أعلنت الأمين العام للحزب الدستوري الحر “عبير موسى”، في 22 ديسمبر 2021، قراراً بتوسيع التحركات الميدانية والقانونية لتحقيق أهداف “اعتصام الغضب” الذي ينفذه الحزب أمام مقر فرع “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” بالعاصمة التونسية منذ 14 ديسمبر الجاري، على أن تشمل هذه التحركات تقديم الشكاوى ضد من أسمتهم المسؤولين عن التخاذل في تطبيق القانون، إلى جانب تنظيم سلسلة من الوقفات الاحتجاجية أمام الوزارات والهيئات والمؤسسات المعنية بتنقية المناخ الانتخابي، بغرض القضاء على الفساد السياسي، ومنع إعادة تزوير إرادة الناخبين في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وجاء قرار الحزب الدستوري بمواصلة الاعتصام بسبب ما يتعرض له المعتصمون من مضايقات أمنية وانتهاكات لمنعهم من مواصلة ما أطلقوا عليه “اعتصام الغضب”، ووضع الحواجز الأمنية لمنعهم من الوصول إلى مقر الاتحاد بعد أن تقدم الأخير بطلب إلى السلطات الأمنية لحماية مقره، وهو ما دفع الحزب للإعلان عن تقدمه بشكاوى على المستويين الداخلي والخارجي، سواء لمؤسسة الرئاسة التونسية، وأيضاً للمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وذلك في مؤشر على تصعيد الاحتجاجات لحين الاستجابة لمطالبهم.
خمسة دوافع
جاء قرار الحزب الدستوري الحر بمواصلة الاعتصام وتصعيد حركة الاحتجاجات أمام مقر اتحاد العلماء المسلمين بالعاصمة تونس، وذلك بعد اتهام الحزب للسلطات التونسية بتجاهل مطالب المعتصمين، وذلك في محاولة لدفع الرئيس “قيس سعيد” وحكومته لاتخاذ قرار بإغلاق هذا المقر، وذلك للأسباب التالية:
1- الحفاظ على السيادة الوطنية لتونس: يرى الحزب الدستوري الحر أن استمرار نشاط اتحاد العلماء المسلمين في تونس من شأنه الخصم من سيادة الدولة التونسية، ومرجع ذلك إلى أن هذا الاتحاد الذي يقع المقر الرئيسي له داخل قطر، وتم افتتاح مقره بتونس منذ عام 2012 (عقب زيارة رئيسه السابق “يوسف القرضاوي” لتونس واتفاقه مع حركة النهضة على ذلك)، يخترق سيادة الدولة من خلال التنسيق والتعاون مع بعض الجمعيات الخيرية وبعض الأحزاب السياسية التونسية وعلى رأسها “حركة النهضة” داخل البلاد لتنفيذ أجندات خارجية تهدف إلى نشر أفكار ومعتقدات مغلوطة تؤثر على الوعي الفكري للشباب التونسي، وهو ما تشير إليه تصريحات رئيسة الحزب “عبير موسى” التي تضمنت اتهامات مباشرة للاتحاد بأنه ليس مؤسسة أو منظمة تنموية بقدر ما هو “وكر” لنشر الفكر المتطرف بغرض استهداف سيادة البلاد، وذلك من خلال توظيف بعض المفكرين الإسلاميين التونسيين ومن أبرزهم “حميدة النفيري” الذي يعمل على فتح المجال أمام انتشار المد الإيراني ونشر الفكر الشيعي داخل البلاد.
