أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال اجتماعات القمة الثامنة للمجلس التركي التي عُقدت في 12 نوفمبر الحالي بمدينة إسطنبول تحويل “المجلس التركي” الذي تأسس في العام 2009، ويضم الدول الناطقة بالتركية إلى “منظمة الدول التركية”، وتحدث أردوغان عن آفاق واسعة لتعزيز التعاون بين دول هذا التكتل سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وشهدت قمة أسطنبول الثامنة أيضا، اعتماد وثيقة الرؤية للسنوات العشرين القادمة، وإقرار عدد من المشاريع التي من شأنها تقريب بلدان المنطقة من بعضها البعض، وفي الصدارة منها مشروع طريق الحرير “إيبيك”، وإنجاز مشاريع سكك حديدية جديدة، منها تنفيذ مشروع سكك حديدية يربط قيرغيزيا بأوزبكستان ومن ثم الصين. ومن شأن تصاعد النفوذ التركي في الجمهوريات الناطقة بالتركية ليس فقط تحييد جانب من الضغوط الدولية على تركيا، وإنما أن يزيد من تعقيد بعض صراعات المنطقة.
دعم واسع
اتجهت أنقرة في السنوات الماضية إلى تعزيز التعاون مع الجمهوريات الناطقة بالتركية بهدف ترسيخ النفوذ التركي في منطقة القوقاز، وذلك من خلال توظيف العامل العرقي الذي يجمع تركيا بشعوب هذه الدول المجاورة وصولا إلى العامل الديني المذهبي الذي بات ورقة رابحة تستثمرها تركيا لتوسيع نفوذها الجيوسياسى فى منطقة القوقاز. ويتسق هذا الدور مع السياسة الخارجية التركية القائمة في الأساس على تعظيم الحضور في محيطها الإقليمي، وفي الملفات المختلفة، من أجل تعزيز نفوذها والحصول على مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية.
وعلى هذا النحو، أسست تركيا في أكتوبر 2009 “المجلس التركي”، وتم إعلانه رسمياً في 15 سبتمبر 2010، ويضم “تركيا- أذربيجان- أوزبكستان- قيرغيزيا- كازاخستان- تركمانستان” إضافة إلى المجر بصفة مراقب، وهو ما وفر بيئة خصبة للزخم التركي في منطقة آسيا الوسطي، وعقد المجلس منذ تأسيسه 8 قمم على مستوى زعماء الدول الأعضاء. وضخت انقرة أموالا طائلة للوصول إلى هدفها في الاستحواذ على إدارة تكتل للدول التركية وعززت وجودها من خلال تكثيف زيارات المسؤولين وعقد الاتفاقيات الثنائية. كما نجحت تركيا بالتعاون مع دول المجلس التركي في تأسيس مجموعة من الآليات لتسهيل العمل على تحقيق الأهداف المتعددة، أبرزها جمعية برلمانات الدول الأعضاء، ومجلس العمل التركي، ومنظمة الأكاديمية والثقافة التركية الدولية، واتحاد الغرف والبورصات المشتركة في العالم التركي. كما تم تأسيس “غرفة التجارة والصّناعة للمجلس التركي في مايو 2019 في العاصمة الكازاخية نور سلطان.
وبالتوازي، مع ذلك، حافظت الحكومات التركية المتعاقبة على علاقات سياسية قوية مع تلك الدول الناطقة بالتركية، حيث كان للقطاع الخاص التركي استثمارات اقتصادية كبيرة، وقامت المنظمات غير الحكومية التركية وكذلك الكيانات الدينية، وفي الصدارة منها مؤسسة “ديانت”، حيث قامت ببناء العديد من المساجد، والمدارس الدينية في دول آسيا الوسطى، أهمها مسجد بيشكيك المركزي، الذي تم تصميمه وفقًا لتقليد العمارة العثمانية، وتم افتتاحه في سبتمبر 2018.وفي تطور لافت، أصبحت القضايا العسكرية والأمنية مهيمنة بشكل متزايد في علاقات أنقرة مع الجمهوريات الناطقة بالتركية، ففي أكتوبر 2020 دعت وسائل إعلام تركية إلى إنشاء “جيش طوران الموحد”.
وجاءت هذه الدعوات بالتزامن مع زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، كازاخستان وأوزبكستان، حيث ناقش خطوات لتوسيع التعاون العسكري التقني. فقد قدمت أنقرة دعماً عسكرياً لحلفائها في المجلس التركي، ففي 17 نوفمبر 2020 وافق البرلمان التركي، على مذكرة من رئاسة الجمهورية، بشأن إرسال قوات إلى أذربيجان لمدة عام، لمساعدة أذربيجان في النزاع الذي اندلع في سبتمبر 2020 مع أرمينيا حول السيادة على إقليم ناغورنوكارباخ. كما وقعت في يونيو 2021 اتفاقية تعاون إستراتيجي وعسكري مع أذربيجان، يتعهدان فيه بدعم بعضهما البعض في حالة التهديد أو الهجوم من دولة أخرى.
