اتّخذ الرئيس التونسي “قيس سعيد” خلال ترؤسه اجتماعاً لمجلس الأمن القومي، في 30 مارس 2022، قراراً رئاسياً يقضي بحل البرلمان “المجمد” منذ 25 يوليو الماضي، وذلك بعد قيام مجموعة من أعضاء البرلمان “المجمد” (120 نائباً) بعقد جلسة افتراضية دعا إليها الرئيس السابق للبرلمان “راشد الغنوشي” (الأمين العام لحركة النهضة)، وقاموا خلالها بالتصويت على إنهاء الإجراءات الاستثنائية المفروضة قبل ثمانية أشهر.
سند دستوري
استند الرئيس “سعيد” في قرار حل البرلمان نهائياً إلى أنه جاء حفاظاً على الشعب ومؤسسات الدولة، وبالتالي تم الاستناد إلى الفصل 72 من الدستور، وكذلك الأمر الرئاسي رقم 80 لعام 2021، المتعلق بتعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب، والأمر الرئاسي رقم 109 لعام 2021 الصادر في 24 أغسطس 2021 المتعلق بتمديد الإجراءات الاستثنائية، وأيضاً الأمر الرئاسي رقم 117 الصادر في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية، وذلك في إشارة إلى استناده إلى حجج قانونية ودستورية تمنحه صلاحية حل البرلمان.
فقد رأى الرئيس “سعيد” أن عقد جلسة عامّة للبرلمان المجمد تعد تحدياً للقرارات الرئاسية الاستثنائية في هذا الخصوص، خاصة وأنه تم عقد جلسة سابقة دعا لها رئيس البرلمان “راشد الغنوشي”، في 27 يناير الماضي، بمشاركة 90 عضواً من البرلمان المجمد، كما رأى أنها محاولة انقلابية لا شرعية لها تهدف إلى التلاعب بمؤسسات الدولة الدستورية، وهو ما دفعه إلى مطالبة وزيرة العدل بإجراء تحقيقات مع النواب الذين شاركوا في هذه الجلسة، وبناء على ذلك أعلنت وزيرة العدل “ليلى جفال” فتح تحقيقات مع هؤلاء النواب بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي وفقاً لأحكام الفصل 23 من قانون الإجراءات الجزائية.
ردود متباينة
أثار قرار الرئيس “قيس سعيد” بحل البرلمان ردود أفعال الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة داخل المشهد السياسي التونسي، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي.
الفريق المؤيد، استند في ذلك إلى ما يلي:
1- قرار استثنائي: يرى مؤيدو قرار حل البرلمان أنه قرار استثنائي اتخذه رئيس الدولة وفقاً للصلاحيات التي منحها إياها الدستور الوطني، وفقاً للفصل 72 من الدستور الذي يمنح الرئيس صلاحيات حماية استقرار الدولة، وبالتالي فهو قرار صائب، نظراً لأن قرار الحل لا يندرج في الحالات التي نص عليها الدستور؛ إذ إن البلاد تمر بأزمة سياسية متفاقمة منذ شهر يوليو الماضي، وبالتالي فإن هذا القرار لا يترتب عليه إجراء انتخابات سابقة لأوانها، وتماشى مع هذا الرأي حراك “مواطنون ضد الانقلاب” التابع لحركة النهضة والذي اعتبر أن قرار حل البرلمان غير دستوري، واعتداء آخر فاقد للسند الدستوري ولكنه قرار سياسي غير فعال وغير واقعي.
2- قرار ضروري: أيد الاتحاد التونسي العام للشغل قرار رئيس الدولة بحل البرلمان، فرغم ضرورية هذا القرار، إلا أنه جاء متأخراً كثيراً، وهو ما ظهر في تصريحات الأمين العام المساعد للاتحاد “سامي الطاهري” الذي أشار إلى أن البرلمان المجمد كان لا بد له من الحل.
3- قرار مشروع: رأى المؤيدون لقرار حل البرلمان نهائياً أنه قرار رئاسي مشروع، وهو ما ظهر في البيان الصادر عن حزب “التيار الشعبي” الذي وصف القرار بأنه قرار مشروع كان على الرئيس “قيس سعيد” اتخاذه منذ بداية فرض الإجراءات الاستثنائية، خاصة وأن حركة النهضة قد حوّلت البرلمان إلى مقر للتآمر على الدولة التونسية، وطالب الحزب رئيس الدولة باتخاذ إجراءات إضافية ذات طابع اقتصادي لحل الأزمة الاقتصادية الحالية في البلاد، ودعا الحزب كذلك إلى مواصلة التحقيقات للكشف عن المتورطين في قضايا الفساد والإرهاب.
