تمكّن التيار الصدري، المعروف عنه معارضته للنفوذ الإيراني في العراق، من الفوز بالنسبة الأكبر في انتخابات الدورة البرلمانية الخامسة بالعراق التي أجريت يوم 10 أكتوبر الجاري، وهي تعد أول انتخابات مبكرة منذ إقرار الدستور عام 2005، حيث تقرر تبكيرها استجابة لمطالب احتجاجية دفعت في النهاية رئيس الوزراء السابق “عادل عبدالمهدي” لتقديم استقالة حكومته في عامها الأول (نوفمبر 2019)، وهكذا وُصفت هذه الانتخابات بأنها “فرصة تاريخية من أجل حدوث إصلاح شامل” كونها تسري كمتنفس للضغط الشعبي الواسع ورغبته في إصلاح مؤسسات الدولة. وبالرغم من ذلك، فقد عكست نسبة المشاركة المنخفضة في الانتخابات، والتي بلغت بحسب التقديرات الرسمية نحو 41%، تراجع ثقة الشارع العراقي في غالبية الأحزاب، وبوجه عام تراجع المراهنة على العملية السياسية لتحسين أوضاعهم.
سمات جديدة
شهدت هذه الدورة من الانتخابات التشريعية العراقية العديد من السمات الجديدة التي ميزتها عن سابقاتها، وتتمثل أهم هذه السمات فيما يلي:
1- القانون الانتخابي: فقد نُظمت الانتخابات التشريعية وفقاً لقانون انتخابي جديد، أقره البرلمان أواخر عام 2020، وبموجبه تم زيادة عدد الدوائر الانتخابية، حيث تم تقسيم البلاد إلى 83 دائرة بعد أن كان الاعتماد على جعل المحافظة الواحدة دائرة واحدة مقسمة لدوائر فرعية، كما نص القانون على تصويت أحادي، مما يفترض أنه شجع المستقلين والمرشحين المحليين وهو ما يحفظ للناخب العراقي صوته بعد أن كان خلال الدورات الانتخابية الماضية بمخرجاتها يذهب في دوامة الكتل والقوائم الانتخابية.
2- الانتخابات المبكرة: تعد تلك الانتخابات أول انتخابات تشريعية مبكرة تسبق توقيتها الدستوري بنحو 6 أشهر، وذلك استجابة لمطالب احتجاجات أكتوبر 2019 التي راح ضحيتها أكثر من 600 قتيل وآلاف الجرحى، ولم يرافق تلك الانتخابات حظر للتجوال يقيد حركة المارين والمركبات بين مناطق المحافظة الواحدة بخلاف الدورات السابقة.
3– الأجهزة المتطورة: لأول مرة أيضاً تم اعتماد أجهزة تقنية متطورة في عمليات العد وفرز الأصوات بالاعتماد على البطاقة البايومترية شديدة الدقة، وتم إعلان نتائج انتخابات الاقتراع الخاص والعام بعد 24 ساعة من إغلاق الصناديق، كما تعهدت مفوضية الانتخابات بذلك، حيث لم يسبق أن حدث هذا الإجراء طيلة الانتخابات الأربعة الماضية، فقد كان يستغرق فرز الأصوات بها أسابيع عدة.
4- غياب قيادات السلطة: حيث خلت الانتخابات التشريعية من حضور قيادات السلطة، وعلى وجه التحديد رئيس الدولة ورئيس الوزراء، ولم يترشح كل من الرئيس برهم صالح ورئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بها، مما سمح لهما بالتركيز على تحسين العملية الانتخابية بدلاً من التركيز على حزبهما أو حملتهما.
5- الرقابة الفعّالة: إذ كان الدور الأممي الفاعل هذه المرة في مراقبة العملية الانتخابية ومواكبتها وراء تبديد مخاوف المواطنين العراقيين المتعلقة بنزاهة الانتخابات، ولأول مرة منذ 16 عاماً جاءت الانتخابات في ظل وجود قضاة مستقلين وليسوا تابعين لأحزاب السلطة.
دلالات رئيسية
تنافس خلال الانتخابات التشريعية العراقية ما لا يقل عن 167 حزباً وأكثر من 3200 مرشح على مقاعد البرلمان وعددها 329 مقعداً، وقد أعلنت مفوضية الانتخابات المستقلة في العراق يوم 11 أكتوبر الجاري، النتائج شبه النهائية بفوز “الكتلة الصدرية” برصيد غير مسبوق من المقاعد يزيد ربما على 73 مقعداً، وجاء تحالف “تقدم” الذي يقوده رئيس البرلمان السابق “محمد الحلبوسي” في المركز الثاني بالنسبة للفائزين برصيد 43 مقعداً تقريباً. وحصل ائتلاف “دولة القانون” بزعامة نوري المالكي على 37 مقعداً، كما حصل “تحالف الفتح” على نحو 14 مقعداً، بعد أن كان يملك 47 مقعداً في الدورة الماضية، واستحوذت جماعات “حراك تشرين” والمدنيين على نحو 20 مقعداً.
