خيارات محدودة:
لماذا قلّص الجيش الأمريكي دورياته ضد “داعش” بسوريا؟

خيارات محدودة:

لماذا قلّص الجيش الأمريكي دورياته ضد “داعش” بسوريا؟



يأتي قرار القيادة المركزية الأمريكية بوقف الدوريات المشتركة مع مليشيا “قسد” لمواجهة تنظيم “داعش”، في ظل استمرار التلويج بشن عملية برية تركية في شمال شرق سوريا، قبل استئناف الدوريات مجدداً ولكن في نطاق السجون والمخيمات التي تضم عناصر “داعش” وأسرهم، كضمانة لاحتواء التداعيات المحتملة للعملية التركية، سواء لعدم إتاحة فرصة للتنظيم لتحرير عناصره، أو لتحجيم الاستهداف التركي لتلك المناطق في ظل انتشار القوات الأمريكية، فضلاً عن ممارسة ضغوط على الجانبين للوصول إلى تفاهمات.

أعلنت القيادة المركزية الأمريكية، في 3 ديسمبر الجاري، وقف دورياتها المشتركة مع مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بمناطق شمال شرق سوريا، لمواجهة تنظيم “داعش”، قبل أن تقرر القوات الأمريكية تسيير دوريات في نطاقات جغرافية مُحددة.

وتأتي تلك الخطوة على وقع العملية العسكرية التركية، واستمرار عمليات القصف الجوي والمدفعي على مواقع تمركزات عناصر “قسد”، عقب اتهام السلطات التركية للمليشيات الكردية بالتورط في التخطيط وتنفيذ انفجار تقسيم باسطنبول منتصف الشهر الماضي. وتسود تخوفات في شمال شرق سوريا من احتمالات شن أنقرة عملية برية، لتنفيذ مخطط إقامة منطقة آمنة بعمق 30 كيلو متر، انطلاقاً من الحدود التركية.

سياقات رئيسية

يمكن النظر إلى قرار القيادة المركزية الأمريكية بوقف دورياتها لملاحقة عناصر “داعش”، في ضوء عدد من السياقات الرئيسية، وأبرزها:

1- استهداف قاعدة عسكرية أمريكية بسوريا: أعلن الجيش الأمريكي، في25 نوفمبر الفائت، استهداف قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بصاروخين تم إطلاقهما على قاعدة في “الشدادي” شمال شرق سوريا، دون سقوط إصابات أو حدوث أضرار بالقاعدة. ورغم عدم الإشارة إلى الجهة المسئولة عن الهجوم، إلا أنه جاء خلال عمليات القصف الجوي والمدفعي لتركيا على أهداف عديدة لـ”قسد” منذ 20 من الشهر نفسه.

وتتمركز القوات الأمريكية ضمن التحالف الدولي لمواجهة تنظيم “داعش” في عدة قواعد عسكرية، في مناطق نفوذ وسيطرة “قسد”، وتحديداً في الرقة ودير الزور والحسكة، وتنطلق منها عمليات مكافحة الإرهاب.

2- إعلان “قسد” وقف عملياتها ضد “داعش”: يأتي الموقف الأمريكيبشأن تعليق الدوريات المشتركة مع “قسد”، عقب إعلان الأخيرة وقف العمليات لمواجهة تنظيم “داعش”، في 26 نوفمبر الفائت، وفقاً لقائدها مظلوم عبدي، وهو الإعلان الذي جاء بعد نحو أسبوع تقريباً من عمليات القصف التركي الجوي والمدفعي على مناطق تمركزات عناصر “قسد”، قبل أن يؤكد عبدي بعد أيام من هذا الإعلان توقف الدوريات المشتركة مع القوات الأمريكية بشكل مؤقت، بفعل القصف الجوي التركي. ويمكن تفسير قرار “قسد” في إطار محاولات لممارسة ضغوط على المجتمع الدولي والولايات المتحدة على وجه التحديد، لوقف أي عملية برية تركية، بخلاف توجيه الجهود للاستعداد لأي تحركات تركية مرتقبة.

