على عكس إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التي انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران في 8 مايو ٢٠١٨، لأنه لا يتضمن- حسب رؤيتها- تحجيم الدور الإقليمي لإيران الذي يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة، وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وتبنت سياسة “الضغوط القصوى” لإرغام طهران على الانخراط في مفاوضات جديدة حول قضايا غير نووية، اتجهت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض، في 20 يناير 2021، إلى اتباع سياسة تمنح الأولوية للاتفاق النووي في إدارة التفاعلات مع إيران، بالتوازي مع عدم التركيز على القضايا غير النووية، في ظل تراجع الاهتمام الأمريكي بمنطقة الشرق الأوسط. ولهذا قبلت إجراء مباحثات غير مباشرة مع إيران في فيينا. إلا أن نتائج الجولات الست السابقة من تلك المباحثات أثبتت صعوبة تحقيق الهدف الذي سعت من أجله إدارة بايدن مع وجود معارضين للصفقة في الولايات المتحدة الأمريكية وإيران وكذلك إسرائيل التي انخرطت فيما يرقى إلى حرب سرية مع إيران، على نحو دفع واشنطن مجدداً إلى التركيز على الملفات غير النووية التي تمثل الأخيرة طرفاً فيها.
إشكالية الدور
مع تعثر المفاوضات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في فيينا، وتزايد التوقعات بتبني الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي سياسة أكثر تشدداً، لاسيما مع تشكيل حكومة من تيار المحافظين الأصوليين المتشدد، ونفاد صبر الإدارة الأمريكية لتأخر عودة طهران لمحادثات فيينا، بدأت الأولى تركز على الدور الإقليمي لإيران، والقضايا غير النووية، في إطار ممارسة المزيد من الضغوط على النظام الإيراني للعودة إلى طاولة المفاوضات مجدداً، وإعادة الالتزام ببنود خطة العمل الشاملة المشتركة التي تنصلت طهران منها في أعقاب انسحاب الإدارة الأمريكية السابقة منها.
إذ أدركت الإدارة الأمريكية أن المشكلة لا تكمن في الصفقة النووية فقط، وإنما في الدور الإقليمي الإيراني الذي يتسبب في تهديد الاستقرار بالمنطقة، حيث كان هذا الدور أحد العقبات التي تحول دون نجاح الجهود التي تبذل للوصول إلى تسويات للأزمات الإقليمية المختلفة. فقد استغلت طهران تطورات الأوضاع في المنطقة، ولاسيما بعد ثورات الربيع العربي، وصعود تنظيم “داعش”، لتوسيع نطاق دورها في الإقليم، والسيطرة على القرار في بعض دوله، ولم يتوقف النظام الإيراني عن توفير الدعم والأسلحة لوكلائه في المنطقة حتى في ظل العقوبات الأمريكية الشديدة التي فرضتها الإدارة الأمريكية السابقة ضده.
آليات المواجهة
وعلى ضوء ذلك، اتخذت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال الأشهر الماضية العديد من الإجراءات التي كان من شأنها مواجهة الدور الإقليمي لإيران في المنطقة، في إطار سعيها إلى حث إيران على العودة إلى الالتزام بتعهداتها في الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥، وإن كانت في الوقت ذاته تحاول الموازنة بين التصعيد مع إيران، وتهدئه الأوضاع في المنطقة التي تستخدم طهران أزماتها لتعزيز نفوذها. ومن أبرز الإجراءات الأمريكية لمواجهة النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط ما يلي:
1- محاولة تقييد مبيعات النفط الإيراني: يعد النفط أحد المصادر الأساسية للاقتصاد الإيراني. كما أن العوائد التي تحصل عليها إيران من تصديره تمثل أحد مصادر تمويل الميليشيات المسلحة الداعمة لها في المنطقة. وقد أشارت تقارير عديدة، في 19 يوليو الفائت، إلى أن تعثر المحادثات في فيينا دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى دراسة خيار فرض عقوبات جديدة على مبيعات النفط الإيراني إلى الصين لممارسة ضغوط أقوى على طهران من أجل إبداء مرونة في المفاوضات قد تساعد في الوصول إلى صفقة.
