تتعدد “مؤشرات” الانقسام العراقي إزاء حرب غزة، بين التغير الحاصل في لهجة الخطاب الرسمي للحكومة العراقية، وبين اختلاف مواقف الفصائل المسلحة، خاصة تلك التي لها علاقة بإيران، عن الموقف الرسمي للحكومة العراقية، فضلاً عن الاختلاف الواضح بين المكونات المجتمعية داخل العراق. ومثلما تتعدد المؤشرات تتعدد أيضاً “العوامل الدافعة” إلى هذا الانقسام، بين كثرة وانتشار الفصائل المرتبطة مع طهران، وبين نمط هذه الفصائل العابر للحدود، بل العابر للدولة العراقية نفسها، إضافة إلى التدهور المتوقّع في حال انخراط الفصائل العراقية المسلحة في حرب غزة ضد الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي خطوةٍ تبدو لافتة، يقوم رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، بجولة إقليمية، بدأها بزيارة طهران، في 6 نوفمبر، ويتبعها عدة عواصم عربية في الخليج، تتمحور حول تطورات الحرب الدائرة في غزة. واللافت في هذه الجولة أنها تأتي على خلفية الانقسام الحاصل في الداخل العراقي بخصوص الحرب في غزة؛ فقد فرضت هذه الحرب تداعياتها القوية على العراق مثل تداعياتها على دول عربية وإسلامية متعددة. إلا أن تلك التداعيات قد تجاوزت في العراق المواقف الرسمية والشعبية للعراقيين الرافضة للحرب والعدوان على قطاع غزة، لتشمل مواقف -وهذا هو اللافت في الأمر- ذات بعد عسكري، يختص بالفصائل العراقية المسلحة، التي تُقدم نفسها على أنها جزءٌ من “محور المقاومة” الذي يتمدد في دول أخرى بالمنطقة.
مؤشرات عينية
تتعدد المؤشرات الدالة على الانقسام في الداخل العراقي، بخصوص الحرب على غزة، ولعلّ أهمها يبدو كما يلي:
1- التغيير في لهجة الخطاب الرسمي العراقي: وهو ما يبدو عبر تراجع الخطاب الرسمي في التعبير عن حرب غزة، من الحدة إلى نوع ما من التوازن. ففي البداية، أحدثت عملية “طوفان الأقصى” ردود فعل فورية قوية بالنسبة إلى الحكومة العراقية؛ حيث اعتبرت الحكومةُ العمليةَ العسكريةَ التي قامت بها حماس ضد إسرائيل هي “نتيجة طبيعية للقمع الممنهج الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، منذ عهود مضت، على يد الاحتلال الإسرائيلي”. بل إن رئيس الوزراء السوداني، استخدم في خطابه أمام “مؤتمر القاهرة للسلام”، في 21 أكتوبر الماضي، عبارات شديدة اللهجة، حيث وصف الهجمات الإسرائيلية على غزة بـ”الجريمة” و”الإبادة الجماعية”.
لكنّ هذا الخطاب قد تراجع إلى محاولة إظهار التوازن بالنسبة إلى مصالح الدولة العراقية؛ إذ تحدث السوداني خلال مؤتمر السفراء السابع، المنعقد في بغداد، بتاريخ 4 نوفمبر الجاري، عن أن “الحكومة هي من تُقرر موقف العراق من أي حدث أو ظرف إقليمي، وهي المسؤولة عن اتخاذ القرارات الكبيرة”، في إشارة واضحة ضد توجهات بعض الفصائل العراقية المسلحة، بالانخراط في حرب غزة.
2- اختلاف مواقف الفصائل عن الموقف الرسمي: ويبدو هذا الاختلاف بوضوح، ليس فقط عبر التغيير الحاصل في لهجة الخطاب الرسمي العراقي، بخصوص الحرب على غزة؛ ولكن أيضاً في إعلان بعض الفصائل العراقية ما أسمته “تحرير العراق عسكرياً”. فبعد يوم واحد من إعلان الحوثيين في اليمن شن المزيد من الهجمات على إسرائيل، أعلنت “حركة النجباء”، وهي أحد الفصائل المسلحة العراقية، ما قالت إنه “تحرير العراق” من بوابة الاستهداف المُعلن للوجود العسكري الأمريكي في البلاد.