3- استمرار التهديدات التركية بشن العملية البرية: رغم الضغوط الأمريكية على تركيا، لوقف عمليتها العسكرية في شمال شرق سوريا، خوفاً من تأثيرات ذلك على جهود مكافحة الإرهاب، فإن المسئولين الأتراك لم يتوقفوا عن التصريح والتلميح بشأن عملية برية مرتقبة، في ضوء التأكيد على عدم التنازل عن تنفيذ خطة تأمين الحدود التركية باتجاه العمق السوري بنحو 30 كيلو متر. إذ جدد الرئيس رجب طيب أردوغان، في 3 ديسمبر الجاري، تأكيده على أن “تركيا ستكمل الشريط الأمني الذي تقوم بإنشائه على حدودها الجنوبية”، بما يشير إلى التلميح بشن عملية برية لتنفيذ المخططات التركية.

4- تحول الموقف الأمريكي وفقاً للتطورات الميدانية: يتضح من خلال متابعة التحركات الميدانية للقوات الأمريكية في شمال شرق سوريا، أن ثمة تحولاً في الموقف بشأن عمليات وأنشطة القوات المتمركزة في المنطقة، مع بداية القصف التركي، حيث اتجهت القيادة المركزية الأمريكية إلى خفض عدد الدوريات المشتركة مع “قسد” لمواجهة “داعش”، وحينها تم تبرير ذلك من قبل المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية الجنرال باتريك رايدر بأن “قسد قللت من عدد الدوريات التي تقوم بها، وبالتالي فإن هذا يستلزم منا تقليل الدوريات أيضاً”، قبل أن تتجه القيادة المركزية إلى وقف الدوريات المشتركة، في 2 ديسمبر الحالي، وجرى استئناف بعض الدوريات في اليوم التالي لإعلان توقفها.

دوافع متداخلة

في ضوء السياقات المؤثرة على الساحة السورية، يمكن تحديد بعض الدوافع المحتملة للقرار الأمريكي بوقف الدوريات المشتركة مع “قسد”، قبل استئناف بعضها، وذلك على النحو التالي:

1- توجيه الجهود لتأمين السجون والمخيمات: في إطار جهود مكافحة التنظيمات الإرهابية، وتحديداً تنظيم “داعش”، تتعدد مهام القوات الأمريكية المشاركة ضمن التحالف الدولي لمواجهة التنظيم، إذ تشارك القوات الأمريكية في مهام الإسناد لـ”قسد” في عملياتها، ودعم تأمين السجون والمخيمات التي تضم عناصر التنظيم وأسرهم، وتنفيذ عمليات نوعية لاستهداف قيادات التنظيم، إضافة إلى تسيير دوريات مشتركة مع “قسد” في محاولة لضبط الأمن في مناطق شمال شرق سوريا. ورغم إعلان توقف الدوريات المشتركة لفرض الأمن، إلا أن استئناف تسيير الدوريات المشتركة يقتصر فقط على السجون والمخيمات، تخوفاً من تداعيات العملية التركية على الحالة الأمنية، واستهداف تنظيم “داعش” تلك السجون والمخيمات بغرض تحرير عناصره وأسرهم، بما يعني خفض مستوى نشاط القوات الأمريكية.