2- تمويل حركة النهضة في الاستحقاقات الانتخابية: كما يتهم الحزب هذا الاتحاد بتوظيفه من قبل قطر لتقديم الدعم المالي لحركة النهضة التي تتلقى عبره التمويلات التي قامت باستخدامها في تزوير إرادة الناخبين عبر شراء الأصوات في الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة التي أُجريت في عام 2019، وذلك وفقاً لما أعلنته دائرة المحاسبات التابعة للحكومة التونسية بتلقي حركة النهضة وحزب قلب تونس وقائمة “عيش تونسي” بتلقي تمويلات أجنبية، وهو ما دفع الرئيس “قيس سعيد” بتوجيه القضاء لفتح ملفات تورط حركة النهضة في الحصول على التمويلات الأجنبية، والكشف عن نتائج هذه التحقيقات للرأي العام التونسي في إطار حربه ضد الفساد المالي.
3- توفير غطاء لحماية تحركات النهضة ضد رئيس الدولة: كما يتهم الحزب اتحاد العلماء المسلمين بأنه غطاء لتحركات حركة النهضة داخل البلاد، حيث أعلن توافقه السياسي مع حركة النهضة منذ عام 2014، وقيام بعض قيادات حركة النهضة في السابق بإدارة وتسيير شؤون الاتحاد داخل البلاد وذلك بصفة غير قانونية، ومؤخراً عبر التنسيق مع حراك ما يطلق عليه “مواطنون ضد الانقلاب” الذي أسسه حركة النهضة لتقوم بتوظيفه في صراعها ضد رئيس الدولة “قيس سعيد” من خلال تنظيم بعض المظاهرات والاحتجاجات في 17 ديسمبر الجاري للتعبير عن رفضهم الإجراءات الاستثنائية، وخاصة فيما يتعلق باستمرار تعليق عمل البرلمان وحتى إجراء انتخابات برلمانية في 17 ديسمبر 2022، حيث تطالب حركة النهضة بإنهاء هذه الإجراءات، وكان هذا الحراك قد أعلن تنظيم اعتصام مفتوح ضد قرارات الرئيس “سعيد”؛ إلا أنه اتّخذ قراراً بإنهاء الاعتصام بحجة المضايقات الأمنية، وهو ما دفع الحزب الدستوري الحر لاتهام الدولة بعدم جديتها في التعامل مع حراك “مواطنون ضد الانقلاب” التابع لحركة النهضة.
4- تقديم تعليمٍ موازٍ للجامعات التونسية: حيث يقدم فرع اتحاد العلماء المسلمين في تونس نفسه على أنه مؤسسة علمية فقهية دينية تقوم بتقديم دورات في العلوم الشرعية لمدة ثلاث سنوات دون رسوم مالية للمتقدمين للتسجيل في هذه الدورات، وهو ما يثير التساؤلات حول مصادر تمويل الاتحاد من جهة، وعن الاستفادة التي يحصل عليها الاتحاد من تقديم هذه الدورات لمدة ثلاث سنوات بطريقة شبه مجانية للدارسين فيها بما ينافس الجامعات الوطنية من جهة أخرى، الأمر الذي يثير الشكوك حول النوايا الحقيقية لدور الاتحاد في التأثير على توجهات وأفكار الطلاب التونسيين وتغيير توجهاتهم العقيدية لتأييد تنظيم الإخوان المسلمين وفرعه “حركة النهضة” داخل البلاد، وتنبع خطورة ذلك في تقديمهم وعوداً للطلاب بمنحهم وظائف داخل وزارة الشؤون الدينية، في محاولة للحصول على غطاء قانوني لأنشطتهم، كما يوظف الاتحاد هذه المشروعية الدينية لشرعنة الدعم التركي القطري للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
5- الدفاع عن مدنية الدولة: يستند الحزب الدستوري الحر في إصراره على إغلاق مقر اتحاد العلماء المسلمين داخل البلاد، إلى أن بقاء أنشطته واستمرار تعاونه مع حركة النهضة يمثل تنفيذاً لمشروع أخونة الدولة، وهو ما يتعارض مع مدنية الدولة التونسية، الأمر الذي يستند إليه الحزب في دعوة الاتحاد التونسي العام للشغل ومنظمات المجتمع المدني التونسية للانضمام إلى مطالبه بإغلاق مقر الاتحاد في البلاد.
