إعادة تموضع:
لماذا يوسع “القاعدة” من عملياته في جنوب اليمن؟

إعادة تموضع:

لماذا يوسع “القاعدة” من عملياته في جنوب اليمن؟



يسعى تنظيم “القاعدة” في اليمن إلى زيادة النشاط العملياتي في مناطق نفوذه التقليدية، ومحاولة استمالة القبائل. ورغم تمكن التنظيم من إحداث اختراق أمني فإن هجماته لا تزال محدودة، ولكنها تعكس تهديداً متصاعداً، في إطار تدشين مرحلة جديدة أطلق ملامحها زعيم التنظيم خالد باطرفي في نوفمبر الماضي، إضافة إلى ترقب محاولات تسوية الأزمة اليمنية لإمكانية استغلال ذلك في عمليات التجنيد، فضلاً عن تراجع الغارات الأمريكية ضد التنظيم، وأخيراً محاولة استغلال التوترات والخلافات بين عدد من المكونات في الجنوب، وقطع الطريق على توحيد جهود التقارب بين مختلف الأطراف.

تشهد محافظات جنوب اليمن حالة من القلق والاستنفار في ظل الترتيبات لعملية مشتركة بين المكونات العسكرية والأمنية في أبين، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة لملاحقة عناصر تنظيم “القاعدة”، بعد نشاط ملحوظ خلال الأشهر القليلة الماضية، كان آخرها هجومين في محافظتي شبوة وأبين (22 يونيو 2022)، أسفرا عن مقتل 10 جنود على الأقل وإصابة آخرين.

وتمكن تنظيم “القاعدة” من إحداث اختراق أمني في محافظات الجنوب، من خلال سلسلة عمليات متنوعة، بما يشير إلى تركيز التنظيم خلال الفترة المقبلة على توسيع نشاطه في شبوة وأبين على وجه الخصوص، وتراجع العمليات ضد الحوثيين في نقاط المواجهة؛ إذ أشار التنظيم في أكثر من مرة إلى تنفيذ عمليات ضد الحوثيين، وتحديداً في محافظة البيضاء.

ولكن يبقى أن محددات النشاط العملياتي لتنظيم “القاعدة” في اليمن، محكومة بعدد من العوامل المتعلقة بالتنظيم ذاته بعد تراجع ميداني بداية من 2016، بعد سلسلة عمليات وضربات للتنظيم بعد السيطرة على مدينة المكلا، في أعقاب انقلاب الحوثيين، وتعدد المكونات الأمنية والعسكرية في الجنوب، وانحياز القبائل لتحالف دعم الشرعية.

طبيعة النشاط

ركّز تنظيم “القاعدة” في اليمن خلال السنوات القليلة الماضية، على إبراز دوره في مواجهة الحوثيين بغض النظر عن الأهداف، ولكن خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحديداً منذ أواخر العام الماضي، بدا أن ثمة تحولاً في استراتيجية التنظيم، والاتجاه إلى النشاط في معاقله التقليدية في شبوة وأبين. ويمكن الوقوف على طبيعة نشاط التنظيم على النحو التالي:

1- شن هجمات محدودة: في ضوء حالة التراجع والضعف التي يعاني منها تنظيم “القاعدة” منذ عام 2016، بفعل ضربات التحالف والتشكيلات الأمنية والعسكرية في الجنوب، والغارات الجوية الأمريكية، ورغم تمكن التنظيم من إحداث اختراق أمني في شبوة وأبين؛ إلا أن عملياته ظلت محدودة، فلم ينفذ التنظيم عمليات موسعة، ولكن تلك الهجمات كانت مؤثرة، ومنها محاولة اغتيال قائد الحزام الأمني عبداللطيف السيد (23 مارس 2022)، وتبعها هجومان يوم (22 يونيو 2022)، الأول استهدف قوات حكومية في محافظة أبين، والثاني استهدف نقطة تفتيش أمني في مدينة عتق بمحافظة شبوة، ولكن تلك العمليات تعكس -في الوقت ذاته- امتلاك التنظيم قدرات لشن هجمات منظمة في إطار قدرة على التكييف، وتحديداً محاولة استهداف قائد الحزام الأمني، إذ إنها عملية مركبة.

2- اختيار أهداف محددة: يُشير الهجومان في شبوة وأبين إلى استراتيجية التنظيم في تحديد طبيعة الأهداف خلال المرحلة الحالية لاستعادة نفوذه مجدداً في محافظات الجنوب، إذ ترتكز على استهداف من وصفهم بـ”القوات الموالية للإمارات”، وحددها في بيان صادر في (26 يونيو 2022) بـ”الحزام الأمني، والنخبة الحضرمية، وقوات دفاع شبوة”. البيان أوضح جانباً من توجهات الحركة، بالتبرؤ من عملية أبين، التي استهدفت قوات حكومية، وعدها محاولة فردية من قبل عناصره رغم التعليمات بعدم تنفيذ عمليات ضد قوات ما أسماها بقوات “حكومة شقرة”. اللافت أيضاً أن التنظيم أصدر بياناً مماثلاً للإعلان عن عدم مسؤوليته عن تنفيذ عملية ضد “قوات العمالقة” في منطقة المحفد في أبين قبل شهرين. وهنا فإن التنظيم لا يرغب في توسيع دائرة المواجهة مع الأطراف المختلفة في جنوب اليمن، منعاً لتوحدها لمواجهة الاختراق الأمني الذي أحدثه التنظيم خلال الأشهر القليلة الماضية، في ضوء اتجاه لتحديد أهدافه بشكل معلن.

