ضغوط متوازية:
لماذا لوحت واشنطن مجدداً بالخيار العسكري ضد طهران؟

ضغوط متوازية:

لماذا لوحت واشنطن مجدداً بالخيار العسكري ضد طهران؟



رغم انشغال الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحالي بمتابعة وتقييم ما سوف تؤول إليه الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ 15 سبتمبر الماضي، وتقترب من إنهاء شهرها الثالث، إلا أنها كانت حريصة على تجديد التلويح باستخدام الخيار العسكري لمنع إيران من الوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية. إذ قال المبعوث الأمريكي إلى إيران روبرت مالي، في أول ديسمبر الجاري، أن “الرئيس الأمريكي جو بايدن مستعد لاستخدام الخيار العسكري بهدف منع إيران من حيازة القنبلة النووية في حالة فشل العقوبات والدبلوماسية”، في إشارة إلى الآليتين اللتين تستخدمهما واشنطن في المرحلة الحالية لدفع طهران إلى إجراء تغيير في سياستها المتشددة في الملف النووي تحديداً.

دوافع عديدة

يمكن تفسير حرص واشنطن على تجديد التلويح بالخيار العسكري في مواجهة طهران، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- تراجع التعويل على الصفقة النووية: يبدو أن تعويل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على الوصول إلى صفقة نووية مع إيران قد تراجع بشكل كبير، رغم أن فرصتها لم تستبعد نهائياً بعد. بل إن بعض المسئولين الأمريكيين بدءوا يشيرون إلى أن “إيران نفسها لا تريد اتفاقاً نووياً”، وذلك استناداً إلى إصرارها على مدار الجولات السابقة من المفاوضات على طرح مطالب جديدة بصفة دائمة، بشكل يضعف فرص إحياء الاتفاق كلما برزت مؤشرات توحي باقتراب ذلك. ويعني ذلك أن هناك اتجاهاً في واشنطن بات يرى أن طهران تتبنى سياسة “كسب الوقت” عبر استغلال المفاوضات النووية التي عقدت على مدى أكثر من عام، لتحقيق أعلى مستوى من التقدم في برنامجها النووي دون أن تلزم نفسها بتعهدات أو قيود قد تقلص من مستوى أنشطتها النووية خلال المرحلة القادمة.

2- التركيز على مقاربة “تغيير السلوك”: ربما تطمح الإدارة الأمريكية في الوقت الحالي في أن تسفر الاحتجاجات الحالية التي فوجئ النظام الإيراني بقدرتها على الاستمرار واستيعاب كل الضغوط التي فرضها على المحتجين، عن دفع الأخير إلى إبداء مرونة أكبر أو إجراء تغيير في السياسة التي يتبناها على المستويين الداخلي والخارجي.

وفي رؤية اتجاهات عديدة، فإن الأسباب الرئيسية للأزمة الداخلية في إيران لا تنحصر فحسب في السياسة التي يتبعها النظام في التعامل مع قضايا مثل الحجاب والحريات العامة، وإنما تمتد أيضاً إلى القضايا المرتبطة بالسياسة الخارجية، على غرار الدعم المالي الذي يقدمه النظام لوكلاءه من المليشيات الموجودة في بعض دول الأزمات، وفي مقدمتهم حزب الله في لبنان، وحركة أنصار الله الحوثية في اليمن، والحشد الشعبي في العراق.

وهنا، فإن الإدارة الأمريكية ربما اعتبرت أن ممارسة ضغوط موازية على النظام عبر التلويح بإمكانية استخدام الخيار العسكري يمكن أن يساعد في تعزيز فرص هذا المسار، الذي يمكن أن يؤدي إلى الوصول إلى تفاهمات مع إيران حول العديد من الملفات التي تحظى باهتمام مشترك من الجانبين.

3- حرص إيران على اتخاذ خطوات تصعيدية: لا ينفصل هذا التلويح بالخيار العسكري عن الخطوات التصعيدية التي تتخذها إيران على مستوى برنامجها النووي. ففي إطار ردها على القرار الأخير الذي اتخذه مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 17 نوفمبر الفائت، وطالبها فيه بالتجاوب مع الأسئلة التي تطرحها الوكالة بخصوص العثور على آثار يورانيوم في ثلاثة منشآت لم يعلن عنها، أعلنت إيران، في 22 من الشهر نفسه، عن رفع مستوى تخصيب اليورانيوم في منشأة فوردو- التي تم تأسيسها تحت الأرض- إلى 60% باستخدام أجهزة طرد مركزي من طراز “IR6”.

