اتجاه متصاعد:
ما تكتيكات تفكيك شبكات تمويل ودعم “داعش” في سوريا والعراق؟

اتجاه متصاعد:

ما تكتيكات تفكيك شبكات تمويل ودعم “داعش” في سوريا والعراق؟



تكتسب عمليات تفكيك شبكات التمويل والدعم اللوجيستي للتنظيمات الإرهابية، أهمية كبيرة ضمن استراتيجيات مكافحة الإرهاب، خاصة في ظل ما تتمتع به بعض التنظيمات من قدرة على التكيف، رغم الضربات العسكرية. فعلى الرغم من طرد تنظيم “داعش” من المدن التي كانت تحت سيطرته في نطاق “القيادة المركزية” بالعراق وسوريا؛ فإن استمرار عملياته ارتكز على شبكات التمويل والدعم رغم تأثرها، بما يستدعي عمليات نوعية لتفكيكها من خلال دعم “التحالف الدولي” لتفكيك الشبكات، وعدم الاقتصار على القيادات البارزة، وزيادة الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي، وتبادل المعلومات والتنسيق بين قيادة العمليات العراقية المشتركة لمواجهة تنظيم “داعش” وقوات “قسد، لضبط الحدود بين العراق وشمال شرق سوريا.

يتزايد الاهتمام بالعمليات الأمنية ذات الطابع الاستخباراتي لمواجهة تنظيم “داعش” في نطاق “القيادة المركزية” بسوريا والعراق خلال الفترة الماضية، جنباً إلى جنب مع العمليات العسكرية لملاحقة وتحجيم النشاط العملياتي للتنظيم.

وفي 6 أكتوبر 2022، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية استهداف قيادات لتنظيم “داعش” بسوريا، وكان أحد القيادات يدعى راكان وحيد الشمري، أحد مسؤولي التنظيم عن عمليات التهريب، سواء من الأسلحة أو المقاتلين، وهي عملية ضمن سلسلة عمليات للقوات الأمريكية خلال الأشهر القليلة الماضية لملاحقة قيادات التنظيم، أو تقديم دعم لعمليات أمنية لقوات “سوريا الديمقراطية” المعروفة بـ”قسد”، في حين كان التركيز الأكبر على تفكيك خلايا ومجموعات التنظيم التي تضطلع بتنفيذ عمليات إرهابية.

وفي السياق ذاته، وعلى مستوى الحالة العراقية، يمكن ملاحظة بروز نشاط للجهات الأمنية ممثلة في جهاز الأمن الوطني، الذي أعلن في بيان (12 أكتوبر 2022) تفكيك خلية إرهابية تنفذ عمليات لتمويل تنظيم “داعش”، كأحد مستويات عمليات المكافحة.

مواجهة حتمية

يمثل التمويل والدعم اللوجيستي أحد مقومات استمرار التنظيمات الإرهابية، وحالات التمرد المسلح، ضمن عوامل أخرى مثل: الجاذبية الأيديولوجية، وكاريزما القيادة، وبالتالي فإن تركيز الجهود على تفكيك شبكات التمويل والدعم اللوجيستي، يكتسب أهمية في ضوء المحددات التالية:

1- التحول إلى اللا مركزية داخل شبكات “داعش”: منذ فقدان تنظيم “داعش” الأراضي التي كانت تحت سيطرته في العراق وسوريا، عامي 2017 و2019 على التوالي، اتجه التنظيم إلى نمط لا مركزي في النشاط العملياتي، من خلال تقسيم عناصره إلى مجموعات وخلايا، بما يتناسب مع التحولات في المشهد الميداني، على وقع تزايد الضربات التي يتعرض لها التنظيم من خلال “التحالف الدولي” بدعم من الجيش العراقي من ناحية، وقوات “قسد” من ناحية أخرى.

ومع تشديد الإجراءات لضبط الحدود بين العراق وسوريا على الجانبين، ورغم توالي اختراقات التنظيم للحدود؛ إلا أنّ ثمة قدراً من عزل المجموعات بين الدولتين، بما يستدعي عمل شبكات التمويل والدعم اللوجيستي بشكل منفصل، والاتجاه إلى الاستفادة من مصادر التمويل المتاحة في كل دولة على حدة، خلافاً للنمط الذي كان سائداً عقب سيطرة التنظيم على حدود الدولتين، إضافة إلى أن نظام عمل الخلايا يحتاج إلى شبكات دعم وإمداد داخل المدن المختلفة، لإيواء تلك العناصر وتوفير المواد اللوجيستية والأسلحة، لمواصلة العمليات الإرهابية.

2- عامل رئيسي لاستمرار النشاط العملياتي: بالنظر إلى تأثير شبكات التمويل والدعم لتنظيم “داعش” على النشاط العملياتي، فبعد طرد عناصر “داعش” من الموصل عام 2017، بدا أن ثمة تراجعاً في النشاط العملياتي، بفعل فقدان مصادر التمويل الرئيسية المتمثلة في عوائد بيع النفط في السوق السوداء، والإتاوات على الشركات الكبرى. ولكن في المقابل، استمر النشاط في سوريا حتى عام 2019، بفضل الاحتياطات المالية التي كان يمتلكها التنظيم منذ تصاعد نفوذه عام 2014.