2- تجنب استهداف القوات الأمريكية: تفرض العملية العسكرية التركية في مرحلتها الحالية المقتصرة على القصف الجوي والمدفعي حتى الآن، مع الحديث عن عملية برية مرتقبة، تهديدات محتملة على القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا، التي تتوزع عبر عدة قواعد عسكرية، في نطاق العملية التركية، وبالتالي ترغب الولايات المتحدة في تأمين قواتها، خوفاً من استهدافها بشكل عرضي، سواء خلال عمليات القصف التركي، أو بسبب تزايد معدلات الخطورة حال تنفيذ أنقرة عملية برية، بما يجعل القوات الأمريكية في نطاق المواجهات المرتقبة بين القوات التركية والمليشيات الموالية لها في الشمال السوري، و”قسد”. وسبق أن تعرضت قاعدة عسكرية أمريكية بريف محافظة الحسكة لهجوم من دون خسائر. وتشير الترجيحات إلى استهدافها خلال عمليات قصف تركية، رغم عدم الإعلان الرسمي عن ذلك. كما أن الولايات المتحدة ربما تتخوف من استهداف قواتها سواء خلال الدوريات أو القواعد العسكرية من قبل المليشيات الإيرانية، التي ربما تجد الاضطرابات وعدم الاستقرار في شمال شرق سوريا فرصة لتبني هذا التوجه.

3- محدودية الاستجابة التركية للضغوط الأمريكية: ربمايأتي توقف الدوريات المشتركة بين القوات الأمريكية وقوات “قسد” واقتصارها على السجون والمخيمات،في ضوء محدودية استجابة أنقرة لضغوط واشنطن بشأن وقف العملية العسكرية، وعدم الإقدام على تنفيذ التهديد بتدخل بري للقوات التركية بدعم المليشيات الموالية لها، وبالتالي هناك رغبة في تقليص فرص الاحتكاك بين القوات الأمريكية ونظيرتها التركية، خاصة في ظل مشاركة محتملة لمليشيات موالية لأنقرة. وربما يرتبط استئناف الدوريات ولكن في نطاق السجون والمخيمات، بتأمين تلك المناطق من الاستهداف التركي، وتوجيه أي عمليات قصف بعيداً عن السجون والمخيمات، كضمانة لعدم الاستهداف، خوفاً من رد فعل أمريكي إزاء تعريض حياة القوات الأمريكية للخطر. وسبق أن أعلنت “قسد” خلال الأسبوع الأول من بدء عمليات القصف التركي، استهداف أجزاء من مخيم الهول الذي يضم الآلاف من المشتبه بانتمائهم لـ”داعش” إضافة إلى أسر عناصر التنظيم، ما أسفر عن هروب بعض العناصر، قبل القبض عليهم، وتأمين محيط المخيم.

4- تعزيز فرص الوصول إلى تفاهمات بين أنقرة و”قسد”: تواجه الولايات المتحدة معضلة تتعلق باستمرار المواجهات بين طرفين من حلفائها. إذ تعتمد الأخيرة علىعناصر “قسد” على مستوى الساحة السورية، لأهداف عملياتية أمنية لملاحقة تنظيم “داعش”، إضافة إلى تأمين الوجود الأمريكي في سوريا. كما أن تركيا تُعد حليفاً لها رغم التوترات التي شهدتها العلاقات بين البلدين خلال السنوات القليلة الماضية. ومن هنا، فإن واشنطن ربما ترى أن الوصول إلى تفاهمات بين أنقرة و”قسد” قد يساعد في احتواء تداعيات تلك المواجهات التي يمكن أن تفرض ترتيبات أمنية جديدة على الأرض قد لا تتوافق بالضرورة مع مصالحها وحساباتها.

مأزق حرج

على ضوء ذلك، يمكن القول إن الولايات المتحدة تواجه مأزقاً على الساحة السورية، في ظل تأكيد التزامها تجاه “قسد” من ناحية، وعدم استجابة أنقرة لضغوطها بشأن وقف العملية العسكرية وعدم تنفيذ التوغل البري من ناحية أخرى. وبالتالي فإن الأولوية تبقى لتأمين القوات الأمريكية المشاركة ضمن التحالف الدولي لمواجهة “داعش”، إضافة إلى ضمان عدم تمكن الأخير من توظيف الوضع المضطرب في شمال شرق سوريا، من أجل تحرير عناصره وأسرهم.