اعتبارات متنوعة
يمكن تفسير الاهتمام التركي اللافت بتطوير قدرات المجلس التركي، وتحويله إلى منظمة إقليمية، انطلاقاً من اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تعزيز المكاسب الاقتصادية: تمثل الجمهوريات الناطقة بالتركية أولوية اقتصادية لأنقرة، وزادات أهميتها في المرحلة الراهنة، بالنظر إلى تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، والارتدادات السلبية لجائحة كورونا على القطاعات الاقتصادية. كما تمثل هذه الجمهوريات سوقاً مفتوحة للصادرات التركية، حيث يعيش في دول المجلس التركي أكثر من 250 مليون نسمة، ويبلغ إجمالي الدخل القومي للجمهوريات التركية أكثر من 2 تريليون دولار ويبلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول المجلس التركي 3.8 تريليون دولار مع تعادل القوة الشرائية، فيما يبلغ حجم التجارة المتبادلة20 مليار دولار. وبحسب إحصاءات موقع وزارة الخارجية التركية، فإن إجماليّ حجم التبادل التجاري بين تركيا وجمهوريات المجلس التركي بلغ في العام 2019 أكثر من 8 مليارات ونصف المليار دولار. مع وجود ما يناهز4 آلاف شركة تركية تعمل وتستثمر رؤوس أموالها في هذه الجمهوريات، في حين قُدّر إجمالي استثمارات الشركات التركية في دول المجلس التركي في ديسمبر 2017 بأكثر من 13 مليار دولار.
2- بناء نموذج تركيا الكبرى: تسعى تركيا إلى استعادة إرث العثمانية، ويمثل قرار تحويل “المجلس” إلى “منظمة الدول التركية”، أحد المداخل المهمة لتسويق المشروع الإمبراطوري، كونه يؤكد على تعاظم التأثير السياسي لهذه التجمع، وإمكانية توظيفه لخدمة أهداف المشروع التركي، وفي الوقت ذاته إعطاء خطاب العدالة والتنمية الزخم اللازم لاستمراريته. وقد وفر المجلس التركي منذ تأسيسه قبل أكثر من عشر سنوات بيئة خصبة لتسويق نمط الحياة التركية التي تجمع بين التقاليد الإسلامية والقيم الغربية بالإضافة إلى الترويج للقيم السياسية للنظام الحاكم التركي في جمهوريات آسيا الوسطي. لذلك، فإن التوجه التركي نحو تعزيز العلاقات في منطقة آسيا الوسطي يعبر عن سياسة جديدة تتبناها تركيا تركز على الجمهوريات الناطقة بالتركية، حيث تعتقد تركيا أن تحسين تطوير العلاقة معها يتوافق مع مصالح الرئيس التركي وطموحاته في استعادة “تركيا الكبري” أو الإرث العثماني القديم.
وتراهن تركيا في محاولاتها لاستعادة هذه الجمهوريات إلى الحزام العثماني على الاستفادة من الجذور العِرقية والثقافية المشتركة، والعلاقات التاريخية الوثيقة التي تربطهم مع شعوب المنطقة، لتشكيل الهوية العثمانية الجديدة. وهنا، كان لافتًا أن تركيا أبدت حرصًا خلال السنوات على توسيع نطاق علاقاتها مع دول “المجلس التركي”، وترسيخ تأثيراتها السياسية، وهويتها والإرث العثماني التاريخي في هذه الجمهوريات. كما كان مثيراً للانتباه نشر حزب العدالة والتنمية التركي في مطلع العالم الجاري ما أسماه “خريطة تركيا الكبرى”، وقد شملت الخارطة ثلث مساحة سوريا من ناحية الشمال، ومساحة كبيرة من العراق، وكذلك أجزاءً كبيرة من آسيا الوسطى، وصولاً إلى دول القوقاز.
3- إعادة تأكيد نفوذ تركيا في منطقة القوقاز: لا تنفصل عملية تحويل “المجلس التركي” إلى “منظمة الدول التركية” عن حرص تركيا على حماية المصالح الدبلوماسية والاقتصادية والأمنية التقليدية في منطقة آسيا الوسطي، ومحاولة مواجهة النفوذ المتزايد للقوى الدولية الكبرى الأخرى، وبالتحديد الصين وروسيا. كما أن الإعلان عن تحويل “المجلس” إلى “منظمة” يرتبط في جوهره بشكل أكبر بسياق المنافسة مع القوى الإقليمية الطامحة إلى اكتساب موطئ قدم في هذه المنطقة، وتخشى تركيا من ارتدادات سلبية محتملة من استمرار الدور التاريخي للروس في هذه الجمهوريات، وصعود التأثير الصيني الجديد.
4- توسيع الخيارات في مواجهة الضغوط الدولية: يأتي قرار تحويل “المجلس التركي” إلى “منظمة الدول التركية” في سياق مساعى تركيا موازنة الضغوط الدولية عليها، وتوسيع خياراتها في مواجهة هذه الضغوط، وكان بارزاً، حديث الرئيس أردوغان خلال كلمته في افتتاح قمة “منظمة الدول التركية” في 13 نوفمبر الحالي، عن ملفات سياسية عدة، أهمها دعم المنظمة لجمهورية شمال قبرص التركية.لذلك، فإن قرار إعلان “منظمة الدول التركية” يعد بمثابة ورقة ضاغطة في مواجهة الضغوط الروسية على المصالح التركية في سوريا، ومن جانب آخر يستهدف الإعلان عن “منظمة الدول التركية” توسيع هامش خياراتها لاسيما في ظل استمرار الملفات الخلافية مع واشنطن، وفي الصدارة منها حصول تركيا على منظومة الدفاع الروسية إس 400، واتساع مساحات التوتر مع بعض دول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا على خلفية التحركات التركية في شرق المتوسط وليبيا.
مدخل هام
ختاماً، يمكن القول، أن إعادة تسمية المجلس التركي إلى منظمة الدول التركية، يعكس رغبة أنقرة في الاستمرار في توظيف تجمع الجمهوريات التركية كمدخل هام لتعزيز موقع تركيا في منطقة آسيا الوسطي، ومحاولة لتحقيق انتصار سياسي في ظل ضعف مردود الانخراط التركي.