تنافس جيوسياسي:
ما الذي يدفع اليونان إلى التقارب مع الدول العربية؟

تنافس جيوسياسي:

ما الذي يدفع اليونان إلى التقارب مع الدول العربية؟



تمتلك اليونان روابط طويلة الأمد مع الدول العربية، كما أنها تتعاون معهم في مختلف المجالات؛ إلا أن التعاون الأبرز بات يظهر في منطقة شرق المتوسط التي تضم اكتشافات هائلة من الغاز الطبيعي، تُفضي إلى تحركات إقليمية تنطوي على إعادة تشكيل التحالفات بالمنطقة، وتغيير خريطة الصراعات، وكذلك التقاربات، بين دول الإقليم.

وفي هذا الصدد، وقَّعت اليونان مذكرة تفاهم مع جامعة الدول العربية في القاهرة بتاريخ 13 يوليو 2021، والتي تم التأكيد خلالها على وجود روابط وثيقة بين الطرفين، كما أنها حثّت كل طرف على دعم الآخر في القضايا الرئيسية، فضلًا عن دعمها مسألةَ إجراء مشاورات سياسية بينهما. ويلاحظ أن هذه المذكرة تعكس سياسات في الآونة الأخيرة بشأن التقارب مع مختلف دول الوطن العربي، وهو الأمر الذي يثير التساؤلات حول دوافع هذا التقارب، ومستقبل العلاقات بين الطرفين في ظل التطورات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة العربية ومنطقة شرق المتوسط.

دوافع التقارب

تعكس مذكرة التفاهم التي وقّعتها اليونان مع جامعة الدول العربية مؤخرًا اهتمام أثينا بتوسيع علاقاتها مع الدول العربية؛ إذ تتنوع الدوافع التي تُشجع اليونان على توطيد علاقتها مع دول المنطقة العربية ما بين دوافع سياسية واقتصادية وجيوسياسية، والتي يمكن بلورتها فيما يلي:

1- تعزيز النفوذ اليوناني: تسعى اليونان من خلال هذا التقارب إلى توسيع نفوذها على المسرح الدولي والعربي. فبالرغم من تعثر اقتصادها منذ بدء الأزمة المالية العالمية في عام 2007، وموقعها الهامشي كفاعل في دول الاتحاد الأوروبي؛ إلا أنها تمتلك موقعًا استراتيجيًا يمكن أن يُكسبها نفوذًا جيوسياسيًا أكبر؛ حيث تقع بين ثلاث قارات (إفريقيا وآسيا وأوروبا)، فضلًا عن تواجدها على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وامتلاكها ثلاثة موانئ يتم استخدامها لنقل البضائع والغاز والبترول لدول الاتحاد الأوروبي، ولذا تحاول اليونان أن تُظهر نفسها كحلقة وصل يمكن للدول العربية الارتكان إليها لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع دول الاتحاد الأوروبي.

فضلًا عما سبق، تمتلك اليونان علاقات دينية وثقافية قوية مع دول صربيا ومقدونيا الشمالية؛ لذلك قد تكون مدخلًا للتشجيع على تعزيز استثمارات الدول العربية في منطقة البلقان، وتطوير العلاقات مع السكان المسلمين في تلك الدول، ومن ثمَّ اكتساب نفوذ أكبر ومنافسة تركيا التي تشترك في نطاق جغرافي واحد مع تلك الدول.

2– توطيد التعاون العسكري مع الدول العربية: دأبت اليونان على تعزيز قدراتها العسكرية في الآونة الأخيرة؛ حيث تتجاوز نفقاتها العسكرية 2% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أنها اتخذت مؤخرًا مجموعة من القرارات التي تمثلت في الحصول على الطائرات الأمريكية الصنع المتقدمة F-35، وتوصلها إلى اتفاق مع فرنسا بشأن شراء طائرات “رافال” العسكرية، بجانب قيام فرنسا بدعمها ضد التحركات التركية عبر إرسال فرقاطات بحرية؛ مما يجعلها تمتلك قوة عسكرية يمكن الاعتماد عليها نسبيًّا من قِبل الحلفاء.