وفي إقليم كردستان، تقدم الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ32 مقعدا محققاً سبعة مقاعد إضافية، فيما خسر الاتحاد الوطني الكردستاني مقعداً من مقاعده الـ18 محققاً 17 مقعداً، وخسرت حركة “التغيير” جميع مقاعدها الخمسة، بينما تمكنت حركة “الجيل الجديد” من مضاعفة عدد مقاعدها بحصولها على تسعة مقاعد، وتمكن الاتحاد الإسلامي من مضاعفة عدد مقاعده لتصبح أربعة، فيما حصلت الجماعة الإسلامية على مقعد واحد متراجعة بمقعد عن انتخابات عام 2018.
صحيح أن هذه النتائج قابلة لبعض التغير نظراً لكونها نتائج شبه نهائية؛ إلا أن التغير لن يكون كبيراً، وعليه تستدعي هذه النتائج عدداً من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1- مقاطعة للانتخابات: بالرغم من أن تلك الانتخابات تأتي استجابة لمطالب “انتفاضة تشرين”، إلا أنها شهدت مقاطعة واسعة من قوى الانتفاضة التي اعتبرت أنها لا تراعي متطلبات ضمان النزاهة وعدالة التنافس بين الكتل المشتركة، فضلاً عن عدم تحقيق الحكومة العراقية شروط الانتفاضة في حسم ملف قتلة المتظاهرين، وإنهاء ظاهرة السلاح خارج إطار الدولة، ولكنّ تمكُّن المدنيين بشكل عام من الحصول على عدد كبير نسبياً من المقاعد، وهو ما شكّل علامة فارقة في تاريخ الانتخابات العراقية؛ ربما كشف عن التوجهات الجديدة للمواطنين التي أخذت في الابتعاد شيئاً فشيئاً عن جماعات وأحزاب الإسلام السياسي المهيمنة منذ نحو عقدين، ويعيد رسم خارطة العمل البرلماني.
2- تغيرات بإقليم كردستان: بالرغم مما حققوه خلال تلك الانتخابات، فقد بدا واضحاً تدني نسبة المشاركة في الإقليم، حيث جاءت السليمانية -وهي أكبر محافظات الإقليم- في المرتبة الثانية بعد بغداد في تدني نسب المشاركة، الأمر الذي يثير القلق بالنسبة للأحزاب الكردية. وأوضحت نسبة المشاركة أن أكثر من 60% من الناخبين الكرد غير راضين عن أداء الأحزاب، لذا اختاروا عدم المشاركة، ومن المفاجآت التي شهدها الإقليم تصدر حركة الجيل الجديد بزعامة “شاسوار عبدالواحد” المشهد في السليمانية، وجاءت في المرتبة الثانية في أربيل، رغم أن الحركة حديثة الولادة وإمكاناتها بسيطة ولا تملك هيكلية حزبية مؤسساتية، وهو ما يعكس مزاج الشارع الكردستاني الذي يطالب الأحزاب الحاكمة بإجراءات فعلية لتحقيق الإصلاح وإنهاء الفساد.
3- تراجع شعبية الأحزاب الموالية لإيران: أبرز ما أتت به تلك الانتخابات، الهزيمة المدوية للأحزاب والتنظيمات المسلحة الموالية لإيران، وهو ما يُعد مؤشراً على عدم قبول الشارع لهذا المسار، حيث لم تستطع تحقيق الحد الأدنى الذي كانت تتوقعه، وأعلن عدد من قادة هذه القوى رفضهم للنتائج، وأكدوا سعيهم لفعل “كل شيء” في سبيل إلغائها، في إشارة إلى سعيهم بدء مرحلة التصعيد في الداخل العراقي، حيث أعلن القيادي في الحشد الشعبي “هادي العامري” -زعيم تحالف الفتح- رفضه النتائج الأولية للانتخابات، بعدما وصفها بأنها “مفبركة”، معلناً السعي بـ”كل ما هو ممكن لإلغاء هذه النتائج”. ويعد هذا الموقف من جانب زعيم تحالف الفتح بمثابة تصعيد استثنائي بوجه التيار الصدري وقوى الانتفاضة الشعبية العراقية، التي حصل مرشحوها على جميع المقاعد التي خسرها تحالف فتح.
