صراعات مجتمعية:
مآلات الدعوة إلى تسليح “المدنيين” في السودان

صراعات مجتمعية:

مآلات الدعوة إلى تسليح “المدنيين” في السودان



تُثير الدعوات إلى تسليح المدنيين عموماً وفي شرق السودان بوجه خاص، مخاوف من توسع دائرة الحرب، ومن تحوّل الصراع إلى حرب أهلية، خاصةً مع التأثيرات السلبية المتوقّعة لهذا التوجه، حيث انتشار التنافس القبلي، بما يُمكن أن يؤدي إلى تصعيد هذا التنافس إلى الحرب الأهلية، فضلاً عن احتمال تحوّل شرق السودان إلى منطقة صراع إقليمي، مع تداعيات تمدد قبائل الشرق عبر الحدود الرخوة مع دول جوار السودان.

فبعد أكثر من 8 أشهر على اندلاع الصراع الدامي في السودان، بين الجيش والدعم السريع، ومع تقدم قوات الدعم في اتجاه الجنوب، تصاعدت في الآونة الأخيرة الأصوات الداعية إلى تسليح “المدنيين” في السودان عموماً، وفي شرق البلاد بوجه خاص. وعبر مجموعات تُطلق على نفسها “المقاومة الشعبية المُسلحة”، انتشرت هذه الدعوة في المناطق التي يُسيطر عليها الجيش، في ولايات النيل الأبيض ونهر النيل وإقليم شرق السودان.

بل إنّ اللافت أن مجلس نظارات البجا في الشرق، قد نظم لقاءات مع الإدارات الأهلية، بهدف التنسيق للانخراط فيما أُطلق عليه “القتال إلى جانب الجيش وتقديم الدعم له”. وعلى الجانب الآخر، دعت قوات الدعم السريع من يشاء من المناطق التي تُسيطر عليها، إلى التطوع لديها لتسليحهم، مؤكدة أن الهدف هو “أن يحمي هؤلاء مناطقهم”.

تأثيرات سلبية

لعل أهم التأثيرات السلبية لتسليح المدنيين عموماً، وفي شرق السودان بوجه خاص، تبدو عبر أكثر من جانب، أهمها الجوانب التالية:

1- عدم الاستقرار الأمني واحتمال الحرب الأهلية: وهو الاحتمال الذي يتبدى بوضوح، من خلال الحالة الأمنية الرخوة التي يُعاني منها شرق السودان، إضافة إلى ما يتوافر لدى الإقليم من كميات كبيرة من الأسلحة المتنوعة، التي تدفقت إليه من دول الجوار الجغرافي والإقليمي، خلال الصراع القبلي الذي نشب قبل عامين، بما يجعل القبائل المتنازعة على استعداد للدخول في الصراع الدائر، منذ 15 أبريل الماضي، بين الجيش وقوات الدعم السريع.

والمُلاحظ أن السودان لديه تاريخ حافل في تجارب تسليح المدنيين أدت إلى تأجيج الصراعات، كما حدث في إقليم دارفور غربي البلاد، في عام 2003، وراح ضحيته أكثر من 300 ألف قتيل، ونزوح 2.5 مليون من منازلهم، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة. وتبعاً لإحصائية رسمية، صدرت عام 2018، فإن هناك 5 ملايين قطعة سلاح في مختلف المناطق السودانية؛ إلا أنّ مجموعة الأبحاث “سمول أرمز سرفاي” تؤكّد أن 6.6% من السودانيين يمتلكون أسلحة نارية.

فإذا أُضيف إلى ذلك السلاح المتوافر لدى المليشيات المسلحة، سواء التي دخلت ضمن الاتفاق الإطاري، أو التي بقيت خارجه، يُصبح السودان بكامله، وليس إقليم الشرق فقط، على “فوهة بركان”.

2- إشكاليّات التنافس المجتمعي بين القبائل: فقد أدّى تسييس القبيلة في السودان، عبر تعمد نظام البشير توظيف القبائل، ومحاولة خلق كتلة قبلية موالية له، إلى تنامي الشعور بالهوية القبلية على حساب الهوية الوطنية، وبالتالي تفاقم الاستقطابات المجتمعية، وهو ما أدّى إلى جعل القبيلة أساساً للتناحر السياسي والمجتمعي، واتخاذ الصراع في البلاد الشكل القبلي، في شقيه الاجتماعي والاقتصادي.

وقد تجلّى ذلك بشكل واضح في شرق السودان في استمرار ليس فقط المساعي لحسم القضايا التنموية والصراع على الموارد بين قبائل الإقليم، ولكن أيضاً في مطالب الحكم الذاتي وتقرير المصير، وهي المطالب التي تتصاعد من آن لآخر في الإقليم. هذا فضلاً عن النزاعات المستمرة، سواء بين سكان الإقليم الأصليين، أو بينهم وبين الوافدين عليهم من أقاليم السودان، مثل مجموعات من قبائل المساليت والفور والهوسا، إضافة إلى الزغاوة.

ونتيجةً للتهميش الذي عانى منه إقليم الشرق، فقد اتجهت بعض مجموعاته القبلية إلى تبني العمل المسلح ضد “المركز” في العاصمة الخرطوم، مثل حزب مؤتمر البجا، وجبهة أسود الشرق. ومع دعوات تسليح المدنيين، يمكن أن يتزايد الصراع بين مكونات الإقليم، بما يدفع إلى إمكانية الحرب الأهلية.

