ضبابية الرؤية:
ما أسباب الضغوط الأمريكية على إسرائيل لعدم الانجرار إلى حرب برية واسعة النطاق في قطاع غزة؟ 

ضبابية الرؤية:

ما أسباب الضغوط الأمريكية على إسرائيل لعدم الانجرار إلى حرب برية واسعة النطاق في قطاع غزة؟ 



على الرغم من تأكيد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي، فإنها تضغط على تل أبيب لعدم الانجرار إلى حرب برية واسعة النطاق في قطاع غزة ضد حركة حماس، بحسب عديد من التقارير الأمريكية، خوفا من وقوع حليفتها في الأخطاء التي وقعت فيها الولايات المتحدة في أعقاب أحداث سبتمبر الإرهابية، وتوسيع نطاق الحرب الإسرائيلية إلى حرب إقليمية لن تقتصر تداعياتها على تهديد أمن واستقرار الشرق الأوسط، ولكنها ستكون عالمية، بجانب رغبة الإدارة في إعطاء مزيد من الوقت لجهود حلفائها للافراج عن الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس. وسيكون لتنفيذ إسرائيل غزوا بريا شاملا للقطاع تداعيات عدة على النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وعديد من التداعيات الداخلية التي سيكون لها تاثيرات سلبية على فرص بايدن للفوز بفترة رئاسية ثانية. 

هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالاجتياح البري لقطاع غزة لتصفية عناصر حركة حماس على حد زعمه، وهو أمر تم تنفيذه ولكن بشكل غير كامل؛ لكن ذلك ينذر بإبادة جماعية لسكان القطاع، كما ينذر بسيناريو كارثي قد يجر المنطقة إلى الاشتباك في حروب إقليمية. وهو ما يدفع الإدارة الأمريكية إلى الضغط على تل أبيب لعدم الانجرار إلى حرب برية واسعة النطاق في قطاع غزة، بحسب العديد من التقارير الأمريكية، لأنه سيكون لها تأثيرات عديدة على القوات الأمريكية، وكذلك الأمريكيين، ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولما ستجره عليها من انتكاسات داخل المنطقة وخارجها، خاصة صورتها التي ستتضرر بصورة كبيرة على مستوى منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن مخاوفها من سيناريو ما بعد الغزو، وعدم وجود رؤية إسرائيلية واضحة حول هذا الأمر بعدما أعربت مصر والأردن عن رفضهما مقترح استقبال المدنيين الفلسطينيين. 

أسباب الضغط

أشار تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” في 27 أكتوبر الماضي إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن تحث إسرائيل على إعادة التفكير في خططها لشن هجوم بري كبير في قطاع غزة واختيار بدلاً من ذلك عملية محدودة دقيقة ضد حركة حماس في قطاع غزة باستخدام الطائرات وقوات العمليات الخاصة التي تنفذ غارات دقيقة ومستهدفة أهداف وبنية تحتية عالية القيمة لحركة حماس، وذلك وفقاً لخمسة مسئولين أمريكيين مطلعين على المناقشات. وتتمثل أبرز الأهداف التي تدفع الإدارة للضغط على تل أبيب بعدم تنفيذ حرب برية واسعة النطاق في قطاع غزة فيما يلي: 

1 مخاوف من تكرار إسرائيل أخطاء الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر الإرهابية: رغم تأييد الولايات المتحدة علنا التحركات العسكرية الإسرائيلية ضد مقاتلي حركة حماس بقطاع غزة في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” فإن الرئيس الأمريكي خلال زيارته لتل أبيب في 18 أكتوبر الماضي قد حذر حكومة الحرب الإسرائيلية من أن يحركها الغضب على غرار ما فعلت الولايات المتحدة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، والتي دفعتها لشن حرب ضد حركة طالبان وتنظيم القاعدة بأفغانستان في عام 2001، وغزو العراق في عام 2003. وقد فشلت الولايات المتحدة فيهما، حيث أخفقت في تحقيق النتائج المرجوة من الحربين. وفي ضوء الخبرة الأمريكية خلال العقدين الماضيين، لا يدعم عديد من الاستراتيجيين الأمريكيين فكرة إقدام تل أبيب على الغزو البري الشامل لقطاع غزة، علماً بأن بايدن وأعضاء إدارته لم يعارض ذلك صراحة. 

