عقبات متعددة:
لماذا يتعثر تشكيل الحكومات في الدول العربية المأزومة؟

عقبات متعددة:

لماذا يتعثر تشكيل الحكومات في الدول العربية المأزومة؟



لا تزال محاولات تشكيل الحكومات في عدد من الدول العربية، مثل لبنان والعراق والسودان ولبنان، متعثرة، وهو ما يمكن تفسيره استناداً لجملة من العوامل منها: فشل توزيع المقاعد الوزارية على الأحزاب السياسية الفائزة بالأكثرية في الانتخابات بالدول ذات الطبيعة الطائفية، وغياب التفاهمات بين مختلف التيارات والقوى السياسية، وانتشار نمط السيادة المتعددة أو السلطة ذات الرأسين، وصراع الفصائل المسلحة على السلطة السياسية، علاوة على الإملاءات الدولية والتدخلات الإقليمية في عملية تشكيل الحكومة.

فقد تزايدت دعوات بعض الأطراف أو القوى أو التيارات السياسية، سواء في الحكم أو المعارضة، داخل عدد من الدول العربية المأزومة بشأن الإسراع في عملية تشكيل حكومة، سواء كانت ذات أغلبية وطنية أو توافقية تجمع مختلف القوى السياسية وتحظى بدعم شعبي، وتواجه التحديات الداخلية والخارجية التي تشهدها تلك الدول. وبرز العراق ولبنان على رأس تلك الدول، فبعد ثمانية أشهر على الانتخابات النيابية العراقية، وشهرين على الانتخابات اللبنانية، لم تتفق القوى السياسية في تلك البلدان على تشكيل حكومة تنهي حالة الجمود السياسي بها.

وتمثل حالة الاحتقان السياسي التي يشهدها السودان حائلاً أمام تشكيل حكومة مدنية تحظى بدعم شعبي، وهو ما دفع رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان “عبدالفتاح البرهان” للإعلان في كلمة متلفزة له في 4 يوليو 2022، عن خروج الجيش من المعترك السياسي لإفساح المجال أمام مختلف القوى السياسية لتشكيل حكومة كفاءات وطنية، ومؤكداً أنه في حال نجحت تلك القوى فسيتم حل مجلس السيادة الانتقالي. وفيما يخص الحالة الليبية فلا يزال عدم التوافق بين رئيسي مجلس النواب والأعلى للدولة الليبية حتى الآن يعيق الاتفاق على قواعد دستورية لتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية ومن ثم حكومة وطنية.

ويعد تشكيل الحكومة في دول الأزمات من أكثر العمليات السياسية تعقيداً وصعوبة، ويرجع هذا إلى أسباب عدة، منها: النزاعات القائمة على السلطة بين القوى السياسية والتدخلات الإقليمية والدولية، وصراع الفصائل المسلحة، وغياب المشاركة الشعبية، وفشل توزيع التيارات السياسية بموجب نظام تقاسم السلطة المتفق عليه في البلاد التي يقوم نظامها السياسي على المحاصصة الطائفية.

ويشير التيار الرئيسي في الأدبيات إلى أن هناك جملة من العقبات تعرقل تشكيل الحكومة في الدول العربية المأزومة، على النحو التالي:

اقتسام النفوذ

1- فشل توزيع المقاعد الوزارية على الأحزاب السياسية الفائزة بالأكثرية في الانتخابات البرلمانية: يتطلب تشكيل الحكومة اللبنانية تفاهمات مع غالبية الكتل السياسية تقضي بتوزيع عادل للحقائب الوزارية ما بين سنة، وشيعة، ودروز، وموارنة، وكاثوليك، وأرثوذكس، ولهذا فإن الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة “نجيب ميقاتي”، واجه عقبة عندما قدم تشكيل حكومته في 6 يوليو 2022 إلى الرئيس اللبناني “ميشال عون” الذي طالبه بتوسيع الحكومة لتكون 30 وزيراً بدلاً من 24، بزعم أنه يريد حكومة تمثل مختلف المكونات السياسية والطائفية في البلاد، وهو ما يمثل مشكلة جديدة في كيفية توزيع الوزراء الجدد على الطوائف الدينية المختلفة خاصة لوجود أحزاب سياسية ترفض من الأساس المشاركة في الحكومة، ومن بينهم “التيار الوطني الحر” برئاسة “جبران باسيل” صهر الرئيس، الذي فشل في الاحتفاظ بأكثرية نيابية مسيحية، بعد خسارته عدداً من المقاعد البرلمانية لصالح خصمه حزب القوات اللبنانية المسيحي، ويريد أن يحصر بعض الحقائب الوزارية المسيحية بتياره، فضلاً عن رفضه بعض الوزراء المرشحين، وهو ما يقوض الإجماع على تشكيل حكومة جديدة.

