اتفق كل من قطر وتركيا على المضيّ قدماً في تدشين مدينة متكاملة في شمال سوريا خاصة باللاجئين السوريين، لإيواء 70 ألف شخص سوري، وقد استأنف “صندوق قطر للتنمية” في 20 مايو 2023، مباحثاته مع هيئة الطوارئ والكوارث التركية “آفاد”، للبدء في إجراءات تنفيذ هذه المدينة في إطار الاتفاق الموقّع بينهما مطلع أبريل الماضي، وهو الأمر الذي يحمل دلالات بالنسبة للجانبين القطري والتركي، يأتي من أبرزها: الضغط على النظام السوري لحل أزمة اللاجئين، وتوظيف ملف اللاجئين في الانتخابات التركية، واستمرار الدعم القطري للحليف التركي، وتعزيز التعاون الاقتصادي بين الدوحة وأنقرة بالشمال السوري، ورفع مستوى التنسيق الأمني بالأراضي السورية.
بموجب المباحثات التركية القطرية الأخيرة، فقد أعلن “صندوق قطر للتنمية” في بيان له، أن مدينة متكاملة في شمال سوريا، ستضم حوالي 5 آلاف شقة، وعدداً من المرافق العامة، كالمدارس الابتدائية والثانوية ومراكز صحية وتجارية ومساجد، هذا بالإضافة إلى تكثيف التعاون بين “قطر للتنمية” و”آفاد” لتطوير البنية التحتية للمدينة، وتوفير شبكة كهرباء وخزانات مياه بها، بجانب إنشاء طرق وحدائق عامة.
تطورات متلاحقة
وتجدر الإشارة أن اتفاق قطر وتركيا على تدشين مدينة متكاملة في الشمال السوري، جاء بعد سلسلة من التطورات التي شهدتها الساحة الإقليمية خلال الأشهر القليلة الماضية، يمكن إبرازها على النحو التالي:
1- دعم قطري للمتضررين من زلزال “كهرمان مرعش”: إن بداية الإعلان عن مدينة للاجئين السوريين في شمال سوريا، جاء بعد وقوع زلزال كهرمان مرعش الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، وخلّف عدداً هائلاً من الجرحى والقتلى، وكانت الدوحة من أبرز البلدان العربية التي قدمت دعماً للبلدين (تركيا وسوريا)، وسارع أمير قطر “تميم بن حمد” في 12 فبراير الماضي إلى زيارة تركيا، وعقد مباحثات مع نظيره التركي “رجب طيب أردوغان”، وأكد وقتها على دعم الدوحة لأنقرة وتقديمها المساعدات الإنسانية اللازمة لضحايا الزلزال. وبعد أيام قليلة أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية القطرية “ماجد الأنصاري”، في 26 فبراير الماضي، عن مفاوضات بين صندوق قطر للتنمية و”آفاد” التركية لبناء مجمع سكني متكامل للمتضررين من الزلزال. وفي 5 أبريل الماضي، وقع الصندوق القطري مع “آفاد” الاتفاقية، مبيناً أن الهدف منها هو “إنشاء مدينة متكاملة بشمال سوريا تقدم خدمات لـ 70 ألف نازح، وتوفر سبل العيش الكريم للنازحين واللاجئين السوريين، ودعم صمودهم”، وقد أطلقت عليها الدوحة، “مدينة الكرامة”.
2- تعهد تركي بإعادة اللاجئين بعد عودة سوريا للجامعة العربية: بعد إعلان وزراء الخارجية العرب في اجتماع لهم بالعاصمة المصرية القاهرة، في 7 مايو الجاري، عن إعادة سوريا لشغل مقعدها بالجامعة العربية بعد انقطاع دام أكثر من 12 عاماً، بدأ عدد من الدول تحث النظام السوري على إعادة اللاجئين إلى بلدهم، وتسوية الأزمة السورية، وكانت تركيا من ضمن الدول التي دعت إلى ذلك مرات عدة، وقد أعلن “أردوغان” خلال مقابلة له مع شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية، في 19 مايو الجاري، عن عزمه إعادة اللاجئين السوريين، قائلاً: “تركيا تعدّ مشاريع لبناء مساكن في سوريا من أجل عودة قرابة مليون لاجئ إلى بلادهم”، ويأتي تصاعد دعوات أنقرة بشأن إعادة اللاجئين بالتزامن مع الانتخابات التركية، ورغبة كلا المرشحين “أردوغان” ومرشح المعارضة “كليتشدار أوغلو” في حل هذا الملف لكسب ثقة الناخبين خلال جولة الإعادة المبرم انعقادها في 28 مايو الجاري.
