للمرة الثانية خلال عشرة أشهر، يقوم تنظيم “داعش” بتنفيذ هجوم داخل مرقد شاهچراغ، الذي يضم مرقد الإمام أحمد شقيق الإمام الشيعي الثامن علي الرضا، إذ تعرض المرقد لهجوم، في 13 أغسطس الجاري، أسفر عن مقتل شخص وإصابة 8 آخرين، واعتقال الإرهابي المنفذ (وهو رحمت الله نوروزوف الذي يحمل جنسية طاجيكستان) و8 أجانب آخرين مشتبه فيهم، فيما فر إرهابي آخر هارباً، وهو الهجوم الثاني من نوعه بعد العملية التي وقعت في 26 أكتوبر الماضي وأسفرت عن مقتل 13 شخصاً وإصابة 30 آخرين.
وفي الواقع، فإن وقوع هذا الحادث في هذا التوقيت يطرح دلالات عديدة ترتبط بالمواجهة بين السلطات الإيرانية والتنظيم من جهة، والتطورات السياسية التي تشهدها الساحة الداخلية الإيرانية من جهة أخرى، والتفاعلات التي تجري بين إيران ودول الجوار الغربي من جهة ثالثة.
دوافع عديدة
يمكن تفسير إقدام “داعش” على تنفيذ هذا الهجوم مجدداً في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- استغلال الثغرة الأمنية الأضعف في الداخل الإيراني: ربما يعود تركيز “داعش” على استهداف مرقد شاهچراغ تحديداً إلى أنه يعد المنطقة التي تخضع لإجراءات أمنية أقل مقارنة بالمزارات الشيعية الأخرى الموجودة في إيران، ولا سيما مرقد الإمام الرضا نفسه في مدينة مشهد أو ضريح السيدة المعصومة (شقيقة الرضا) في مدينة قم. ويبدو أنّ السلطات الإيرانية قد اتخذت إجراءات أمنية معقدة في هذه المناطق، خاصة بعد أن قام “داعش” أيضاً باستهداف ضريح مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني في 7 يونيو 2017.
ويبدو ذلك واضحاً من الطريقة السهلة التي اخترق بها المنفذون بوابات المرقد، ولا سيما في الهجوم الأول الذي وقع في 26 أكتوبر الماضي. ورغم أنّ منفذي الهجوم الثاني وجدا صعوبة، على ما يبدو، في تنفيذه، فإن ذلك لم يمنعهما من إطلاق النار على نحو أدى إلى مقتل شخص وإصابة 7 آخرين، على نحو يعني أن هناك خللاً أمنياً ما زال قائماً في المرقد حتى الآن.
2- الرد على عمليات الإعدام بحق بعض المدانين: كان لافتاً أن الهجوم جاء بعد نحو شهر من تنفيذ أحكام الإعدام بحق بعض المدانين بالمشاركة في الهجوم الأول. ففي 7 يوليو الفائت، قامت السلطات الإيرانية بتنفيذ حكمي إعدام بحق كل من محمد رامز رشيدي وسيد نعيمي رشيدي قتالي، بعد إدانتهما بـ”الإفساد في الأرض، والعمل على تقويض الأمن القومي للبلاد”. كما صدرت أحكام بالسجن ضد ثلاثة آخرين تتراوح بين 5 و15 و25 عاماً.
وهنا، فإن “داعش” يسعى -على ما يبدو- إلى توجيه رسالة مباشرة إلى السلطات الإيرانية مفادها أن لديه القدرة على تنفيذ مزيد من الهجمات داخل إيران رغم الإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات الإيرانية ورغم الأحكام التي صدرت ضد بعض المنتسبين له وتم تنفيذها.
3- استباق الذكرى الأولى للاحتجاجات الإيرانية: وقع الهجوم الثاني قبل نحو شهر من حلول الذكرى الأولى للاحتجاجات التي شهدتها إيران في منتصف سبتمبر الماضي، اعتراضاً على الإجراءات التي اتخذت ضد الفتاة الكردية مهسا أميني بتهمة عدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب وأدت إلى وفاتها في النهاية. فقد وقع الهجوم الأول خلال تصاعد حدة هذه الاحتجاجات، وهو ما دفع السلطات الإيرانية إلى استغلال ذلك للترويج لأن هناك صلة بين “داعش” وبعض المحتجين في الداخل، باعتبار أن الهدف مشترك بين الطرفين وهو نشر الفوضى وتقويض دعائم النظام الحاكم.
وفي ضوء ذلك، يبدو أن التنظيم يسعى أيضاً إلى توجيه رسالة أخرى مفادها أنه يستطيع اختراق الإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات الإيرانية في أي وقت، حتى بعد نجاح الأخيرة في احتواء الاحتجاجات، بشكل يعكس قدراته التنظيمية التي مكنته من استقطاب متعاطفين معه من جنسيات مختلفة للإقدام على تنفيذ هذه النوعية من الهجمات.