ورغم تبرير ذلك بأنه يأتي رداً على “دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في عدوانها على غزة”؛ إلا أنه يُعبر -في الوقت نفسه- عن مدى الاختلاف الحاصل جذرياً بين موقف الفصائل المسلحة في العراق من الحرب على غزة، وبين الموقفين الرسمي والشعبي بشكل عام، حيث تتصرف تلك الفصائل بمعزل عن الدولة والحكومة، هذا رغم أن جميع هذه الفصائل تقريباً تنخرط ضمن مظلة قوى “الإطار التنسيقي” الذي يُشكل حكومة السوداني.
3- الاختلاف بين المكونات المجتمعية العراقية: إذ يأتي الخلاف داخل ما يمكن تسميته “البيت الشيعي” في الداخل العراقي، ليُضاف إلى عددٍ من الخلافات بين الفئات المجتمعية العراقية، بخصوص الحرب في غزة. ففي شأن كيفية مواجهة تداعيات هذه الحرب، وفي ظل “صمت الرفض” للانخراط في الحرب الذي ينتاب المكونات السُنية والكردية، فقد انعكس الخلاف الشيعي على عدم قدرة البرلمان على عقد جلسة تلبية لدعوة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بشأن إصدار قرار برلماني بغلق السفارة الأمريكية في بغداد، رغم جمع التوقيعات اللازمة لعقد الجلسة.
والمُلاحظ أن هذا الخلاف بين الصدر وأتباعه، وبين قوى الإطار التنسيقي الشيعي، في أن هذه الأخيرة تريد الاكتفاء بإخراج الأمريكيين من العراق بالوسائل الدبلوماسية، مع إبقاء السفارة؛ من حيث إن قوى الإطار ترى أن غلق السفارة يُعد بمثابة “إعلان حرب” ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يضع العراق أمام مجموعة من الإشكاليات التي يصعب الخروج منها.
عوامل رئيسة
مثلما تتعدد المؤشرات الدالة على الانقسام العراقي، بخصوص الحرب في غزة، تتعدد أيضاً العوامل الدافعة إلى مثل هذا الانقسام، تلك التي يبدو أهمها كما يلي:
1- انتشار الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران: فمع نهاية عام 2017، وبعد إعلان القضاء على تنظيم داعش، نشطت عشرات الفصائل العراقية المسلحة، وأبرزها تلك المرتبطة بإيران؛ خاصة أن تلك الفصائل قد جرى تأطيرها ضمن الحشد الشعبي، الذي كان قد تأسس أثناء الفترة التي سيطر فيها داعش على أجزاء من العراق. ومع ما قامت به الفصائل من مواجهة داعش، والمساهمة في اندحاره، حصلت على تسليح ضخم ونفوذ واسع داخل العراق.
ورغم انهيار داعش فإن هذه الفصائل العراقية وجدت الفرصة في استمرار تواجدها، ضمن هذا المحور الذي يتمدد خارج العراق، في إطار ما يُطلق عليه “محور المقاومة”، والاحتفاظ بأسلحتها خارج إطار الدولة العراقية، فضلاً عن الاحتفاظ بهياكلها التنظيمية ومواردها المالية.
ولعل هذا الانتشار لتلك الفصائل لم يشكل تحدياً مستمراً للحكومات العراقية، حتى بعد إقرار شرعية الحشد الشعبي، واعتباره جزءاً من القوات الأمنية العراقية، منذ عام 2018، ولكنه أدى في الوقت نفسه إلى ما نراه حالياً من خلاف مع الحكومة العراقية، واختلاف مع الخطاب الرسمي العراقي الراهن بخصوص حرب غزة.