3- تداعيات تمدّد قبائل السودان عبر الحدود الرّخوة: فالشرق الذي تتصاعد فيه الدعوات إلى التسلح، وبما يتميز به من خصوصية جيوسياسية، لا ينفتح فقط على تداعيات المشاهد الداخلية في دول الجوار، خاصة إثيوبيا وإريتريا، ولكن أيضاً على تفاعلات صراعات النفوذ الدولي حول سواحل البحر الأحمر، وهو الأمر الذي قد يؤدي، في ظل التمدد والارتباط القبلي جغرافياً، والاحتمالات القائمة حول مستقبل السودان، إلى حرب قد تتطاير شظاياها إلى الجوار الجغرافي للسودان.

إذ إن بعض مكونات الشرق، خاصة القبلية منها، لها امتدادات في إريتريا وإثيوبيا، وهذا التمدد القبلي جعل من شرق السودان حاضنة اجتماعية لكثير من حركات المعارضة لأنظمة الحكم في إثيوبيا، وكذلك لحركات التحرير الإريترية في حربها ضد إثيوبيا، عبر عملية الاستيعاب المستمر للعناصر الوافدة إلى الداخل السوداني.

هذا فضلاً عن أن الدعم الخارجي، المعنوي والمادي، لمكونات قبلية بعينها، بتمويلها وتسهيل حصولها على السلاح، كان قد تسبب في تفاقم الأوضاع القبلية في إقليم الشرق، فقد دفع بالمكونات القبلية الأخرى إلى التسلح دفاعاً عن وجودها.

4- التأثير على مواقف القوى المحلية في الصراع الحالي: فاندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم، قد فرض مناخات سياسية جديدة، واستفهامات حول مستقبل شرق السودان، في إطار تعاظم مهددات وحدة البلاد وتفاقم مخاطرها. فمن حيث إن الدعوات إلى التسليح العشوائي للمدنيين، والقبائل، أو اللجوء إلى تشكيل مليشيات مسلحة في إقليم الشرق، بهدف دعم الجيش في صراعه مع قوات الدعم، يجعل من السودان منفتحاً على أكثر الاحتمالات سوءاً في تاريخ الصراعات الداخلية التي شهدها السودان على مدار تاريخه الحديث.

وبالتالي، تكون النتيجة أن يتحول شرق السودان إلى مسرح للاستقطاب والمواجهة السياسية والعسكرية بين الطرفين المتصارعين في السودان، فضلاً عن الاصطفاف الذي سيحدث على خط التوتر القائم، في الأصل، بين المجموعات القبلية، سواء من تعتبر نفسها مجموعات أصلية في الإقليم، أو تلك التي تُصنَّف على أنها وافدة.

5- تحول إقليم الشرق إلى منطقة صراع إقليمي: رغم أن أزمة إقليم شرق السودان، هي بالأصل صناعة محلية؛ إلا أن التدخلات الإقليمية من دول جوار السودان، ساعد على تموضع هذه الدول، خاصة إريتريا وإثيوبيا، في عمق الاختلافات المجتمعية في الداخل السوداني.

أضف إلى ذلك أنّ صراعات النفوذ والهيمنة الدولية، والإقليمية، على سواحل البحر الأحمر، لا تنفصل عن الأزمة السودانية عموماً، والتفاعلات القبلية ومحركات الصراع في شرق السودان على وجه الخصوص. ويعود هذا إلى رغبة كلٍّ من روسيا وتركيا وإيران في إيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، عبر استغلال إشكاليات التناحر القبلي، لتفعيل الاتفاقات السابقة مع نظام البشير، بشأن إنشاء قواعد عسكرية في بورتسودان أو ميناء سواكن.

مشاهد مستقبلية

في هذا السياق، يُمكن القول إن الدعوات إلى تسليح المدنيين، ونتائجها، لن تُساهم في الحسم العسكري الذي يأمله الطرفان المتحاربان؛ بل على العكس ستؤدي إلى حرب أهلية واسعة، في ظل العصبية القبلية التي تُهيمن على النسيج المجتمعي في الإقليم. إذ إنّ الموقف المؤيد للجيش، من جانب محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا -كمثال- سيدفع القوى القبلية الأخرى، خاصة التي لها تاريخ من النزاع مع قبائل البجا، مثل بني عامر والرشايدة، إلى مساندة قوات الدعم السريع، من حيث إن لها مصالح معها.

ومن ثم فإنّ غياب الأفق لحل سلمي عبر طاولة التفاوض، بين الطرفين المتقاتلين، سوف يؤدي إلى أن يُطلّ الصراع في السودان على كافة الاحتمالات، إذ إن دعوات أصحاب الحرب والعنصرية، بل واختصار السودان في دولة البحر والنهر، قد تُعيد ترتيب القوى والاصطفاف القبلي في شرق السودان، وفي أقاليمه الأخرى. وفي ظل عدم تمكن القوى الاجتماعية في الشرق من تجاوز خلافاتها التاريخية، فإن تسليح القبائل في الإقليم، يطرح اثنين من السيناريوهات: إما تكرار سيناريو “دارفور”، أو تكرار سيناريو “انفصال الجنوب”؛ وهو ما يجعل مستقبل السودان، كدولة، على المحك.