهذه، هو إرضاء المكون العربي الذي يشكو من سيطرة الكرد على مناطق شرق سورية، وفي الوقت نفسه اتخاذ إجراء تحوطي لمنع جهود روسيا وإيران والحكومة السورية من النجاح في تحريض المكون العربي ضد القوات الأمريكية. هذا إضافة إلى اعتقاد واشنطن بأن العرب “السُنَّة” أصحاب مصلحة في طرد المليشيات الإيرانية من مناطقهم.

4- توجيه رسائل إلى كافة الأطراف في سوريا والعراق: حيث يبدو أن المنطقة برمتها مُقبلة على تطورات مهمة، فإلى جانب المحاولات الروسية والإيرانية في إيجاد مصاعب ومعوقات للتواجد الأمريكي في شرق سوريا، وكذلك محاولات التوافق الروسي التركي، فضلاً عن توجهات الانفتاح بين أنقرة ودمشق، يبدو القلق الأمريكي. لذا، تبدو التحركات العسكرية الأمريكية، والترتيبات الأمنية، وكأنها بمثابة رسائل إلى كافة الأطراف في الأزمة السورية.

وكما يبدو فإن أهمية هذه الرسائل تتضح من خلال ما يستشعر به صانع القرار الأمريكي من مخاطر “التوافق الرباعي”، الذي قد يطال مناطق شرق الفرات، خاصة أن أطراف هذه الرباعية (روسيا، وتركيا، وإيران، وسوريا) ترفض مشروع الإدارة الذاتية الكردية، واعتباره مشروعاً انفصالياً. أضف إلى ذلك، أن واشنطن تتوجس من عودة شرعية الأسد إقليمياً، بعد عودة سوريا إلى الجامعة العربية، والتي قد تُشكل ضغوطاً على تواجد القوات الأمريكية في شرق سوريا.

هدف مستقبلي

في هذا السياق، يمكن القول إن التحركات العسكرية الأمريكية، على حدود سوريا والعراق، من النواحي التكتيكية والعملياتية، هي إشارة إلى احتمالات تشي ببقاء هذه القوات فترة طويلة في سوريا وفي العراق، كما تؤكد على عدد من الدلالات، أهمها الضغط على الجماعات المسلحة هناك، من خلال تكثيف التواجد العسكري الأمريكي، وتضييق هوامش الحركة والمناورة بالنسبة إلى هذه المليشيات.

هذا فضلاً عن المحاولات الأمريكية في إرسال مجموعة من الإشارات التي تتعلق بجاهزية القوات الأمريكية، وإمكانياتها في ردع أي مساعٍ استفزازية من أيٍ من الأطراف المتداخلة في الأزمة السورية، وهو ما يعني أن الاستهدافات الأمريكية في سوريا تضع نصب أعينها كـ”هدف مستقبلي” عالم ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يمكن أن تُصبح سوريا ساحة قادمة للمواجهة بين معسكرين دوليين متضادين.