4- إقصاء الإخوان: أشار الحزب “الدستوري الحر” برئاسة “عبير موسى” إلى أن هذا القرار جاء للتأكيد على خروج الإخوان المذل من المشهد السياسي، خاصة وأنهم مسؤولون عن الانتهاكات التي شهدها البرلمان تحت رئاسة حركة النهضة. وطالب الحزب بأن يقترن قرار حلّ البرلمان بالدعوة لإجراء انتخابات تشريعية في فترة زمنية لا تتجاوز الآجال الدستورية، والتي تنصّ على أن يتم إجراء انتخابات في مدة زمنية لا تتجاوز 120 يوماً بعد حل البرلمان. ورغم تأييد الحزب لحل البرلمان؛ إلا أن رئيسته “موسى” حذرت الرئيس “سعيد” من خطورة استغلال الأوضاع الاستثنائية الحالية لتحقيق مشروعه السياسي الخاص وتجميع السلطات في يده.
الفريق المعارض، استند في رفض القرار إلى ما يلي:
1- استمرار الاستبداد: عبّرت حركة “النهضة” عن رفضها قرارَ حل البرلمان، ووصفته بأنه استمرار لنهج الاستبداد الرئاسي والانقلاب على الشرعية الدستورية. وبررت الحركة الجلسة التي تم عقدها بأنها جاءت في إطار احترام النظام الداخلي للبرلمان، متهمةً رئيس الدولة بممارسة الديكتاتورية لتأويل ما قام به نواب البرلمان على أنه فساد وضرب للشرعية ووحدة الدولة، وأن مشاركة 120 عضواً في الجلسة الافتراضية للبرلمان هي ما أزعجت رئيس الدولة الذي قام بحل البرلمان بطريقة غير دستورية أو قانونية، وأن الفصل 80 منه لا يسمح للرئيس بالقيام بذلك.
2- خرق للقانون: اعتبر بعض خبراء الدستور أن قرار حل البرلمان وفقاً للفصل 72 من الدستور خرقٌ للقانون، خاصة وأن هذا الفصل ينص على أن “الرئيس رمز وحدة الدولة ويضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور” ومن ثم فلا علاقة له بحل البرلمان، وكان من المفترض أن يتم حل البرلمان وفقاً للفصل 77 من الدستور الذي ينص صراحة على صلاحية رئيس الدولة في “حل مجلس نواب الشعب”، وهو ما يستند إليه معارضو قرار حل البرلمان.
3- اضطراب دستوري: يرى فريق من الدستوريين أن قرار الرئيس “سعيد” بحل البرلمان غير متماسك دستورياً، كما أنه يُشير إلى حالة من الاضطراب والتناقض لدى رئيس الدولة الذي نفى قبل أيام قليلة عدم وجود سند دستوري لحل البرلمان، إلا أنه عاد وأعلن أنه استند إلى الفصل 72 من الدستور، وهو من الفصول ذات الأبعاد الواسعة والعامة، والذي لا يتضمن أبعاداً قانونية تنفيذية مباشرة، هذا إلى جانب التناقض في قرارات الرئيس الذي قام بتعليق باب السلطة التنفيذية من الدستور وفقاً للأمر الرئاسي 117، إلا أنه عاد وأحياه بالاستناد إلى الفصل 72 منه، كما أن الأمر الرئاسي 117 علّق العمل بالدستور وأبقى فقط على التوطئة والبابين الأول والثاني، أي المبادئ العامة والحقوق والحريات.
كما يرى المعارضون لهذا القرار أيضاً أن استناد الرئيس للفصل 72 من الدستور، جاء لتمكينه من التهرب من الآجال الدستورية التي تنص على إجراء انتخابات برلمانية بعد حل البرلمان، وهو ما سيضع الرئيس “سعيد” في حرج دستوري وقانوني وسياسي؛ إذ سيقوم خلال الفترة القادمة بالاستمرار في القيام بدور السلطة التشريعية من خلال إصدار مراسيم رئاسية تشريعية لحين إجراء انتخابات برلمانية جديدة، وهو ما يتنافى مع الدستور الذي ينص على أنه في حالة حل البرلمان يواصل البرلمان أعماله كبرلمان تصريف أعمال حتى إجراء الانتخابات البرلمانية.
4- تأكيدٌ للانقلاب على الدستور: فقد رأى حزب التيار الديمقراطي أن القرار الرئاسي بحل البرلمان يُعد انتهاكاً وخرقاً آخر للدستور، ويعد تأكيداً قاطعاً على النوايا الانقلابية لرئيس الدولة “قيس سعيد” بغرض تأكيد الحكم الاستبدادي، وتكريساً لحكم الفرد، كما طالب الحزب بإنهاء الإجراءات الاستثنائية وإلغاء الأمر الرئاسي رقم 117 وما ترتب عليه من إجراءات استثنائية، كما عبر عن رفض الحزب لتوظيف القضاء لترهيب النواب المشاركين في الجلسة الافتراضية التي تم عقدها قبل قرار حل البرلمان، كما أن هذا القرار سيعمل على إغراق البلاد في حالة جديدة من الصراع على السلطة.