2- نمط الفصائل المسلحة العابر لحدود الدولة العراقية: حيث إن الفصائل المسلحة، في الداخل العراقي، تُمثل نمطاً من القوى العابرة لحدود الدولة العراقية؛ فهي تحتفظ لنفسها بالحق في اختياراتها وأجنداتها ومصادر قوتها، خارج رقابة الحكومة العراقية. وبالرغم من أن بعض هذه الفصائل يُعتبر جزءاً من تحالف القوى الشيعية الذي يستند إليه تشكيل حكومة السوداني الحالية؛ إلا أن قيادات مهمة في ذلك الحشد تتزعم بعض الفصائل التي تعمل بشكل منفرد بعيداً عن الحشد والدولة ورئيس الوزراء.
ولعل أهم هذه الفصائل التي تعمل بشكل منفرد، ولها ارتباطات وثيقة بإيران، هي كتائب “حزب الله العراقي”، الذي يتولى زعيمه (عبد العزيز المحمداوي)، منصب رئيس أركان الحشد الشعبي؛ إضافة إلى “حركة حزب الله النجباء”. ومن المعلومات المتوافرة، فإن كلاً من هذين الفصيلين على علاقة وثيقة عملياتية وتنظيمية مع حزب الله اللبناني، وقامت بمشاركة فعالة في الحرب الدائرة في سوريا إلى جانب الحكومة السورية.
ورغم اعتراض الحكومة العراقية، فإن سلوك هذين الفصيلين، باستهداف القوات الأمريكية في العراق وسوريا، يأتي كتأكيد على الاختلاف بينها وبين الحكومة العراقية، وأنهما يعتمدان على كونهما قوى عابرة لحدود الدولة العراقية، وبعيداً عن قراراتها الرسمية.
3- التدهور المتوقع للعلاقات مع الولايات المتحدة: إذ يمكن لاستمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أن يؤثر على عدد من دول المنطقة، خاصة تلك التي توجد في داخلها فصائل تمتلك قدرات عسكرية ونفوذاً سياسياً، مثل لبنان وسوريا والعراق، ومن ثمّ فإن مشاركة هذه الفصائل أو بعضها في الحرب ضد إسرائيل كما تُعلن وتتوعد، يعني انجرار هذه الدول إلى الحرب بشكل أو بآخر.
وبالرغم من أن العراق يبدو أقل حدة من لبنان وسوريا، على الأقل من منظور عدم وجود حدود مباشرة له مع إسرائيل؛ إلا أن انتقال بعض الفصائل العراقية المعنية بالحرب، إلى سوريا ولبنان للقيام بذلك، يعني أن إشكاليات هذه المشاركة سوف تقع على عاتق الحكومة العراقية، وأن التداعيات التي سيكون على الحكومة تحمّلها ليست بالهينة، خاصة أن الحكومة لن تستطيع منع هذه الفصائل من الحركة. وبالتالي فالتداعيات سوف تتعلق بشكل أساسي بالتدهور المتوقع للعلاقات مع الولايات المتحدة، بما يعنيه ذلك من متاعب سياسية واقتصادية على الحكومة العراقية مواجهتها، خاصةً أن جميع الأموال العراقية من مبيعات النفط محفوظة في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويمكن لواشنطن أن تقوم بتعطيل صرفها أو حجبها.
توازن حكومي
في هذا السياق، يُمكن القول إنه في ضوء العوامل الدافعة إلى حالة الانقسام في الداخل العراقي، بخصوص الموقف من الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، تبدو محاولة القرار الرسمي العراقي، الذي يتمثل في الحكومة العراقية، وفي رئيس وزرائها محمد شياع السوداني، في العمل على “التوازن” بين ما يفرضه الواقع السياسي والاقتصادي، وبين ما تحاوله بعض الفصائل المسلحة العراقية.
ولعل هذا التوازن تبدّى بشكل واضح في موقف السوداني، من خطاب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني؛ إذ جاءت تصريحات السوداني بشأن أن “الحكومة هي من تُقرر موقف العراق”، بعد أقل من يوم واحد من التحية التي وجهها نصر الله إلى “الفصائل العراقية حيال الحرب في غزة”؛ هذا فضلاً عن أن تأكيدات السوداني قد جاءت، في الوقت نفسه، بعد يومين من دعوة مقتدى الصدر 4 دول عربية للسماح لأنصاره بالوقوف سلمياً على حدودها، بهدف “إرسال مساعدات إلى أهالي غزة”.