فرص متاحة
وفي إطار إعلان الحزب الدستوري تصعيد نشاطه الاحتجاجي ومواصلة الاعتصام أمام مقر اتحاد العلماء المسلمين لحين الاستجابة لمطالبه بإغلاق المقر، فإن هناك بعض الفرص المتاحة التي توفرها البيئة السياسية الحالية داخل البلاد، بشكل يساعد في إغلاق المقر، ومن أهمها ما يلي:
1- استمرار الحرب ضد الفساد: فمع مواصلة الإجراءات التي أعلن عنها الرئيس “قيس سعيد” الخاصة بالقضاء على الفساد بشتى صوره سياسياً ومالياً وإدارياً، فقد ينتج عن التحقيقات التي بدأت للكشف عن حقيقة تورط حركة النهضة في تلقي تمويلات أجنبية خلال الحملات الانتخابية البرلمانية والرئاسية لعام 2019، إثبات ذلك بالفعل، وفي حالة إثبات ذلك فإن اتحاد العلماء المسلمين داخل تونس سيكون أحد مصادر حصول حركة النهضة على هذه التمويلات، وهو ما يمنح الرئيس “سعيد” سنداً قانونياً لإغلاقه.
2- تواصل الحالة الاستثنائية: يسعى الحزب الدستوري الحر أيضاً لاستثمار وتوظيف الحالة الاستثنائية المفروضة في البلاد منذ شهر يوليو الماضي، من أجل دفع الرئيس “سعيد” لمواصلة اتخاذ المزيد من القرارات والإجراءات الاستثنائية لإغلاق مقر اتحاد العلماء المسلمين انطلاقاً من الحفاظ على سيادة الدولة ضد الاختراقات الخارجية التي تمارسها بعض الدول والجهات الخارجية عبر هذا الاتحاد الذي كان له موقف معارض للإجراءات الاستثنائية التي فرضها الرئيس “سعيد” في يوليو الماضي، وإعلانه مساندته لحركة النهضة ضد هذه القرارات، ووصفها بالانقلاب الدستوري والاستبداد.
3- اتجاه الرأي العام التونسي لإقصاء النهضة: يوجد توجه عام داخل المجتمع التونسي في الوقت الراهن يرغب في القضاء على حركة النهضة وإقصائها بشكل تام من الحياة السياسية التونسية، وذلك استناداً إلى ما أدت إليه سياساتها ومواقفها طوال السنوات العشر الأخيرة من تأزيم الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد، كما أنها السبب الرئيسي في دفع الرئيس “سعيد” لإعلان الإجراءات الاستثنائية في محاولة منه لحل الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد منذ مطلع العام الجاري بسبب ممارسات حركة النهضة. وفي هذا السياق، قد يستجيب الرئيس “سعيد” لمطالب اعتصام الغضب وإغلاق مقر الاتحاد في البلاد، وذلك على غرار ما قامت به السودان في مرحلة ما بعد عزل “عمر البشير”، وذلك بهدف تحييد قدرات الإخوان المسلمين ومنعهم من العودة للسلطة مرة أخرى.
4- الحفاظ على دور الجامعات الوطنية: قد يستجيب الرئيس “قيس سعيد” للدعوات الداخلية المتزايدة، وخاصة من قبل أساتذة الجامعات الذين يحذرون من خطورة تدخل اتحاد علماء المسلمين في اختصاصات وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي بصفتهما مسؤولتين عن تقديم النشاط المعرفي للشعب التونسي، وأن استمرار الاتحاد في ممارسة هذا الدور –رغم عدم حصوله على ترخيص من وزارة التعليم العالي لمباشرة التعليم الخاص- من شأنه تناقض الصلاحيات بين مؤسسات الدولة والجهات الأخرى التي قد تنشر فكراً متطرفاً عبر مقررات دراسية لا تخضع لإشراف ورقابة الدولة.