ورغم تراجع النشاط العملياتي خلال عام 2019، في ظل تفكك شبكات الدعم والتمويل، إلا أنه خلال عام 2020 بدا أن التنظيم يستعد لمرحلة جديدة، بعد تولي “أبو إبراهيم الهاشمي” قيادة التنظيم خلفاً لـ”أبو بكر البغدادي” الذي قُتل في أكتوبر 2019، وإعادة هيكلة التنظيم بما يتناسب مع طبيعة المرحلة الجديدة، وتصاعد النشاط العملياتي بداية من عام 2021، ولكن وفقاً لمنحنى متذبذب. وبشكل عام فإن توفير التمويل والدعم اللوجيستي منذ عام 2019، يمثل أساس استعادة التنظيم النشاط العملياتي، لاستقطاب عناصر جديدة، وهو ما اتضح من انضمام شباب من لبنان إلى التنظيم منذ صيف 2021، وقُتل بعضهم في العراق خلال يناير الماضي.

3- تداعيات استهداف القيادات البارزة بالتنظيم: تلجأ التنظيمات الإرهابية إلى إحداث تغييرات على أكثر من مستوى عند اعتقال قيادات بارزة، لتفادي تداعيات الإدلاء بمعلومات عن التنظيم، وكان أحد تلك القيادات هو “سامي جاسم الجبوري” عام 2021، باعتباره كان المسؤول الأول عن الأموال في “داعش”، فيما يُعرف بـ”أمير بيت المال”، وبالتالي فإنه من المتوقع أن يكون التنظيم قد أحدث تغييرات على مستوى هيكلة هذا القطاع، من خلال تصعيد قيادات جديدة، وتغيير مقرات إقامة بعض القيادات وطريقة توزيع الأموال، خاصة في ظل إدلاء “الجبوري” باعترافات تفصيلية عن التنظيم، إذ نشرت وسائل إعلام عراقية اعترافات “الجبوري”، وأن التنظيم كان يعتمد في تمويله على عوائد النفط، وفرض إتاوات على الشركات والتجار والمحلات التجارية، وأن جميعها كانت في منازل وأنفاق. وبفعل هذه التغييرات فإن التنظيم يحافظ على قدر من المرونة والتكيف، تستدعي تحركات من الجهات الأمنية والاستخباراتية لتحديث المعلومات حيال شبكات التمويل والدعم اللوجيستي.

4- إعادةُ ترميم وبناء الشبكات للتكيف مع التحولات الميدانية: وبقدر ما أظهر تنظيم “داعش” قدرة على التكيف منذ عام 2020، في ضوء التحولات التي شهدها التنظيم ميدانياً،فإنه أظهر قدرة على التكيف من خلال إعادة ترميم وبناء شبكاته، من خلال عدد من التحركات، أولاً: تعزيز التحالف مع عصابات التهريب، ويتضح من خلال تهريب شبان من لبنان إلى داخل سوريا عبر الحدود، من خلال تسهيل الانتقال عبر دفع مبالغ مالية. ثانياً: التكيف مع البيئة المحلية، فقد اتجه التنظيم إلى توفير مصادر تمويل من خلال النشاط الاقتصادي في البيئة المحلية التي ينشط فيها. فعلى سبيل المثال، لجأ إلى فرض إتاوات على رعاة الأغنام في منطقة البادية السورية، وأيضاً فرض إتاوات على تهريب السجائر، في حين يفرض إتاوات على أصحاب آبار النفط الصغيرة في منطقة شمال شرق سوريا.

أما ثالثاً: توفير غطاء شرعي لشبكاته للاختباء، حيث يتضح أن التنظيم منذ عام 2020 لجأ إلى زرع عناصره في أكثر من منطقة خارج نطاق النشاط العملياتي، لتشكيل قاعدة خلفية بغطاء شرعي. في سوريا على سبيل، تبين أن أحد القيادات المستهدفة من قبل القوات الأمريكية مطلع الشهر الجاري، كان يقيم في مناطق سيطرة النظام السوري بمحافظة الحسكة.

تكتيكات المواجهة

تشير قدرة تنظيم “داعش” على التكيف، في نطاق “القيادة المركزية” بسوريا والعراق، إلى ضرورة التركيز على تفكيك شبكات التمويل والدعم، دون الاقتصار على العمليات العسكرية فقط، بل الاهتمام بالعمليات الأمنية، وهو اتجاه متصاعد لتفكيك بعضها، كالتالي:

