ما الذى أكدته زيارة بايدن للمنطقة؟ – الحائط العربي
ما الذى أكدته زيارة بايدن للمنطقة؟

ما الذى أكدته زيارة بايدن للمنطقة؟



اختتمت زيارة الرئيس الأمريكى بايدن للمنطقة، وتراجعت الضجة الوهمية التى أحاطت بها قبل وخلال الزيارة واتضحت أبعادها الفعلية، وفى الواقع إن نتائج الزيارة بالغة الأهمية والدلالة فيما كشفته وأكدته حول التطورات العميقة التى يشهدها العالم والإقليم الذى نعيش فيه، وربما يستحق تأمل هذه الدلالات الكثير من الوقت والتحليل، ولكنى سأكتفى بعدد من الملاحظات التى تستحق الإبراز، وهنا لا تنفصل دلالات هذه الزيارة عن استقبال القاهرة وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف ومخاطبته مجلس الجامعة العربية فى مستهل جولة إفريقية.

الملاحظة الأولى تتضمن الكثير من التفاصيل، نجمل صياغتها فيما يمكن وصفه بمفردات أو سرديات هذه الزيارة، وأولاها تأكيد محورية ومكانة إسرائيل فى السياسة الأمريكية، وأن الدولة الأمريكية قد أضحت تبالغ فى تدليل ودعم إسرائيل إلى حد كبير، بشكل أصبح يفرض قيودًا على حرية حركة واشنطن وقدرتها على لعب دور دولى بارز، وليس فقط فى عملية التسوية للقضية الفلسطينية، وأن الهامش الذى كان لإدارات جمهورية وأخرى ديمقراطية سابقة وخاصة بوش الأب وحتى أوباما قد تراجع تمامًا مع إدارة جمهورية لترامب وأخرى ديمقراطية لبايدن، واللافت أن هذا يحدث فى زمن ارتباك السياسة الإسرائيلية بشكل غير مسبوق. والسردية الثانية أن هناك تباينًا لا يمكن إخفاؤه بين وجهة النظر الأمريكية وتلك العربية- حتى داخل أكثر الأطراف العربية قربًا من واشنطن أى تلك التى شاركت فى القمة- بصدد عدة قضايا رئيسية وعلى رأسها مسائل حقوق الإنسان والتحفظ ضد نزعة واشنطن للتدخل، والتأكيد على محورية القضية الفلسطينية فى مقابل ضبابية وشحوب أمريكى واضح، كما يمتد التباين لمسألة التحفظ العربى ضد فكرة الأحلاف والانحيازات الواضحة لأى معسكر خارجى.

الملاحظة الثانية والتى أعتبرها الأهم وأنها تتجاوز خلافات وجهات النظر حول المفاهيم والقضايا، هى ضرورة النظر إلى هذه الزيارة فى إطار استراتيجى شامل، فهى بالأساس تحرك أمريكى متأخر لمحاولة توظيف المنطقة كأهم ساحة لحسم الصراع والمواجهة ضد روسيا، وبالأساس زيادة ما تطرحه المنطقة من نفط وغاز لاستكمال الضغط ضد روسيا، واستكمالًا للشكل محاولة تخفيف ما بدا من توجهات رافضة للانحياز من جانب المنطقة، وهنا أستعير من دراسة نشرتها مؤخرًا حول العقل العربى والأزمة الأوكرانية وخلصت فيها الى أنه لأول مرة ربما من حرب أكتوبر يكاد يكون العالم العربى رسميًّا وشعبيًّا قد طور رؤية تتسم بالتوحد حول رفض الانصياع والانحياز لأى من مواقف الجانبين، معلنين ثوابت قوامها رفض الغزو الروسى لأوكرانيا، وفى نفس الوقت عدم التجاوب مع الضغوط الغربية فى المشاركة فى حصار موسكو، كما أننى وصفت الموقف المصرى هنا بالحياد الذى ليس بحاجة لتبرير، ويكمل الصورة الموافقة على زيارة لافروف للقاهرة فى أعقاب الزيارة مباشرة وقبول طلبه- غالبًا- لمخاطبة الجامعة العربية فى معنى لا يمكن تجاهله، وبذلك تكون الرسالة واضحة، وهى أن دول المنطقة- حتى القريبة لواشنطن والحريصين على علاقات وطيدة وحميمية معها وأكدوا هذا فى قمة جدة- لن تتجاوب مع تحالفات أو مواقف أكثر حدة ضد موسكو، بل تريد علاقات متوازنة مع الجميع، فى جملة واحدة لن تكون المنطقة ساحة حسم الصراع ضد موسكو، وعلى واشنطن أن تواصل مساعيها فى مكان آخر.

الملاحظة الثالثة قد تبدو على قدر من الارتباط بالسابقة ولكنها ذات طبيعة أكثر تميزا، وهى أن العالم العربى قد انضم لبقية مناطق العالم فى إدراك أن واشنطن لم تعد تحتكر القرار الدولى، ولعلى هنا قد طرحت الأمر هذا بشكل أكثر صراحة على مدى أعوام، حيث كنت أشير إلى أن المنطقة الوحيدة فى العالم التى تبالغ فى مكانة واشنطن والتحسب لما تريده هى منطقتنا العربية فى مجملها، وأن نظرة لما شهدته العلاقات الأمريكية مع دول العالم أجمع من آسيوية وإفريقية ولاتينية وحتى أوروبية قبل الحرب الأوكرانية تكشف هذا، وإن كانت هذه الحرب قد أعادت أوروبا بقدر كبير للولاء والتبعية لواشنطن، فقد كشفت عن أن سنوات الإخفاق والتخبط الأمريكى فى ملفات القضية الفلسطينية ثم جريمة العراق ثم تخبطات ساحات الصراع فى سوريا وليبيا واليمن ودلالات الانسحاب المخزى من أفغانستان قد تركت جروحًا شديدة ومرارات تجاه السياسات الأمريكية ليس من السهل تغييرها خاصة أن الزيارة جاءت بعد فوات الأوان وترسخ الكوارث والأخطاء، وللحقيقة أيضًا إن السجل الأمريكى مع إيران بما يتضمنه من تراكمات يبدو متناقضًا من معاداتها وتسليمها العراق فى نفس الوقت، ومن تغذيتها للنعرات الطائفية التى تمزق المنطقة حاليًّا، وكذا تهاونها المزمن مع كل ما يتعلق بإسرائيل، كل هذا رسخ من فكرة واشنطن التى لا يمكن الاعتماد عليها. اليوم يبدو هذا التحول الاستراتيجى والنضج التدريجى فى التعامل معها بداية تتماشى مع عالم جديد يتشكل ونكرر فيه أن مساحة حركة الدول الصغيرة والمتوسطة أرحب بكثير مما سبق.

ولكل هذه الأسباب يمكن وصف زيارة بايدن بالتاريخية ليس لأنها حققت أهداف واشنطن وأكدت صدارتها، وإنما لأنها أكدت أن العالم يتغير والعالم العربى كذلك.

نقلا عن المصري اليوم