5- مواجهة التورط في القضايا الإرهابية: في ظل ارتباط اتحاد العلماء المسلمين بحركة النهضة التي سبق ووُجهت لها اتهامات بالتورط في قضايا إرهابية، وفي ظل دعم الاتحاد للحركة فإنه يمكن حله وفقاً لمقتضيات قانون مواجهة الإرهاب التونسي، كما يمنح تصنيف بعض الدول العربية -مثل مصر والسعودية والإمارات والبحرين- الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في عام 2017 تنظيماً إرهابياً إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين، دافعاً للدولة التونسية لاتخاذ قرار مشابه أو على أقل تقدير تعليق أنشطته داخل البلاد، للتأكد من انقطاع صلته بحركة النهضة داخل البلاد، وحرمانها من مصدر تمويل رئيسي لها، ومن ثم تحييد قدرتها على التحرك خلال الفترة القادمة.
عقبات محتملة
غير أن هناك بعض العقبات المحتملة التي قد تقف في طريق تحقيق اعتصام الغضب لأهدافه، ومن أبرزها ما يلي:
1- عدم جدوى الاعتصام المفتوح: حيث لم تكن هذه المرة هي الأولى التي يقوم فيها الحزب الدستوري الحر بتنظيم اعتصام أمام مقر اتحاد العلماء المسلمين والمطالبة بإيقاف أنشطته وإغلاق مقره داخل البلاد، فقد كانت المرة الأولى في نوفمبر 2020، وعندما لم تجد استجابة من السلطات لذلك تم فض الاعتصام، إلا أنه عاد مرة أخرى للاعتصام المفتوح في مارس الماضي، ثم في 14 ديسمبر الجاري، وهو ما قد يُعطي انطباعاً بمحدودية فرص هذا الاعتصام في تنفيذ أهدافه.
2- الحاجة إلى حكم قضائي: يبدو أن إصدار قرار رئاسي بإنهاء أنشطة اتحاد المسلمين ومحاسبة مسؤوليه وحله وإخراجه من البلاد يتطلب حكماً قضائياً لتحقيق ذلك، خاصة وأن القضاء التونسي قد رفض قبل عام (في عام 2020) الدعوى القضائية التي رفعها الحزب الدستوري الحر لإيقاف نشاط اتحاد العلماء المسلمين في البلاد.
3- حيادية الرئيس “قيس سعيد”: رغم إثارة قضية اتحاد العلماء المسلمين وعلاقته بتمويل حركة النهضة، إلا أن الرئيس “سعيد” لم تصدر عنه أية تصريحات في هذا الشأن حتى الآن، ويُمكن تفسير ذلك انطلاقاً من حرصه على عدم التدخل بشكل مباشر في هذه المسألة، تجنباً لاتهامه بالانحياز لطرف دون آخر، وربما لاختلاف رؤية الرئيس “سعيد” عن رؤية الحزب الدستوري بشأن مصادر الخطر التي تهدد أمن ووحدة الدولة التونسية، وتمسكه بالقواعد القانونية والدستورية في اتخاذ القرارات المصيرية، وهو ما قد يؤجل اتخاذ قرار بإغلاق مقر الاتحاد لبعض الوقت.
شرعية قانونية
خلاصة القول، تُرجِّح المعطيات الراهنة إمكانية اتجاه الرئيس التونسي “قيس سعيد” للاستجابة لمطالب تعليق أنشطة اتحاد العلماء المسلمين في تونس، وذلك استناداً إلى توافر العوامل الدافعة لاتخاذ مثل هذا القرار؛ إلا أن المؤشرات تذهب في اتجاه انتظار الرئيس “سعيد” لنتائج التحقيقات في قضية حصول حركة النهضة على تمويلات أجنبية، لإضفاء شرعية قانونية على قرار إغلاق مقر الاتحاد بالبلاد.