1- دعم “التحالف الدولي” لتفكيك الشبكات: على الرغم من توقف العمليات العسكرية للتحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” في العراق، بقيادة الولايات المتحدة، وانسحاب القوات نهاية عام 2021؛ إلا أن التحالف أعلن التزامه تقديم الدعم للقوات العراقية في مكافحة الإرهاب،سواء على مستوى التدريب أو الدعم العسكري بالأسلحة وقطع الغيار للطائرات. ويبرز إقدام “التحالف” وبالأخص الولايات المتحدة، على استمرار التعاون الاستخباراتي، على مستوى تفكيك شبكات التمويل والدعم اللوجيستي لتنظيم “داعش”، من خلال تحليل الشبكات الاجتماعية لعناصر التنظيم، سواء التي تعرضت للقتل خلال العمليات العسكرية للقوات العراقية، لكشف دوائر علاقات تلك العناصر، إضافة إلى استخلاص المعلومات من العناصر والقيادات التي تعرضت للاعتقال. وعلى مستوى الساحة السورية، فإن الولايات المتحدة لجأت إلى الانخراط بصورة أساسية في تفكيك الشبكات دون الاعتماد فقط على تصفية القيادات البارزة، أو قصف تمركزات تنظيم “داعش”، إذ إن إحدى العمليات الأخيرة تكشف التركيز على تفكيك شبكات الدعم، واستهداف أحد مهربي الأسلحة الذي كان يعمل تحت غطاء التجارة.

2- عدم الاقتصار على القيادات البارزة: بالنظر إلى تكيف “داعش” على مستوى إعادة ترميم وبناء شبكات الدعم مجدداً، خاصة في التأثيرات المحدودة لمقتل واعتقال القيادات البارزة سواء زعيم التنظيم أو قيادات الصف الأول على النشاط العملياتي وعمليات التمويل وتوفير المواد اللوجيستية لمواصلة النشاط الإرهابي؛ تبرز أهمية تفكيك تلك الشبكات رأسياً على مستوى التسلسل القيادي، لإحداث أكبر خلل في البنية التنظيمية لهذه الشبكات، إضافة إلى تفكيك الشبكات أفقياً على مستوى المجموعات المتعددة في النطاقات الجغرافية المختلفة، وهو ما يتضح مع إشارة تقرير صادر عن “التحالف الدولي” لمواجهة “داعش”، إقدام أجهزة الأمن العراقية على استئصال “عمليات تمويل داعش ذات النطاق الصغير”، إذ اعتقلت 4 أعضاء من خلية تجمع الأموال من سكان “نينوى” في يناير 2022.

3- زيادة الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي: تعتمد عمليات تفكيك شبكات التمويل والدعم لـ”داعش” بشكل أساسي على الجهد الاستخباراتي والمعلوماتي،وبالتالي فإن عملية تفكيك تلك الشبكات يتوقف على نجاحالاختراق الاستخباراتي وجمع المعلومات، من خلال الاعتماد على المدنيين في المناطق المحررة أو في المناطق التي يمارس فيها التنظيم نفوذاً، ولذلك يُعلن التنظيم بين حين وآخر عن قتل مدنيين بدعوى أنهم “جواسيس” لتعاونهم لنقل تحركات عناصر التنظيم، أو من خلال إعطاء أولوية لاعتقال القيادات والعناصر النافذة في التنظيم سواء العراق أو سوريا، إذ تتجه القوات الأمريكية إلى توسيع الاعتماد على نمط الإنزال الجوي في عملية استهداف القيادات خلال الأشهر القليلة الماضية، لاستخلاص المعلومات لفهم ورسم شبكات التنظيم تمهيداً لتفكيكها.

4- تبادل المعلومات بين العراق و”قسد”: يحقق تبادل المعلومات والتنسيق بين قيادة العمليات العراقية المشتركة لمواجهة تنظيم “داعش” وقوات “قسد، لضبط الحدود بين العراق وشمال شرق سوريا،في ضوء التقارب منذ العام الماضي، بعد زيارة وفد عراقي إلى مخيم الهول، والضغوط على التحالف الدولي لتفكيك مخيمات أسر عناصر “داعش”، فرصة لتفكيك شبكات التمويل والدعم وتهريب العناصر بين الحدود، وهو التنسيق الذي أشار إليه المتحدث باسم قيادة العمليات العراقية المشتركة، اللواء تحسين الخفاجي في سبتمبر الماضي، وتأكيده التعاون على مستوى الاستخبارات “لملاحقة الإرهابيين ومنع تسللهم والقبض عليهم، خاصة أن التعاون المشترك جعل من تسلل الحدود العراقية أمراً صعباً جداً لدى المجاميع الإرهابية”.

فاعلية متوقعة

وأخيراً، فإن الاتجاه المتصاعد لتفكيك شبكات التمويل والدعم اللوجيستي لمجموعات تنظيم “داعش” في نطاق “القيادة المركزية” في العراق وسوريا، يمكن أن يُسهم في تحجيم النشاط العملياتي، من خلال حرمان التنظيم من تدفقات الأموال على مستوى الشبكات الصغيرة داخل كل دولة، إضافة إلى جهود التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، بالتنسيق بين كل الدول الأعضاء لملاحقة الشبكات الدولية لدعم “داعش”، وتبادل المعلومات الاستخباراتية في هذا الإطار، خاصة وأن المتحدث باسم “داعش” دعا في كلمة صوتية مؤيدي التنظيم إلى الانضمام إلى “داعش” وتقديم تبرعات للتنظيم.