رؤى متباينة

2- غياب التفاهمات بين مختلف التيارات السياسية: بعد مرور أكثر من 8 أشهر على الانتخابات النيابية العراقية، لا يزال غياب التوافق بين الأطراف السياسية المكونة من “الإطار التنسيقي” الذي يضم أبرز القوى الشيعية الموالية لإيران و”التحالف الثلاثي” الذي يضم الكتلة الصدرية، وحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحالف السيادة الجامع لأغلب القوى السنية؛ يُعيق تشكيل حكومة أغلبية وطنية بقيادة “مقتدى الصدر” زعيم “التيار الصدري” الذي حصل على الأغلبية بالانتخابات بـ73 مقعداً نيابياً من أصل 329، ومع ذلك قدم أعضاء الكتلة الصدرية استقالاتهم في 12 يونيو 2022 وانضموا إلى المعارضة، بعد تفاقم حالة “الانسداد السياسي” مع البيت الشيعي الذي يطالب بـ”حكومة توافقية” يشارك الجميع في تشكيلها، وهو ما يرفضه “الصدر” الذي يؤكد أن إصلاح العراق لن يكون إلا بتشكيل “حكومة أغلبية”، مما دفع بقوى الإطار للتهديد بفصائلها المسلحة من أجل إجبار الصدر على الانصياع لها، وقال رئيس الحكومة العراقية المنتهية ولايتها “مصطفى الكاظمي”، خلال كلمة في الجلسة الأسبوعية للحكومة العراقية بتاريخ 17 مايو 2022، إنّ “حالة الانسداد السياسي التي تشهدها البلاد بسبب أزمة الثقة بين القوى السياسية”.

ولا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة للسودان الذي يشهد حالة من عدم التوافق السياسي بين القوى والأحزاب والحركات الثورية السودانية. فبعد تقديم رئيس الوزراء السابق “عبدالله حمدوك” لاستقالته في يناير 2022، بسبب الاحتجاجات التي يشهدها الشارع السوداني، فإنه حتى الآن لم يتم التوصل لاتفاق سياسي بين المكون المدني والعسكري بشأن تشكيل حكومة وطنية، وهو ما دفع بالجيش للانسحاب من الحوار مع تلك القوى المنقسمة ما بين “قوى الحرية والتغيير” التي تريد الوصول للسلطة بدون أية انتخابات و”الحزب الشيوعي” وحلفائه الذين يريدون إعادة هيكلة أجهزة البلاد للسيطرة عليها. أما التيار الثالث فمتمثل في الإسلاميين، وهم من يريدون انتخابات عاجلة تمكنهم من الوصول للسلطة، ولهذا تبقى عملية التوافق شبه مستحيلة بين القوى السياسية السودانية، وهو ما يعلمه “البرهان” جيداً، ولذلك أراد الانسحاب من المشهد لإيصال رسالة مفادها أن الجيش لا يشكل عائقاً أمام عملية تشكيل الحكومة، ومن ثم فحصوله على دعم دولي وإقليمي يُسهم في انفراده بالسلطة التنفيذية والسيادية في حال فشلت تلك القوى في عملية تشكيل الحكومة.

سلطة متعددة

3- انتشار نمط السيادة المتعددة في دول الصراعات: وهو ما ينطبق على ليبيا، خاصة أن النزاع القائم على السلطة بين حكومتي فتحي باشاغا بطبرق شرق ليبيا، وعبدالحميد الدبيبة بالعاصمة طرابلس، يعيق عملية “تشكيل حكومة موحدة” في الأراضي الليبية حتى الآن، فرغم أن حكومة الدبيبة انتهت صلاحيتها في يونيو 2022 بموجب اتفاق جنيف، إلا أنه يرفض تسليم صلاحياتها مشترطاً إجراء انتخابات في البلاد أولاً. وفي ظل هذا الانقسام، ظهرت مؤشرات تفيد بمساعي بعض الفصائل في الجنوب الليبي لتشكيل حكومة ثالثة موازية في الجنوب، الأمر الذي دفع بأمريكا و4 دول أوروبية في 25 يونيو 2022 للتوقيع على مقترح يقضي بتشكيل حكومة ليبية موحدة قادرة على إدارة شؤون البلاد، وإجراء الانتخابات وتجميد حكومتي باشاغا والدبيبة.

تغول المليشيات

4- صراع الفصائل المسلحة على السلطة السياسية: إذ عارض عدد من الفصائل السودانية وهي (مجلس الصحوة الثوري، حركة العدل والمساواة السودانية الجديدة، الحركة الثورية للعدل والمساواة، حركة تحرير السودان، مجلس الصحوة- القيادة الجماعية، حركة العدل والمساواة التصحيحية، ومجلس الصحوة الثوري للتغيير والإصلاح)؛ أي حكومة يتم تشكيلها داخل البلاد، وهذا بإصدارها في مطلع يونيو 2022 إعلاناً عُرف باسم “قوى المسار الديمقراطي” الهدف منه تحقيق السلام بالأراضي السودانية من خلال تشكيل حكومة كفاءات مستقلة يتوافق عليها الجميع، وتواجه بقوة الأزمات الاقتصادية والأمنية التي تشهدها الدولة السودانية.

