أعلنت فرنسا، في 22 ديسمبر الجاري، عن استكمال تنفيذ خطة الانسحاب العسكري من النيجر. وقد كان لافتاً أن هذه الخطوة التي أقدمت عليها باريس جاءت بعد أيام قليلة من إعلان موريتانيا وتشاد عن تفكك مجموعة الساحل الخماسية- والتي كانت تضم مالي والنيجر وبوركينافاسو وموريتانيا وتشاد- بعد اتخاذ كل من النيجر وبوركينافاسو قرار الانسحاب من المجموعة، ومن ثم انسحاب ثلاث دول من المجموعة بما في ذلك مالي التي اتخذت قراراً في هذا الصدد العام الماضي، على نحو يشير إلى استمرار خصوم فرنسا في التصعيد ضدها، وإلى تحول المنطقة إلى ساحة للصراع الدولي، لا سيما بين الدول الغربية وروسيا.
دلالات عديدة
يطرح الإصرار الفرنسي على سحب القوات من النيجر العديد من الدلالات الهامة، التي يتمثل أبرزها في:
1- تراجع نتائج الضغوط الفرنسية: رغم الضغوط التي مارستها فرنسا، والدول الأوروبية بشكل عام، على المجلس العسكري في النيجر، من أجل إعادة الرئيس السابق محمد بازوم إلى السلطة، بما في ذلك فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على قادة المجلس العسكري، إلا أن الأخير تعامل مع هذه الضغوط بمزيد من التصعيد السياسي ضد فرنسا.
إذ أعلنت النيجر وبوركينافاسو الانسحاب من مجموعة الساحل الخماسية، وهو الانسحاب الثاني بعد انسحاب مالي في العام الماضي، وأصدرت تشاد وبوركينافاسو بياناً تؤكدان فيه احترامهما لقرار الانسحاب، وهو ما يشير إلى انهيار المظلة الأمنية الفرنسية لهذه الدول، ومن ثم يبدو أن استمرار فرنسا في سحب قواتها من النيجر هو نتاج قناعة بأن الإبقاء على وجود عسكري في النيجر سيكون مكلفاً وغير مُجدٍ.
2- إعادة التمركز والانتشار في غرب أفريقيا: ظلت النيجر نقطة مثالية لإعادة التمركز العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، وذلك بعد سحب القوات الفرنسية من مالي. لكن تصاعد التوتر بين باريس ونيامي دفع الأولى إلى البحث عن موقع بديل لقواتها لإعادة التمركز. وحتى الآن، كانت تشاد المرشحة لاستقبال المزيد من القوات الفرنسية في ظل العلاقات الوثيقة بين الدولتين. ولكن تقارير دولية أشارت إلى جهود ومباحثات فرنسية مع بنين لبناء قاعدة عسكرية فرنسية في البلاد، ما يعني أن الأخيرة قد تستقبل مزيداً من القوات الفرنسية بعد انسحابها من النيجر، ويُشير ذلك إلى مواصلة فرنسا استراتيجية ضبط سياستها الأمنية والعسكرية في المنطقة وإعادة نشر قواتها في الدول “الصديقة”.
3- إخلاء الساحة لحرب بين روسيا والتنظيمات الإرهابية: تتزامن هذه الإجراءات والترتيبات الأمنية الفرنسية مع تصاعد حدة التهديدات الإرهابية من جانب تنظيم “القاعدة” في المنطقة، حيث توعّد زعيم جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” إياد أغ غالي روسيا ومجموعة “فاجنر” بالهزيمة، وهو ما يعني أن المصالح الروسية قد تكون هدفاً محتملاً لعمليات التنظيم في المنطقة خلال المرحلة القادمة.
لذلك، تعد فرنسا، في رؤية اتجاهات عديدة، هي المستفيد الأول من احتمال تصاعد المواجهات بين تنظيم “القاعدة” ومجموعة “فاجنر” التي تقاتل إلى جانب الجيش المالي ضد الجماعات المسلحة الأزوادية التي تطالب بالحكم الذاتي أو الانفصال عن الدولة. ومن هنا، فإن استمرار فرنسا في سحب قواتها من النيجر قد يكشف عن اهتمامها بإخلاء الساحة أمام روسيا، وذلك بعد أن ظهرت بوادر لحرب جديدة مع الأخيرة يمكن استثمارها والتحرك في سياقها.