4- استغلال التوتر بين إيران و”طالبان”: لا يمكن استبعاد أن تكون هناك علاقة، على الأقل غير مباشرة، بين وقوع الهجوم الثاني في المرقد، وتصاعد حدة التوتر في العلاقات بين حركة “طالبان” الأفغانية وإيران، بسبب الخلاف على حصص مياه نهر هلمند التي تصل إلى إيران. فقد كان لافتاً أن الهجوم جاء بعد أيام من نشر تقارير تكشف عن أن “طالبان” تقوم بإرسال انتحاريين ومعدات عسكرية إلى الحدود مع إيران.
وهنا، فإن ثمة احتمالين يمكن طرحهما في هذا السياق: الأول، هو أن “طالبان” ربما تكون قد تغاضت عن محاولات تنظيم “داعش” اختراق الحدود مع إيران، رغم الخلاف الظاهر بين “طالبان” والتنظيم، باعتبار أن ذلك قد يكون إحدى آليات إدارة الصراع مع إيران.
والثاني، أن التنظيم استغل التوتر الحالي في العلاقات بين الطرفين من أجل القيام بهذا الهجوم، وبالتالي المساهمة في تأجيج هذا التوتر وتعزيز احتمالات تحوله إلى مواجهة مباشرة بين الطرفين سوف يكون التنظيم أول الأطراف المستفيدة منها، باعتبار أن ذلك يمكن أن يهيئ المجال أمام دعم نفوذه داخل أفغانستان وإيران في آن واحد.
5- الاتجاه نحو استغلال الخلاف المذهبي: يبدو أن التنظيم سوف يركز في الفترة القادمة على استغلال الخلاف المذهبي بين إيران الشيعية وبعض دول الجوار السنية، في منطقة وسط آسيا والقوقاز، على غرار أفغانستان وطاجيكستان وغيرها، ومن داخل الطائفة السنية الإيرانية نفسها، من أجل تعزيز قدرته على تجنيد مزيد من العناصر وضمها إلى صفوفه. وربما يحاول في هذا السياق الاستناد إلى مبررين:
الأول: السياسات التعسفية والتمييزية التي تمارسها السلطات الإيرانية سواء ضد الطائفية السنية والقوميات العرقية، أو ضد اللاجئين والمهاجرين إليها، لا سيما اللاجئين الأفغان.
والثاني: الدور الذي قامت به إيران في الصراع السوري، حيث ساهمت في استمرار النظام السوري في الحكم، عبر تأسيس مليشيات شيعية بعضها كان من اللاجئين والمهاجرين إلى أراضيها، على غرار “فيلق فاطميين” الأفغاني، و”فيلق زينبيين” الباكستاني. وقد كان لافتاً أن السلطات الإيرانية أعلنت، في 11 نوفمبر الماضي، أنها اعتقلت كافة “التكفيريين” المشاركين في الهجوم الأول على المرقد، وجميعهم من جنسيات أجنبية ولا سيما من أفغانستان وأذربيجان وطاجيكستان.
استغلال الحادث
من المتوقع أن تسعى إيران إلى استغلال الهجوم الجديد الذي أعلن تنظيم “داعش” مسؤوليته عنه، لتحقيق هدفين:
الأول، هو شن حملة مسبقة ضد الاحتجاجات التي يتوقع أن تتصاعد خلال المرحلة القادمة، مع اقتراب حلول الذكرى الأولى لوفاة مهسا أميني، في 15 سبتمبر القادم، من خلال تأكيد أنها لا تسعى إلى الضغط من أجل إجراء تغييرات في السياسة التي يتبناها النظام، على المستويات المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإنما إلى نشر الفوضى وعدم الاستقرار وتقويض دعائم النظام الحاكم.
والثاني، توفير مزيد من المبررات لمواصلة الأدوار التدخلية التي يقوم بها الحرس الثوري في دول الجوار، ولا سيما دول الأزمات، حيث إن النظام سوف يحاول وضع عنوان عريض لهذه التدخلات من خلال تأكيد أنها تهدف ليس فقط إلى “نصرة المستضعفين” و”محاربة الاستكبار” وإنما إلى “محاربة الإرهاب”، وهو ما لا يتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض التي تشير إلى أن إيران كانت إحدى الدول التي سعت باستمرار إلى تأسيس قنوات تواصل مع تنظيمات مثل “داعش” و”القاعدة”، وأن عمليات مثل التي قام بها “داعش” مؤخراً لا تنفي وجود هذه القنوات.