2– زيادة حدة المقاومة الفلسطينية لإسرائيل: بالنظر إلى أن الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة سيترتب عليه “إبادة جماعية” لسكان القطاع، حيث تستهدف إسرائيل بالفعل ملاجئ النازحين الفلسطينيين بحجة أن حركة حماس تقيم أنفاق تحتها متسببة في مقتل آلاف الأفراد المدنيين، فإن ذلك سيثير عداء الشعب الفلسطيني بدرجة أكبر، وقد يولد حركات مقاومة أكبر، سواء على مستوى قطاع غزة أو في أماكن أخرى بالأراضي الفلسطينية، أو خارجها، وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من حجم الهجمات التي تتعرض لها إسرائيل، ويساعد على تقويض استقرار منطقة الشرق الأوسط. ولذلك، أكَّد بايدن خلال زيارته لتل أبيب على موقف واشنطن المتعلق بحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين. 

3– إعطاء الأولوية لإجراء مفاوضات مع حركة حماس: لعل أحد أسباب ضغط الإدارة الأمريكية على إسرائيل لعدم شن غزو بري شامل لقطاع الغزة هو رغبتها في منح حلفائها بالمنطقة، مصر وقطر، الذين ينخرطون في وساطة مع حركة حماس بشأن الإفراج عن الرهائن الذين تحتجزهم الحركة في أعقاب عملياتها “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر الماضي، ومن بينهم مواطنين مزدوجي الجنسية الإسرائيلية والأمريكية، ولا سيما بعد إفراج الحركة عن أربع سيدات. 

4– إيصال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة: تتعرض المنظمات الدولية والولايات المتحدة للانتقادات بسبب عدم ضغطها على إسرائيل لمساندة المدنيين الفلسطينيين، ولذلك أعلنت الإدارة الأمريكية عن تقديم 100 مليون دولار من المساعدات للفلسطينيين، وذلك خلال زيارة بايدن لإسرائيل. كما تحث إسرائيل على السماح للمزيد من الشاحنات بالدخول إلى القطاع لتقديم المساندة للمدنيين. وتشير التقارير الأمريكية إلى أن الولايات المتحدة تضغط على إسرائيل لتأجيل الغزو البري الكامل للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية بعدما استهدفت الضربات الإسرائيلية البنية التحتية الحيوية في قطاع غزة، سواء شبكات الصرف الصحي، والمياه، فضلاً عن المستشفيات التي أعلن قطاع الصحة الفلسطيني أنها أصبحت غير قادرة على تقديم خدماتها للمصابين والجرحى بعدما تعرضت للقصف.

5- ضبابية الرؤية الإسرائيلية لما بعد الحرب: أعربت دول المنطقة وتحديداً مصر والأردن عن رفضهما التام لتهجير المواطنين الفلسطينيين الموجودين في غزة إليهما لحين انتهاء إسرائيل –كما تزعم– من القضاء على حركة حماس؛ حيث شدد الملك عبد الله الثاني على ذلك، كما أوضح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أن مصر لن تقبل “تصفية القضية الفلسطينية”. وهو ما يعني أن دول المنطقة، وتحديداً الدول صاحبة الدور المحوري في القضية الفلسطينية لا تقبل الرؤية الإسرائيلية والأمريكية حول تصفية القضية، ومن ثم فإن قيام إسرائيل بالغزو البري الشامل يعني التصعيد دون وجود سيناريو لما بعد التصعيد، بما يزيد من احتمالية حدوث حرب إقليمية لا تُحمد عقباها.