خيارات محتملة
تواجه فرنسا معضلة الحفاظ على نفوذها السياسي وحماية مصالحها في المنطقة، ويبدو أن قرار سحب قواتها من النيجر يضعها أمام خيارات محددة يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الوصول إلى تفاهمات مع العسكريين الجدد: ويشمل ذلك كلاً من مالي والنيجر وبوركينافاسو، وهذا يعني أن باريس أصبحت أكثر قناعة بأن الضغوط السياسية لم تعد تجدي نفعاً في ظل مواصلة خصومها سياسة التصعيد ضدها، ومن ثم الاتجاه إلى فتح قنوات للحوار السياسي مع هذه الدول بالشكل الذي يضمن لها الإبقاء على مستوى معين من العلاقات مع هذه الدول، ويسمح لها بوجود دبلوماسي وسياسي واقتصادي فيها، والانسحاب مؤقتاً من المشاركة في الخطط العسكرية والأمنية التي أثارت وأججت الخلافات معها.
لكن يبدو أن هذا الخيار يواجه العديد من التحديات وعلى رأسها العلاقات الروسية المتنامية مع خصوم فرنسا في المنطقة، والموقف الشعبي إزاء السياسة العسكرية والأمنية الفرنسية التي أخفقت في وضع حد للهجمات الإرهابية في المنطقة.
2- دعم الكيانات المعارضة لروسيا في المنطقة: ثمة قناعة راسخة لدى باريس بالدور الذي مارسته روسيا في إخراج فرنسا من منطقة الساحل، وأن الأخيرة تواجه صراعاً على النفوذ مع موسكو في منطقة غرب أفريقيا، بل وفي كل القارة الأفريقية، حيث تستغل روسيا أخطاء السياسة العسكرية والأمنية الفرنسية في تحسين صورتها والتقرب إلى الحكومات في المنطقة.
لذلك من المحتمل أن تعمل باريس خلال الفترة القادمة على دعم التيارات والجماعات المعارضة للوجود الروسي في المنطقة، وخاصة أن المجموعة العسكرية الروسية “فاجنر” تنخرط بالفعل في الحرب التي يشنها الجيش المالي في شمال البلاد، وقد تمتد هذه الحرب بين الجماعات المسلحة و”فاجنر” في المنطقة.
3- الانسحاب من الترتيبات الدولية لمكافحة الإرهاب: وهذا يعني أن فرنسا سوف تتجه إلى تصعيد ضغوطها على خصومها والقوى الدولية المنافسة في المنطقة من خلال الانسحاب من الترتيبات الأمنية الدولية لمكافحة الإرهاب، وسوف يكون هذا الإجراء موجهاً ضد القوى الدولية التي تجاهلت أو أيدت الانقلاب العسكري في النيجر وعارضت التدخل العسكري الفرنسي.
لذلك، يتوقع بعض المراقبين أن تتجه فرنسا إلى تبني خيارات سياسية وأمنية تشمل انسحابها من بعض الترتيبات والمبادرات الأمنية الدولية، على نحو سيوفر لفرنسا الموارد والجهد العسكري الذي يمكن تحويله إلى الدول الشريكة والحليفة لفرنسا في منطقة غرب أفريقيا، وتقديم مساعدات عسكرية في شكل برامج تدريب عسكري على عمليات مكافحة الإرهاب.
إجمالاً، يمكن القول إن استمرار فرنسا في تنفيذ خطة سحب قواتها من النيجر يأتي في سياق إعادة صياغة سياستها الأمنية والعسكرية في المنطقة بعد تصاعد الانتقادات والاحتجاجات الشعبية ضد وجودها العسكري، وسقوط ثلاثة نظم موالية لها في مالي والنيجر وبوركينافاسو بشكل أضرّ بمصالحها ونفوذها في المنطقة، وهيأ المجال أمام خصومها للتحرك من أجل ملء الفراغ الذي سوف ينتج عن انسحابها.