3- تأكيد تركي على عدم الانسحاب من الشمال السوري: خلال الفترة الأخيرة فشلت أية جهود إقليمية أو دولية لإعادة العلاقات بين تركيا وسوريا، بسبب إصرار الرئيس السوري “بشار الأسد” على انسحاب أنقرة أولاً من المناطق الواقعة تحت سيطرتها بشمال البلاد، وهو الأمر الذي يرفضه “أردوغان”. وفي 14 أبريل الماضي، شدد وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو” على أن بلاده لن تنسحب من شمال شرق سوريا لاستمرار سيطرة تنظيم “حزب العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب الكردية” (تصنفهم تركيا إرهابيين) على أراضٍ بهذه المنطقة، وهو ما سبق وأكده الرئيس التركي في أوقات عدة.
4- رفض قطر التطبيع مع النظام السوري: رغم أن عدداً من الدول العربية أعادت علاقاتها مع الرئيس السوري “بشار الأسد”، كالإمارات والسعودية، إلا أن الدوحة رفضت التطبيع مع النظام السوري، وقد سبق وأعلنت في بيان لوزارة الخارجية القطرية عقب الإعلان عن عودة دمشق للجامعة العربية، أنها لن تقف أمام قرارات الإجماع العربي، ولكنها في الوقت ذاته شددت على أن التطبيع مع سوريا مرتبط بالتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة السورية التي دخلت عامها الـ12، ومعالجة جذور الأزمة بما يضمن تحقيق تطلعات الشعب السوري.
أهداف مشتركة
في ضوء التطورات سالفة الذكر، يمكن القول إن المساعي القطرية التركية في هذا التوقيت لبناء مدينة لصالح اللاجئين بالمناطق الواقعة تحت سيطرة تركيا في شمال شرق سوريا، يحمل أهدافاً لكلا الطرفين، تتمثل فيما يلي:
1- الضغط على النظام السوري لحل أزمة اللاجئين: إن من أبرز الأهداف وراء تعاون الدوحة وأنقرة لبناء مدينة لإعادة اللاجئين، هو الضغط على الرئيس السوري “بشار الأسد”، واختبار مدى جديته في حل أزمة اللاجئين، ودفعه للتعاون مع دول المنطقة لتوفير المتطلبات اللازمة وتهيئة الظروف المناسبة لإعادة السوريين إلى بلدهم مرة أخرى، والكف عن “أسلوب المماطلة”، وإجبار الحكومة السورية على وضع خطة فعالة بشأن قضية اللاجئين، وهذا قد يكون السبب الذي دفع الرئيس “أردوغان” في وقت سابق إلى إعادة حوالي 550 ألف لاجئ إلى مناطق قال إنها “آمنة وخالية من الإرهاب”، رغم انتقادات بعض المنظمات الحقوقية المعنية لأنقرة بإعادة السوريين مع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد. وعليه فإن تركيا وقطر تريدان اختبار مدى جدية النظام السوري بعد العودة للمحيط العربي في حل أزمة اللاجئين التي تؤرق عدداً من الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي.
2- تعزيز شعبية “أردوغان” في الانتخابات التركية: يسعى الرئيس التركي إلى بذل جميع الجهود التي تمكنه من وضع حد لقضية اللاجئين السوريين في البلاد، خاصة مع تزايد المطالبات الشعبية بحل هذه القضية في أسرع وقت ممكن، ولذلك لم تخلُ خطابات وتصريحات “أردوغان” خلال الفترة الأخيرة من الحديث عن هذه الأزمة، وسعي تركيا إلى حلها في أقرب فرصة، وهو ما دفعه للإعلان قبل أيام قليلة من جولة الإعادة عن المدينة التي سيتم تدشينها بشمال شرق سوريا لإعادة ما يقرب من مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، والهدف من هذا هو تعزيز شعبيته بالداخل التركي قبل جولة إعادة الانتخابات الرئاسية المقررة في 28 مايو الجاري.