3– الخوف من فقدان الدعم الأمريكي: خلال جولة يونيو 2021 التي قام بها الرئيس الأمريكي “جو بايدن” في القارة الأوروبية لحضور عدة مؤتمرات، وعلى رأسها: قمة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وقمة الناتو؛ لم يذكر “بايدن” في بيان القمة الأوروبية الأمريكية كلمة “شرق المتوسط” غير مرة واحدة، كما أكّد أن السبيل الأمثل لحل التوترات في منطقة شرق المتوسط هو تعزيز لغة الحوار والدبلوماسية، ودعم علاقات التعاون وتبادل المنافع مع تركيا “الديمقراطية”.

هذا وقد ألحق “بايدن” التصريح بلقاء مع نظيره التركي “رجب طيب أردوغان” على هامش قمة حلف الناتو، في الوقت ذاته لم يلتقِ “بايدن” برئيس الوزراء اليوناني “كيرياكوس ميتسوتاكيس”، وهو أمر عكس اهتمامًا أمريكيًا بإصلاح العلاقات مع تركيا، واعترافًا ضمنيًّا بأهمية تركيا ودورها في منطقة شرق المتوسط أكثر من اليونان من جهة، كما أنه ساهم في تأجيج المخاوف اليونانية من إمكانية فقدان الدعم الأمريكي من جهة أخرى. وفي ضوء ذلك اندفعت أثينا بشكل أكبر لتوطيد علاقتها مع الفاعلين في منطقة الشرق الأوسط لمنحها دعمًا أقوى في مختلف قضاياها في حال تخلَّت الولايات المتحدة عنها.

4- التقارب مع دول الخليج العربي: يعد التوقيع على مذكرة التفاهم هو استكمال للخطوات التي تمت بين اليونان وغيرها من الدول العربية خلال العامين الماضيين؛ حيث وقَّعت اليونان والإمارات في نوفمبر 2020 على اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة تهدف إلى التعاون في مجالات التنمية والدفاع والسياسة والسياحة والطاقة والغذاء والزراعة والخدمات الرقمية والحكومية، وهو أمر يمكن ترجمته في رغبة الدولتين في التعاون من أجل مواجهة التحركات التركية في منطقة شرق المتوسط، فضلًا عن رغبة الإمارات في التقارب مع دول الاتحاد الأوروبي.

وبجانب الإمارات، تسعى اليونان لتعميق التعاون الأمني والسياسي مع السعودية؛ حيث تم تنفيذ تدريب عسكري مشترك بين القوات الجوية اليونانية والسعودية في مارس 2021، والذي يُعرف بـ”فالكون آي 1″، كما اتفقت أثينا مع الرياض في أبريل على إعارتها صواريخ باتريوت للمشاركة في حماية البنية التحتية السعودية من الهجمات الحوثية، بينما ستقوم الرياض بتمويل عملية تطوير تلك الأنظمة الصاروخية

وعليه، فمن المرجح أن تساهم تلك الاتفاقيات وغيرها في زيادة التعاون بين مجلس التعاون الخليجي واليونان، ومن ثمَّ منظمة الاتحاد الأوروبي، بجانب أنها دليل ضمني على أن أوروبا بصدد لعب دور أكبر في الصراعات الجيوسياسية بمنطقة الشرق الأوسط.

5- الحفاظ على المصالح الاقتصادية: إذ إن السياسة اليونانية تجاه الدول العربية مرتهنة بمحاولات أثينا للحفاظ على مصالحها، ولعل هذا ما كشفت عنه تطورات العلاقات اليونانية المصرية منذ عام 2014؛ حيث ساهمت اكتشافات الغاز المتلاحقة في منطقة شرق البحر المتوسط في تدعيم أواصر العلاقات بينهما، وشكَّلت مصر وقبرص واليونان تعاونًا هامًا في منطقة شرق المتوسط. كما تعاونت مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن وفلسطين في عام 2019 في تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط(EMGF) . كما تبادلت اليونان ومصر الزيارات الرسمية لمناقشة سبل التعاون بين البلدين، وكيفية تنمية منتدى غاز شرق المتوسط.