2- فرض عقوبات على الحرس الثوري: أعلن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية، في 13 أغسطس الجاري، فرض عقوبات على شركات قال إنها توفر الدعم لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، اثنتين منها في عُمان، وواحدة في ليبيريا، وأخرى في رومانيا، حيث ترى الإدارة الأمريكية أن فيلق القدس يستخدم عائدات النفط الإيراني لتمويل أنشطته الخبيثة ويستخدم الوسطاء الأجانب للتغطية على دوره.
3- حجب المنافذ الإعلامية الإيرانية: اتخذت الحكومة الأمريكية، في 23 يونيو الماضي، قراراً بحجب 33 موقعاً تابعاً لاتحاد الإذاعات والتليفزيونات الإسلامية الإيرانية و3 مواقع تابعة لكتائب حزب الله المدعومة من إيران، بما فيها قناتها التلفزيونية البارزة “برس تي في” التي تبث باللغة الإنجليزية، وقناة “العالم” التي تبث باللغة العربية. وقد هدفت واشنطن من تلك الخطوة إلى توجيه رسالة لطهران وأذرعها الإعلامية في المنطقة بأنها لن تتركها تمارس أنشطتها المضللة بدون محاسبة، وأنها ستسعى إلى مواجهة آلة الدعاية الإيرانية في المنطقة بشكل فعّال، والتي تعد بالنسبة لطهران إحدى أدوات “القوة الناعمة” التي تساعدها في محاولات التمدد على الساحة الخارجية.
4- توجيه رسائل ردع عسكرية: كان لافتاً أنه على الرغم من التقارير التي تتحدث عن إعادة انتشار القوات الأمريكية في المنطقة في إطار الاستراتيجية التي تتبناها واشنطن لمواجهة الصين وروسيا، اتخذت الإدارة الأمريكية، في 23 أبريل الماضي، قراراً بإرسال قاذفتى “بي- 52” بالإضافة إلى تمديد مهمة حاملة الطائرات “يو إس إس آيزنهاور” في المنطقة، بهدف توجيه رسائل رادعة للنظام الإيراني، مفادها أن استمرار تطلع واشنطن للوصول إلى صفقة في فيينا لا يعني التغاضي عن الخطوات الاستفزازية التي تقوم بها طهران في المنطقة.
5- دعم الحلفاء في مواجهة إيران: على الرغم من معارضة الولايات المتحدة الأمريكية بعض مقترحات حلفائها في المنطقة، وفي مقدمتهم إسرائيل، للتعامل مع برنامج إيران النووي، وسياساتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، فإنها لم تتخل عن تقديم أوجه الدعم لهم في مواجهة السياسات الإيرانية. ففي أعقاب الهجوم على ناقلة نفط تديرها إسرائيل قبالة ساحل عُمان، في ٢٩ يوليو الماضي، ألقت إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية باللوم على طهران، وتوعد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن طهران برد مناسب على ضلوعها باستهداف ناقلة النفط المرتبطة بإسرائيل. كما أكد الرئيس بايدن خلال لقاءه رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في البيت الأبيض، في 27 أغسطس الجاري، على التزام واشنطن بمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، مشيراً إلى أنه “يتبع الأساليب الدبلوماسية لهذا الغرض لكن إذا فشلت فلديه أيضاً خيارات أخرى”.
ختاماً، على الرغم من اقتناع إدارة الرئيس بايدن بأهمية احتواء البرنامج النووي الإيراني، فإن ذلك ليس كافياً لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، إذ أنها ستكون في حاجة لمواجهة تدخلات إيران المتصاعدة في المنطقة مع تخفيف العقوبات الأمريكية نتيجة العودة المحتملة للامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة، حيث ستزداد- في هذه الحالة- موارد طهران التي قد تستخدمها في مواصلة دعم وكلائها في المنطقة، بشكل سوف يفرض تداعيات سلبية عليها.