3- تبني نمط لا مركزي: بيان تنظيم “القاعدة” الأخير في (26 يونيو 2022)يوضح جانباً كان متوقعاً باعتماد التنظيم على “لا مركزية” في النشاط العملياتي خلال المرحلة الحالية من محاولة استعادة نفوذه في الجنوب اليمني، في إطار قدرات التنظيم على “التكيف” مع المتغيرات في البيئة المحيطة، وكان اللجوء إلى نهج “اللا مركزية” في النشاط محكوماً بالرغبة في محاولة توسيع النشاط في أكثر من محافظة. وهنا فإنه نهج ملائم، في ضوء محددات، منها:

أولاً: الرغبة في خفض مستويات التواصل بين القيادات لمواجهة أي استهداف من قبل الولايات المتحدة باستخدام الطائرات من دون طيار.

ثانياً: إمكانية تقسيم عناصره إلى مجموعات صغيرة، بما يمكنها من التحرك بسهولة، ويقلل من مخاطر رصد التحركات من قبل المكونات الأمنية والعسكرية.

ثالثاً: تحقيق أكبر قدر ممكن من حالة الانفلات الأمني، بصورة يصعب معها بالنسبة للمكونات الأمنية القضاء على نشاط التنظيم، في إطار من استراتيجية الإرباك المتعمد. ويتضح اللجوء لهذا النهج من خلال بيان التنظيم الأخير بأن الهجوم على قوات حكومية في أبين، جاء من قبل عناصره رغم التأكيد على عدم تنفيذ عمليات ضد تلك القوات، بما يشير إلى أن التخطيط لم يعد مركزياً، وإنما أصبح اختيار الأهداف يخضع لكل مجموعة. ولكن اللافت أن العملية الأخيرة جاءت في إطار مخالفة التوجهات العامة للقيادة المركزية للتنظيم، من دون إغفال احتمالية إقدام التنظيم على المناورة بالتبرؤ، لخفض حدة الضغوط عليه.

4- اتّباع تكتيك عملياتي متوسط: وبقدر ما يعكس التكتيك العملياتي لتنظيم “القاعدة” أنه لا يزال يمتلك قدرات، إلا أنها تعكس أيضاً محدودية في التنفيذ، يمكن تقييم عمليات التنظيم بـ”المتوسطة”، في إطار استخدام سيارة مفخخة في واقعة محاولة اغتيال قائد الحزام الأمني في أبين، واتباع نمط الهجمات على النقاط الأمنية. وبخلاف محاولة اغتيال قائد الحزام التي يمكن النظر إليها على أنها “معقدة” في ظل قدرة التنظيم على عمليات الرصد والاستطلاع واستخدام سيارة مفخخة وهجوم انغماسي على الموكب؛ إلا أن الهجمات على النقاط الأمنية لا تعكس امتلاك التنظيم قدرات كبيرة، خاصة أنها لم تكن على تمركزات كبيرة، وإنما كانت على نقاط تضم بضعة أفراد فقط في إطار “الهجمات الخاطفة”. وهنا فإن التكتيك العملياتي مناسب لاختيار الأهداف، ولكن يشير إلى عدم رغبة التنظيم في الدخول في مواجهات تزيد من مخاطر فقدان العناصر، في ظل استنزاف التنظيم خلال السنوات الماضية، وفقدان عدد كبير من القيادات والعناصر.

مكاسب محتملة

وفي ضوء حالة الاختراق الأمني التي تمكن تنظيم “داعش” من إحداثها، والتي لا تعكس قدرات كبيرة للتنظيم، يمكن الإشارة إلى عوامل هذا التصعيد والنشاط في محافظات الجنوب اليمني، كالتالي:

1- تدشين مرحلة جديدة: في نوفمبر 2021 وعبر حوار مطول بدا أن زعيم فرع القاعدة في اليمن خالد باطرفي، يدشن مرحلة جديدة للتنظيم في اليمن، بعد التراجع خلال السنوات الماضية. هذه المرحلة تعتمد في الأساس على تكتيكات “حرب العصابات”، التي تركز على العمليات الخاطفة وعدم التوسع في الوجود الميداني، بعد مرحلة من ترتيب الصفوف وتراجع مشاركة “القاعدة” في أي مواجهات مع الحوثيين. وسبق أن أشارت تقارير إعلامية محلية إلى أن التنظيم يسعى لترتيب صفوفه مجدداً، واتخاذ بعض المواقع لتدريب عناصر جديدة في محافظة شبوة، وهي مرحلة تعتمد على محاولة استمالة قبائل الجنوب، بعد تراجع أي دعم مقدم للتنظيم، والانحياز إلى تحالف دعم الشرعية، والمشاركة في القوات المشكلة بالجنوب لمواجهة التنظيم، وبدا واضحاً من خلال حوار باطرفي، الرغبة في توسيع عمليات التجنيد بين أبناء قبائل الجنوب.