6- احتواء التوترات التي تُثيرها تركيا: ساهمت التطورات التي أعقبت ما عرف بموجة الربيع العربي في عام 2011 -خاصة اكتشافات الغاز- في تغيير طبيعة الديناميكيات في البحر الأبيض المتوسط؛ حيث سعت أنقرة إلى كسب مساحات نفوذ أوسع، وتوترت العلاقات بدرجة أكبر بين أثينا وأنقرة مع مرور الوقت. فمثلًا، عملت تركيا على الضغط على اليونان من خلال ورقة اللاجئين، وقامت بدفع حشود منهم إلى الحدود التركية اليونانية في فبراير 2020، للضغط على دول الاتحاد الأوروبي بعد انتقاده للعمليات التركية العسكرية في شمال سوريا.

كما تزايدت التوترات في شرق المتوسط مع اتباع تركيا لاستراتيجية “مافي فاتان” Mavi Vatan أو “الوطن الأزرق” “Blue Homeland” التي تدور حول الاستفادة من النفط والغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط؛ حيث وقَّعت على اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع ليبيا في نوفمبر 2019، وشرعت في التنقيب عن الغاز في مناطق متنازع عليها مع اليونان وقبرص، الأمر الذي أفضى إلى تحرك السفن الحربية التركية واليونانية لمواجهة بعضهما، وتحفز السفن الفرنسية للرد على أي هجوم تركي.

وفي هكذا سياق، تطمح أثينا عبر توسيع علاقاتها مع الدول العربية، إلى موازنة النفوذ التركي، وربما زيادة الضغوط على أنقرة، واحتواء التوترات معها. وحتى إذا حدث تقارب بين تركيا والدول العربية، وفي مقدمتها مصر، فإن هذا الأمر قد يصب في صالح مصلحة أثينا؛ حيث ستلعب مصر دور الوسيط في إصلاح العلاقات بين البلدين.

سيناريوهات مستقبلية

يبدو مستقبل العلاقات اليونانية العربية مرهونًا بثلاثة سيناريوهات تتلخص فيما يلي:

1- زيادة متانة العلاقات العربية اليونانية: أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مناسبة عن رغبتها في تخفيف انخراطها في منطقة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يدفع الدول العربية، لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي، للبحث عن شركاء جُدد مثل اليونان وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي.

من جانب آخر، كانت العلاقات التركية العربية المتوترة داعمة للعلاقات العربية اليونانية؛ لذلك في حال بقيت الدول العربية واليونان على موقفها تجاه تركيا، فهذا يعني زيادة تقارب فيما بينهم؛ حيث سيكون التقارب بين اليونان وبقية الدول العربية هو إحدى وسائل الضغط على تركيا للعدول عن سياستها المثيرة للتوترات بالمنطقة، كما أنه سيكون مَعْبَرًا للدول العربية للاتحاد الأوروبي.

2- تراجع زخم العلاقات: في حال تغيرت الأوضاع، وعدَّلت أنقرة من سلوكها في المنطقة، وأكّدت الولايات المتحدة لحلفائها في المنطقة عدم استعدادها للتخلي عن دعمهم؛ فإن التحالف مع اليونان قد يفقد زخمه، خصوصًا أن قوتها لا تضاهي القوة الأمريكية، كما أن التقارب مع دول الاتحاد الأوروبي لن تكون له الأهمية الراهنة نفسها، فضلًا عن أن منطقة شرق المتوسط ستكون أكثر استقرارًا، لأن أنقرة ستتبع سلوكًا أكثر رشدًا.

3- التحرك وفق نهج براجماتي: ويفترض هذا السيناريو صياغة علاقات عربية متوازنة مع كافة الأطراف، ولعل هذا النهج من شأنه أن يُسهم في زيادة استقرار المنطقة العربية، ومنطقة شرق المتوسط، كما أنه قد يسهم في تخفيف التوترات القائمة بين اليونان وتركيا، فضلًا عن تعزيز النفوذ الجيوسياسي لبعض الدول العربية في منطقة البلقان، وكذلك بين دول الاتحاد الأوروبي.