6- التخوف من توسع الحرب الإسرائيلية إلى حرب إقليمية: هناك تخوف أمريكي من أن يدفع الغزو البري الإسرائيلي الشامل لقطاع غزة إلى حرب إقليمية في منطقة الشرق الأوسط ينخرط فيها وكلاء إيران المسلحين في المنطقة، ولا سيما بعد أن أعلنت ميليشيا الحوثي في نهاية أكتوبر الماضي أنها دخلت الحرب ضد إسرائيل، وبدأت في إطلاق رشقات صاروخية مستهدفة إسرائيل، لدعم المقاومة التي تنفذها حركة حماس، هذا بجانب الضربات التي ينفذها حزب الله اللبناني رداً على الضربات الإسرائيلية الموجهة للأراضي اللبنانية. وهو أمر في حال تفاقم سيجر المنطقة بالفعل لحرب إقليمية، خاصة أن الصواريخ التي يطلقها الحوثيون تمر عبر البحر الأحمر؛ مما يهدد الممرات الملاحية ولا سيما منطقة مضيق باب المندب؛ مما سيدفع دول المنطقة التي ستتضرر مصالحها للتحرك هي الأخرى لتأمين الحركة عبر الممر، وتأمين مصالحها الحيوية، خاصة تلك المتعلقة بالطاقة، بالنظر إلى أن الحرب على قطاع الغزة قد تسببت في تذبذب وارادت الغاز الطبيعي داخل بعض دول المنطقة، بما يدفع لاحتقان شعبي، ولذلك فإن إطالة الحرب داخل القطاع، واستمرار استهداف المدنيين على سيجر عواقب وخيمة على كافة الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة.

خسائر أمريكية

سيكون لتنفيذ إسرائيل مخططها للغزو البري الشامل لقطاع غزة للقضاء على حركة حماس العديد من التداعيات السلبية على الولايات المتحدة، ومن أبرزها ما يلي: 

1– زيادة الهجمات المسلحة ضد الأهداف الأمريكية: تتخوف الإدارة الأمريكية من أن الغزو البري الإسرائيلي لقطاع غزة قد يدفع المليشيات الموالية لإيران داخل المنطقة لاستهداف القواعد العسكرية الأمريكية، وكذلك الأمريكيين في العراق وسوريا ولبنان. وقد تعرضت قواعد عسكرية أمريكية في العراق وسوريا خلال شهر أكتوبر لهجمات من الميليشيات الموالية لإيران بطائرات بدون طيار. وقد ذكر المتحدث باسم البنتاجون، جنرال باتريك رايدر، أن القوات الأمريكية في العراق وسوريا تعرضت 27 هجوما خلال أكتوبر الماضي.

2– خسارة بايدن أصوات الأمريكيين العرب والمسلمين: تشير استطلاعات الرأي الأمريكية إلى خسارة بايدن أصوات الناخبين من ذوي الأصول العربية والمسلمة، فضلاً عن الديمقراطيين التقدميين، بعد الدعم الأمريكي الكبير لإسرائيل خلال الحرب الدائرة والتي تسببت في سقوط آلاف المدنيين الفلسطينيين؛ حيث يرى الناخبون أن الإدارة الأمريكية لم تتبع سياسة متوازنة تجاه هذه القضية، وأنها أسهمت في إذكاء الصراع من خلال الدعم المتدفق غير المشروط لإسرائيل، بجانب فشلها في وقف التصعيد.

كشف استطلاع أجراه المعهد العربي الأمريكي وشمل 500 عربي أمريكي في الفترة من 23 إلى 27 أكتوبر عن انخفض دعم الرئيس بايدن بين الناخبين الأمريكيين العرب بشكل حاد منذ الحرب بين إسرائيل وحماس، إلى مستويات غير مسبوقة. وقد انخفض الدعم لإعادة انتخابه المقبلة من العرب الأمريكيين بنسبة 42%، من 59% في عام 2020 إلى 17%. وأظهر الاستطلاع أنه إذا أجريت الانتخابات اليوم، فإن 40% قالوا إنهم سيصوتون للرئيس السابق ترامب، المرشح الأوفر حظا للفوز ببطاقة الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية القادمة. وفي عام 2020، قال 35% ممن شملهم الاستطلاع إنهم سيصوتون له. وفي الوقت نفسه، أظهر الاستطلاع أن 23% من الأمريكيين العرب يعتبرون أنفسهم ديمقراطيين، وهو ما يمثل انخفاضًا بنسبة 17% منذ أبريل. 