4- تعزيز صلاحيات التيار الصدري: لا يمكن إغفال أن نتائج الانتخابات تعزز من نفوذ التيار الصدري، حيث أشار البعض إلى إمكانية استغلال التيار الصدري الفوز في تلك الانتخابات للسيطرة على منصب رئاسة الوزراء. وفي إزاء ذلك عزز التيار الصدري منذ فترة من فرصه لنيل هذا المنصب، من خلال تقديم وعود، حيث أعلن في 30 سبتمبر الفائت البرنامج الحكومي الخاص به حال الفوز، من بينها حصر السلاح بيد الدولة، ومكافحة الجريمة المنظمة، وتحويل أمن المدن إلى وزارة الداخلية، ومكافحة الفساد، والإصلاح الإداري، وتعزيز الصداقة الدولية، خلال 6 أشهر من عمر الحكومة.
وتماشت تلك التحركات مع محاولات التيار فتح قنوات حوار مع الغرب عبر دبلوماسيين بريطانيين وأمريكيين، عارضاً نفسه على أنه البديل المعتدل والفاعل في المشهد العراقي الشيعي، وصمام أمان من أن يصبح العراق الجسر المثالي لإيران للوصول إلى سوريا ولبنان والبحر المتوسط، وهو أمر لا تمانع واشنطن في التعاطي معه شريطة أن يواجه الزعيم الشيعي هيمنة مليشيات الحشد الشعبي على مقدرات الدولة العراقية.
ولكن يدرك التيار أن هذا المنصب يخضع لقائمة طويلة من الاشتراطات والتحالفات، وسبق أن كانت له تجربة مماثلة في هذا الاتجاه، حيث لم يتمكنوا من نيل منصب رئاسة الوزراء في انتخابات عام 2018 رغم حصولهم على أعلى عدد من المقاعد النيابية (54 مقعداً)، لذا قد تكون تعهداتهم الجديدة بهدف الصب في مسار حث أتباعهم على المشاركة الواسعة في الانتخابات، ولا تعني بالضرورة تمسكهم التام بمنصب رئاسة الحكومة المقبلة، فرئاسة الوزراء في العراق لا تتعلق بنتائج الانتخابات وحدها بقدر ما تتعلق بعوامل ومحددات خارجية، وفي مقدمتها التسويات الإيرانية-الأمريكية على القبول برئيس الوزراء الجديد. وبالرغم من ذلك، سيظل هو التيار الفاعل الأكثر تأثيراً في اختيار رئيس الوزراء القادم.
5- المكاسب المحتملة للكاظمي: على الرغم من عدم ترشح رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” في الانتخابات التشريعية العراقية، إلا أنّه ظل مهتماً بالاحتفاظ بمنصبيه، حتى إن إعلان “الكاظمي” (في 11 أكتوبر الجاري) القبض على “سامي جاسم الجبوري”، نائب زعيم داعش السابق “أبو بكر البغدادي”، كان محاولة منه لإثبات قدرته على إدارة شؤون الدولة، لتعزيز فرصه في الاستمرار بمنصبه، الأمر الذي يتطلب تصويت البرلمان الجديد والأحزاب السياسية الرئيسية.
ويُحتمل أن يكون لفوز التيار الصدري انعكاس إيجابي على فرص “الكاظمي” في الاحتفاظ بمنصبه، إذ من الممكن أن يتوصل التيار إلى اتفاق مع رئيس الوزراء “مصطفى الكاظمي” ينطوي على استمراره في منصبه نظير التزامه ببرنامج التيار الصدري، ولعلّ هذا ما ظهرت مؤشراته في الشهور السابقة على الانتخابات حينما أشارت تقارير إلى أن التيار الصدري أبدى دعمه للكاظمي لتولي رئاسة الوزراء مرة ثانية، مقابل الوثيقة الإصلاحية التي تضمنت تعهد الكتل السياسية التي تشكل مجلس النواب بعد الانتخابات التشريعية بتعديل الدستور العراقي، وضمان ونزاهة الانتخابات، وتُلزم الحكومة المقبلة بالسقف الزمني لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي بالعراق، وحصر السلاح بيد الدولة، وتجريم الخطاب السياسي الطائفي والعنصري وفق القانون.
تشكيل الحكومة
في النهاية، يمكن القول إن تركيبة البرلمان الجديد لن تسمح لأي كتلة بالانفراد بقرار تشكيل الحكومة من دون تشكيل تحالف لا يقل عن أربع كتل فائزة للحصول على صفة الكتلة الأكبر التي يمنحها الدستور حق تشكيل الحكومة، ومن المتوقّع -وفقاً للنتائج المعلنة- أن يكون “تكتل تقدم” الذي يقوده “محمد الحلبوسي”، والحزب الديمقراطي الكردستاني، سواء فرادى أو مجتمعين، هما “الكتلة الوازنة” في مفاوضات تشكيل الحكومة القادمة، خاصة إذا انضمت لهم حركة “امتداد” المدنية برئاسة الناشط “علاء الركابي”. وقد يأتي تشكيل الحكومة دون أي مشاركة من القوى السياسية أو الفصائل المسلحة المقربة من إيران، بما في ذلك ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء الأسبق “نوري المالكي”.