كما كشفت، في 3 ديسمبر الجاري، عن البدء في تأسيس محطة “كارون” النووية الجديدة، بهدف تعزيز قدرة الدولة على رفع مستوى إنتاج الكهرباء. وهنا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول الغربية، ربما باتت تعتبر أن هذه الخطوات لا تهدف إلى تمكين إيران من رفع مستوى إنتاج الطاقة الكهربائية، بقدر ما تهدف إلى تعزيز قدرة الأخيرة على الاقتراب من امتلاك خيار إنتاج القنبلة النووية، لتتحول المسألة بالنسبة لها من “مسألة إمكانيات أو قدرات فنية” إلى “مسألة وقت أو قرار سياسي”. ومن دون شك، فإن تلك الدول- إلى جانب إسرائيل- لن تسمح لإيران بالاقتراب من هذه المرحلة، بل يمكن القول إن بعض القوى الدولية التي تدعم السياسة الإيرانية في الملف النووي، على غرار روسيا، قد لا تتسامح بسهولة مع مثل هذا التوجه، خاصة أنه كفيل بإحداث خلل استراتيجي كبير في منطقة قريبة من حدودها على نحو ربما لا يتوافق مع مصالحها بالضرورة.

4- تصاعد حدة الضغوط الإسرائيلية: تدرك إدارة الرئيس جو بايدن أن الحكومة الجديدة التي يشكلها رئيس الوزراء الإسرائيلي المكلف بنيامين نتنياهو على ضوء النتائج التي أسفرت عنها انتخابات الكنيست التي أجريت في أول نوفمبر الفائت، ستضع ضمن أولوياتها مواجهة التطور الملحوظ في البرنامج النووي الإيراني، بالتوازي مع استهداف الجهود التي تبذلها إيران لتعزيز مواقعها داخل سوريا.

وقد كان لافتاً أنه بالتوازي مع استمرار مشاورات نتنياهو لتشكيل الحكومة، قام رئيس أركان الجيش الإسرائيلي افيف كوخافي بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، في 20 نوفمبر الفائت، والتي كان عنوانها الأبرز مناقشة سبل مواجهة التهديدات الأمنية في المنطقة لاسيما الصادرة من إيران.

وهنا، فإن واشنطن تريد عبر التلويح باستخدام الخيار العسكري ضد طهران توجيه رسائل إلى حلفائها في المقام الأول، لاسيما إسرائيل، تفيد أنها معنية بمواجهة التهديدات التي تفرضها الطموحات النووية والتحركات الإقليمية الإيرانية، وأنها ملتزمة بمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، إلا أنها ما زالت حريصة على تحقيق هذا الهدف عبر الآلية الدبلوماسية أولاً قبل أن تضطر إلى اللجوء إلى الآلية العسكرية في حالة فشل ذلك.

5- تفعيل سياسة الربط بين الملفات: تعبر هذه التحركات، في الغالب، عن بداية حدوث تغير في السياسة الأمريكية إزاء إيران بشكل عام، عبر إعادة ربط الملفات، بعد أن كان هناك حرص أمريكي، خلال فترة المفاوضات، على الفصل بين تلك الملفات، لتحفيز إيران على المضى قدماً في المسار الدبلوماسي وتعزيز فرص الوصول إلى صفقة في النهاية.

وقد بدا ذلك جلياً في إعلان البحرية الأمريكية، في 3 ديسمبر الجاري، عن اعتراض شحنة أسلحة إيرانية في خليج عمان كانت متجهة إلى اليمن، وهى الثانية من نوعها خلال شهر. وبحسب بيان الأسطول الخامس الأمريكي، فإن الشحنة كانت تحمل أكثر من 50 طناً من طلقات الذخيرة وصمامات ووقود الصواريخ.

المتغير الرئيسي

ربما تتجه واشنطن بالفعل إلى تبني سياسة أكثر تشدداً تجاه طهران، خلال المرحلة القادمة. لكن استجابة الأخيرة لهذه السياسة سوف تعتمد، في المقام الأول، على ما سوف تؤول إليه الاحتجاجات وما ستؤدي إليه من نتائج، حيث أن هذه النتائج سوف يكون لها تأثير مباشر ليس فقط على القضايا الداخلية، وإنما أيضاً على قضايا السياسة الخارجية، التي حظيت باهتمام خاص من جانب المحتجين الإيرانيين.