دلالات القرار
يُشير قرار الرئيس “قيس سعيد” بحل البرلمان بعد تجميد أعماله وصلاحيات أعضائه في 25 يوليو الماضي، إلى ما يلي:
1- حسم الصراع لصالح الرئيس: يعكس القرار قوة رئيس الدولة “قيس سعيد” في مواجهة خصومه السياسيين وخاصة حركة النهضة، إذ تؤكد القرارات والإجراءات الاستثنائية التي يتخذها الرئيس “سعيد” منذ بدء تطبيقها في شهر يوليو الماضي، على قدرة رئيس الدولة على التحكم في المشهد السياسي وتوجيهه في صالح إجراء الإصلاحات السياسية والدستورية المعلن عنها وفق آجال زمنية محددة، خاصة وأن الجلسة الأخيرة للبرلمان أشارت إلى عودة هذه المؤسسة للعمل خارج إطار الأمر الرئاسي 117 الذي سبق وأعلنه رئيس الدولة لتمديد الإجراءات الاستثنائية بما فيها استمرار تعليق صلاحيات أعضاء البرلمان المجمد.
2- إنهاء عمل البرلمان بشكل نهائي: يُشير قرار حل البرلمان المشار إليه إلى أن أية أعمال مستقبلية للبرلمان تصبح مخالفة للقانون إذا تواصلت، ولا يمكن للمجلس أن يعقد اجتماعات حيث لم يصبح له أي وجود على المستويين القانوني والدستوري، فعندما كان البرلمان مجمداً قام بعض أعضائه بعقد أكثر من جلسة وكان آخرها التي صوتوا فيها على إلغاء الإجراءات الاستثنائية.
3- استمرار الأوضاع الاستثنائية: فبعد قرار حل البرلمان سوف يواصل الرئيس “قيس سعيد” فرض الحالة الاستثنائية لحين الانتهاء من تنفيذ كافة الإصلاحات السياسية والدستورية خلال الفترة الانتقالية الحالية وصولاً إلى إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة وفقاً لما نصت عليه خريطة الطريق المعلنة في 13 ديسمبر الماضي.
4- تعميق الخلافات داخل حركة النهضة: فمن شأن قرار حلّ البرلمان بشكل نهائي أن ينعكس سلباً على الأوضاع الداخلية لحركة النهضة التي تُعاني خلافات داخلية متصاعدة من جهة، وفي سياق الانتقادات الحزبية والمجتمعية المتزايدة لدور الحركة في زعزعة الاستقرار السياسي بالبلاد من جهة أخرى، وخاصة بعد دعوة رئيسها لعقد الجلسة الأخيرة لنواب البرلمان المجمد قبل حله، إذ اعتبروا أن ذلك ساهم في تعميق الانقسام السياسي داخل البلاد وتهديد السلم المجتمعي، الأمر الذي قد ينعكس بدوره على استعدادات الحركة لعقد مؤتمرها العام المقرر في شهر أكتوبر القادم لاختيار رئيس جديد للحركة، في ظل الخلافات المتصاعدة بسبب انقسام الأعضاء ما بين مؤيد ومعارض لاستمرار “الغنوشي” على رأس قيادة الحركة.
5- المساءلة القضائية لبعض النواب: فمن شأن قرار الرئيس “سعيد” بحل البرلمان وإعلان الجلسة الافتراضية لبعض النواب السابقين بأنها غير قانونية، وإعلان وزيرة العدل توجيه اتهامات لهم بالتآمر على الأمن القومي للبلاد، أن يواجه هؤلاء النواب أحكاماً قضائية بالسجن تتراوح بين 5 سنوات إلى السجن المؤبد.
6- رفض التدخلات والضغوط الخارجية: يشير قرار الرئيس “سعيد” بحل البرلمان نهائياً إلى رفضه التدخلات والضغوط الخارجية في الشؤون الداخلية للبلاد، خاصة وأنه اتخذ هذا القرار عقب انتهاء زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي “أوزرا زيا” للبلاد وعقدها لقاءات متعددة مع بعض النواب السابقين في البرلمان ومنظمات المجتمع المدني، في محاولة للضغط على الرئيس “سعيد” لإنهاء الإجراءات الاستثنائية وإرجاع البرلمان لعمله الطبيعي؛ إلا أن “سعيد” أكّد على رفضه مثل هذه الضغوط، وأن قراراته يتخذها وفقاً لرؤيته الخاصة بالحفاظ على استقرار الدولة وحماية مؤسساتها الدستورية من التلاعب بها.