3- تعزيز التعاون الاقتصادي بين الدوحة وأنقرة بالشمال السوري: إن إنشاء مدينة للسوريين في المناطق الخاضعة لتركيا، يكشف عن رغبة قطر بشكل خاص في العودة إلى الملف السوري ولكن من البوابة الاقتصادية، وتكثيف التعاون مع حليفها التركي بهذه المناطق ليس فقط لاستضافة اللاجئين ولكن من أجل النهوض بأوضاعها الاقتصادية والتنموية بل والعمل على جعلها بيئة صالحة للاستثمار على عكس المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية التي تعاني من تدهور في أوضاعها الاقتصادية والمعيشية. وعليه، فإن الدوحة تدرك أن دول المنطقة خاصة التي أعادت علاقاتها مع دمشق ستركز على مناطق النظام السوري، ومن ثم ستتجه قطر إلى المناطق الأخرى التي تسيطر عليها قوى المعارضة السورية والواقعة تحت الحماية التركية، من أجل الموازنة بين مناطق النظام والمعارضة، أملاً في أن يسهم ذلك في دفع أطراف الصراع السوري للجلوس على طاولة المفاوضات وحل الأزمات التي تمر بها البلاد.
4- رفع مستوى التنسيق الأمني بالأراضي السورية: إن الهدف من تدشين هذه المدينة يكمن في تقديم الدوحة الموارد المالية اللازمة لأنقرة من أجل تعزيز الأمن والاستقرار بشمال شرق سوريا، لمواجهة أية انتقادات دولية تفيد بأن بهذه المنطقة غير آمنة ومن ثم لا يسمح بإعادة اللاجئين إليها، ولطالما أيدت قطر العمليات العسكرية التي تشنها أنقرة في شمال سوريا ضد وحدات حماية الشعب الكردية. فعلى سبيل المثال، لقي غزو تركيا لشمال شرق سوريا أواخر 2019، إدانات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والدولي، إلا أن قطر كان لها رأي آخر ودعمت هذه العملية العسكرية، معتبرة أن أنقرة تدافع عن أمنها واستقرارها. ووقتها وجه وزير الخارجية التركي “مولود تشاويش أوغلو” في تغريدة على حسابه الرسمي بموقع “تويتر”، الشكر إلى الدوحة لدعمها للعملية العسكرية التركية بشمال سوريا، وعليه فإن هذه المدينة قد تكون ذريعة لشن تركيا عمليات عسكرية تحت مزاعم أنها تستهدف الأكراد لتهديدهم المواطنين بالمدينة، وهو ما ستدعمه الدوحة.
5- استمرار الدعم القطري للحليف التركي: إن التحالف بين أنقرة والدوحة الذي وصل إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، يدفع الأخيرة إلى تقديم الدعم بشكل مستمر للحليف التركي، وإحياء خطة “أردوغان” لإقامة منطقة آمنة بعمق 30 كلم شمال شرق سوريا، لتوفير ملاذ آمن لإعادة ما لا يقل عن مليون لاجئ سوري وحماية المدنيين الفارين من النزاع السوري، وقد سبق واقترح الرئيس التركي هذه الخطة أكثر من مرة لكن كان يقابلها رفض دولي، وعليه فإن تدشين مدينة متكاملة بسوريا يعكس استمرار الدعم القطري للرؤية التركية بالأراضي السورية، خاصةً أن الدوحة لطالما تم وصفها بأنها “الحليف الأساسي لتركيا في الخليج”، وأنقرة تبادلها نفس الأمر، وذلك بعدما دعمتها في أزمة المقاطعة الخليجية التي اندلعت في عام 2017، ووقتها اعتبرت تركيا أن الشروط المفروضة على الدوحة لإنهاء المقاطعة “مخالفة للقانون الدولي، وتشكل اعتداء على حقوق بلد مستقل”.
شراكة استراتيجيةخلاصة القول، إن اتجاه الدوحة بالتعاون مع أنقرة لإنشاء مدينة متكاملة في شمال شرق سوريا، خاصة بالمناطق الخاضعة لتركيا، يعكس رغبة قطر في تحقيق أهداف بعيدة المدى بالأراضي السورية. ورغم أنها تعلن رفضها التطبيع مع النظام السوري، إلا أنها في الوقت ذاته تريد الدخول إلى سوريا من خلال المجالين السياسي والاقتصادي. وعليه، فمن المتوقع أن يتزايد التعاون القطري التركي في الأراضي السورية خلال الفترة المقبلة في ظل التطورات الجديدة التي تمر بها دمشق بعد عودتها إلى المحيط العربي.