3– تراجع النفوذ والصورة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط: يزداد العداء العربي تجاه الولايات المتحدة بالمنطقة في أعقاب دعمها اللا متناهي لإسرائيل، وهو أمر الذي من شأنه التأثير على المصالح والأهداف الأمريكية في المنقطة التي أضحت تتقدم أولوية الإدارة الأمريكية في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، وقدرة واشنطن على الحفاظ على نفوذها في المنطقة التي أضحت ساحة للمنافسة مع الصين وروسيا. وسيكون لتداعيات الغزو البري الإسرائيلي تأثيرات كثيرة على علاقات الولايات المتحدة بعديد من حلفائها في المنطقة. 

4– تصاعد أدوار منافسي الولايات المتحدة: بينما يتراجع النفوذ والصورة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، مع تزايد عدد القتلى الفلسطينيين جراء استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، والتي يتوقع أن تتزايد في حال تنفيذ القوات الإسرائيلية غزوا بريا واسع النطاق لقطاع غزة، فإن نفوذ وصورة منافسي وخصوم الولايات المتحدة تتزايد في المنطقة مع دعواتها المتعددة لوقف إطلاق النار، وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين في قطاع غزة الذين يفتقدون للمتطلبات الأساسية للعيش، ومساعيها لحل الأزمة التي قد تُجر المنطقة إلى حرب إقليمية لا تقتصر تداعياتها على الشرق الأوسط، ولكن المجتمع الدولي الذي لم يتعاف من آثار الحرب الروسية ضد أوكرانيا.

5– مزيد من ضغوط التيار التقدمي على الرئيس بايدن: سيدفع تزايد عدد القتلى الفلسطينيين جراء الغزو البري الإسرائيلي للقطاع غزة، ومزيد من تهجير الفلسطينيين التيار التقدمي داخل الحزب الديمقراطي الذي يُعارض مواقف الإدارة الأمريكية من الدعم اللا متناهي لإسرائيل في أعقاب عملية “طوفان الأقصى” للممارسة مزيد من الضغط على الإدارة الأمريكية لإحداث تحولا في مواقفها تجاه الأزمة. وهو الأمر الذي يمثل عامل ضاغط كبير على الرئيس الأمريكي الذي يسعي إلى توحيد الحزب الديمقراطي ورائه بينما يسعي للفوز بفترة رئاسية ثانية في نوفمبر من العام القادم، وإظهار تماسك الحزب الديمقراطي في الوقت الذي يُعاني فيه الحزب الجمهوري من انقسامات تهدد فرصه الانتخابية.  

6– تقليل الاهتمام بالأزمة الأوكرانية: كان هدف عدم انتصار روسيا في الحرب الروسية-الأوكرانية أولوية أولي لإدارة الرئيس الأمريكي، وأحد النجاحات التي كان سيستغلها خلال حملته الانتخابية للفوز بفترة رئاسية ثانية في وقت تواجه فيه أولوياته الداخلية عديد من الاخفاقات. ومع توسيع الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة فإن الاهتمام الدولي سينصب على الأزمات الإنسانية في قطاع غزة، وستحول الإدارة الأمريكية اهتمامها للتعامل مع تداعيتها، في مقابل تقليل الاهتمام بالأزمة الأوكرانية، الأمر الذي ستستغله روسيا لتعزيز موقفها العسكري، ولا سيما مع ارتفاع نسب المعارضة الأمريكية لاستمرار الدعم الأمريكي لكييف.

خسائر متعددة

خلاصة القول، إن تنفيذ الجيش الإسرائيلي للغزو البري الكامل لقطاع غزة ستكون له تداعيات سلبية على الولايات المتحدة وتل أبيب، حيث ستكون الخسائر متعددة المستويات والجوانب، ولا سيَّما الإضرار بصورة واشنطن حول العالم بجانب نجاح منافسي الولايات المتحدة في استمالة دول المنطقة، ومن ثم تقليل النفوذ الأمريكي بالشرق الأوسط.