وفي لبنان، تُلقي خسارة حزب الله (المدعوم من إيران) وحلفائه للأغلبية داخل البرلمان بالحصول على 62 مقعداً من إجمالي 128، بظلالها على تشكيل الحكومة المقبلة وأيضاً انتخاب رئيس جديد، وهذا من خلال محاولة الحزب عرقلة أي مفاوضات لتشكيل الحكومة بجميع الطرق، سواء باستقوائه بترسانته التسليحية، أو شحنه الأجواء السياسية للبلاد ليُبقي على تشكيل حكومي هش.

تعقيدات الانتقال

5- الاقتراب من اختيار رأس السلطة التنفيذية: إن ما يعيق مهمة تشكيل الحكومة اللبنانية هو اقتراب انتخابات رئاسة الجمهورية، خاصة أن الرئيس عون ستنتهي ولايته في 31 أكتوبر 2022، وعليه فإن عمر هذه الحكومة إذا تم تشكيلها قبل الانتخابات سيكون قصيراً، ومن ثم ستُعد تلك الحكومة “مستقيلة” في حال تم انتخاب رئيس جديد. وهناك قاسم مشترك مع الحالة العراقية، إذ إن الإسراع بانتخاب رئيس الجمهورية يعد المفتاح للخروج من حالة الجمود السياسي التي تشهدها البلاد، ولكن البرلمان العراقي فشل حتى الآن في تسمية رئيس الجمهورية، وظهر ذلك بشكل واضح حينما عقد البرلمان في مارس 2022 جلسة لاختيار رئيس الجمهورية، لكنه فشل في تحقيق نصاب الثلثين بعدما أعلنت قوى الإطار التنسيقي وحلفاؤها البالغ عددهم 126 نائباً مقاطعة الجلسة، والسبب في ذلك أنه في حال تم انتخاب رئيس للبلاد فسيكون لزاماً عليه تسمية رئيس الوزراء الجديد خلال 15 يوماً من داخل الكتلة البرلمانية الأكبر الممثلة في الكتلة الصدرية، وهذا ما لا تريده قوى الإطار التنسيقي وتعارض حدوثه.

الاختراق الأجنبي

6- الإملاءات الدولية والتدخلات الإقليمية في عملية تشكيل الحكومة: رغم أنه من المفترض أن تؤدي التدخلات الدولية إلى إحداث خرق يسهم في حلحلة الأزمات السياسية التي تواجه الدول العربية المأزومة كتشكيل الحكومة، فإن الوضع في العراق وعلى مدار السنوات الماضية كشف أن التدخل الإيراني في عملية تشكيل الحكومة ومساعيها المستمرة لإيصال الفصائل الموالية لها إلى سدة الحكم، كان سبباً رئيسياً في الأزمات التي تشهدها بلاد الرافدين، فبعد فشل الأحزاب الموالية لإيران في الحصول على الأغلبية بالانتخابات العراقية الأخيرة، بدأت طهران تعرقل أي محاولة يمكن من خلالها تشكيل “الصدر” لتلك الحكومة، خاصة أنها تعي أن الأخير يرفض أي إملاء خارجي وخاصة الإيراني لتشكيل الحكومة المقبلة، ومع ذلك قدمت طهران مبادرات عديدة بصيغ وحلول مختلفة لتحالف “الإطار التنسيقي” ولكن فشلت جميعها في تشكيل حكومة توافقية.

بيد أن رئيس الوزراء العراقي “مصطفى الكاظمي” قام بزيارة مؤخراً إلى كل من السعودية وإيران، في محاولة لإحياء المحادثات التي ترعاها العراق بين الرياض وطهران من جهة، والحصول على ضوء أخضر سعودي وإيراني قبل القمة الخليجية التي ستنعقد منتصف يوليو 2022 بحضور الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، لحشد الدعم الإقليمي والدولي للتأثير على القوى السياسة العراقية، أو تجديد الثقة للكاظمي ومنحه فرصة تشكيل الحكومة العراقية للمرة الثانية.

انسداد سياسي

خلاصة القول، إن المشكلة الأساسية التي أعاقت تأليف حكومة وطنية كاملة الصلاحيات في دول الأزمات بالمنطقة العربية، تكمن في هشاشة بنية النظام السياسي في تلك الدول جراء النزاعات الداخلية والتدخلات الخارجية والحروب التي تشهدها، وهذا بدوره أدى إلى عرقلة أي محاولة من شأنها الوصول إلى مساحات وتفاهمات مشتركة قائمة على التعاون بين مختلف الأطراف السياسية يمكن التعويل عليها لبناء دولة قوية بعيدة عن الإملاءات الدولية، التي أدخلت تلك البلدان في حالة من الانسداد السياسي. وعليه فإن الاستمرار في عدم التوصل لتشكيل حكومي، سواء في لبنان وليبيا والعراق والسودان، قد يزيد من تعقيد المشهد السياسي في هذه البلاد، ويفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية، ويرفع حدة الإضرابات الداخلية بها.