2- تراجع الضربات الأمريكية: كانت الضربات الأمريكية لاستهداف قيادات وعناصر تنظيم “داعش” فعالة في إحداث خلل في التسلسل القيادي داخل التنظيم، عبر استهداف زعيميه “أبو بصير الوحيشي” و”قاسم الريمي”، واستهداف قيادات الصف الأول الفاعلة مثل إعلان التنظيم عن مقتل المسؤول العسكري صالح بن سالم بن عبيد عبولان، المعروف بـ”أبو عمير الحضرمي” (يناير 2022). ولكن اللافت أن الضربات الجوية الأمريكية باستخدام الطائرات من دون طيار تراجعت بصورة ملحوظة، إذ وصل عدد الضربات خلال 2021 إلى أقل معدل منذ عام 2009 و2010، وفقاً لإحصاءات موقع “Mew America”، كما أن ثمة علاقة طردية بين زيادة الضربات الأمريكية على تنظيم “القاعدة” والنشاط المتزايد. وهنا قد تتجه أمريكا إلى تنفيذ ضربات جديدة إذا توسع التنظيم ميدانياً خلال الفترة المقبلة، في ضوء تخوفات الولايات المتحدة من عودة محتملة للتنظيم، وما يمثله من خطورة على إمكانية التخطيط لهجمات ضد الولايات المتحدة وحلفائها ومصالحها.

3- ترقّب تسويات الأزمة اليمنية: ربما تتعدد أهداف التنظيم من النشاط العملياتي في جنوب اليمن خلال الفترة الحالية، وعدم الاقتصار فقط على توسيع عمليات التجنيد من أبناء قبائل اليمن فقط، وإنما قد تكون هناك أهداف بعيدة تتعلق بترقب إمكانية تسوية الأزمة اليمنية مع الحوثيين، في إطار المشاورات الجارية في ظل الهدنة مع تحالف دعم الشرعية والقوات الحكومية والمكونات العسكرية في اليمن، إذا حدثت تسوية للصراع العسكري، يمكن أن يستغل التنظيم ترتيبات المشهد عقب انتهاء هذا الصراع لصالحه، من خلال محاولة استقطاب أبناء القبائل الذين انخرطوا في مواجهة الحوثيين، وعقب انتهاء المواجهات قد لا تنخرط كل المجموعات المسلحة في عملية دمج كل المكونات العسكرية في البنى العسكرية والأمنية الجديدة، ولذلك فإن التنظيم يركز على الانحياز إلى صف قبائل الجنوب اليمني والسعي لعدم إثارة أي توترات، دون غيرها من المكونات أو التشكيلات.

4- استغلال الخلاف بين المكونات في الجنوب: يسعى تنظيم “القاعدة” إلى خلط الأوراق وقطع الطريق على محاولات الاستقرار في جنوب اليمن، بعد تسليم السلطة لمجلس رئاسي، وهنا فإن التنظيم يلعب على الخلافات بين المكونات الأمنية والعسكرية في الجنوب؛ إذ إن استمرار هذه الخلافات والتوترات يشكل بيئة مناسبة للنشاط العملياتي من ناحية إمكانية التحرك بحرية نسبية بين النطاقات الجغرافية لتمركزات المكونات المختلفة داخل المحافظة الواحدة، أو بين المحافظات، في إطار من لا مركزية في إدارة المشهد الأمني، إضافة إلى أن استمرار التوترات يضمن للتنظيم عدم توحيد الجهود بين كل المكونات لملاحقته، وهذا يتضح من خلال نفي استهداف قوات العمالقة، إضافة إلى توجيه خطابه إلى قبائل أبين بالتدخل لوقف العملية المشتركة المرتقبة بين المكونات العسكرية والأمنية ضده، خاصة أن توحيد الجهود بين كل المكونات العسكرية والأمنية في الجنوب ساهمت في طرد عناصره من المناطق التي كانت تحت سيطرته وتحديداً المكلا بداية من 2016.

تهديد متصاعد

وأخيراً، فإن تنظيم “القاعدة” في اليمن يسعى لتدشين مرحلة جديدة من النشاط العملياتي خلال الفترة الحالية، يسعى من خلالها لإعادة التموضع في مناطق نفوذه التقليدية في تراجع التنظيم بداية من عام 2016. ورغم محدودية النشاط العملياتي إلا أنه يمثل تهديداً متصاعداً يستوجب التدخل وتوحيد جهود المواجهة وزيادة التنسيق بين المكونات العسكرية والأمنية جنوب اليمن قبل تزايد قدرات التنظيم مستقبلاً.