أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في 8 ديسمبر الجاري، فرض عقوبات جديدة على 11 مسئولاً من النظام السوري، مشددةً على أن القيود استهدفت مسئولين حاليين وسابقين وأفراداً آخرين، بدعوى “تورطهم في ارتكاب جرائم إنسانية”، مشيرة إلى أن “هؤلاء الأشخاص يمارسون دوراً في عرقلة أو تعطيل أو منع الجهود الرامية إلى تعزيز الحل السياسي للصراع في سوريا، والإعادة القسرية للاجئين أو الأشخاص الآخرين إلى سوريا”.
وشمل القرار الأمريكي أيضاً فرض قيود على مسئولين سوريين متهمين بالتورط في إنتاج أو الاتجار بمادة الكبتاغون. وإذا كان القرار الأمريكي ينطوي على تداعيات كبيرة على الداخل السوري، فهو يثير الكثير من التساؤلات حول دلالاته الزمنية ودوافعه.
سياقات مختلفة
تأتي العقوبات الأمريكية المفروضة على دمشق في إطار السياسة التي تتبناها الولايات المتحدة في التوقيت الحالي تجاه الأطراف التي تتهم واشنطن بالانحياز المطلق لإسرائيل في الحرب التي تشنها على قطاع غزة، حيث كانت وزارة الخارجية السورية قد أكدت في بيان لها عشية عملية “طوفان الأقصى” أن “فصائل المقاومة في فلسطين المحتلة سجلت سطراً جديداً على طريق إنجاز الحقوق الفلسطينية الثابتة وغير القابلة للتصرف”.
وبالتوازي مع ذلك، تزامنت العقوبات الأمريكية مع التصعيد الحادث على الجبهة السورية، ففي الوقت الذي تعرضت فيه القوات الأمريكية وقوات “التحالف الدولي” في العراق وسوريا لهجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ بما لا يقل عن 74 هجوماً منذ 17 أكتوبر الماضي، اتجهت إسرائيل بدورها إلى استهداف مطار دمشق وحلب بضربات جوية خلال الأسابيع الماضية، بدعوى قطع خط الإمداد الإيراني للمليشيات الموالية لطهران وحزب الله، خاصة مع تصاعد التطورات الميدانية في غزة، وتزايد المناوشات العسكرية بين حزب الله والقوات الإسرائيلية.
وعلى صعيد متصل، تزامنت العقوبات الأمريكية مع قرار بريطاني، في 8 ديسمبر 2023، بفرض عقوبات على ثمانية مسئولين من النظام السوري من ضمنهم ستة وزراء بالحكومة، بالإضافة إلى عددٍ من القادة العسكريين على خلفية اتهامهم بـ”ارتكاب جرائم بحق مدنيين وعسكريين بعد اندلاع الثورة السورية، وبحق الناشطين والمنخرطين في الاحتجاجات السلمية في البلاد”.
في المقابل، جاءت العقوبات الجديدة بعد قرار اتخذته وزارة الخزانة الأمريكية، في 8 أغسطس الماضي، بانتهاء تجميد عقوبات كانت قد فرضتها واشنطن على النظام السوري، بعدما علقتها بشكل مؤقت بسبب الزلزال الذي وقع في جنوب تركيا وشمال غرب سوريا في 6 فبراير الماضي.
دوافع عديدة
ثمة العديد من الدوافع التي تقف وراء قرار واشنطن بفرض عقوبات جديدة على النظام السوري، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- امتلاك أوراق ضغط جديدة: سعت واشنطن باستمرار إلى تعزيز موقعها الضاغط على النظام السوري، والأطراف والمليشيات الموالية له، من خلال البحث عن أوراق ضغط جديدة تستطيع الاستناد إليها في تفاعلاتها مع تطورات المشهد السوري. وتجدر الإشارة إلى أن الكونجرس الأمريكي كان قد طرح، في 20 يونيو الماضي، مشروع قرار يطالب الإدارة الأمريكية بإنشاء آلية دولية خاصة لـ”محاكمة النظام السوري على جرائم الحرب التي ارتكبت خلال المرحلة الماضية”.
2- استهداف وتقييد تجارة الكبتاغون: يبدو أن واشنطن تستهدف من وراء عقوباتها الأخيرة العمل على كبح تجارة المخدرات التي تتهم النظام السوري بالترويج والتوسع فيها. وهنا، يمكن تفسير إصدار واشنطن، في نهاية ديسمبر 2022، قانوناً جديداً أطلق عليه “الكبتاغون” يعتبر النظام السوري أحد مُصدّري المخدرات، ويعمل هذا القانون على إضعاف وتعطيل الشبكة المروجة للمخدرات. وعزت وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على مرتبطين بالنظام السوري لاتهامهم بتجارة المخدرات التي باتت تدر عوائد هائلة على تلك الشبكة.
3- عرقلة الانفتاح السوري على الخارج: يوحي توقيت هذه العقوبات بأنها تستهدف عرقلة الجهود التي تبذل لتعزيز الانفتاح السوري على الخارج، على نحو يبدو جلياً في محاولات دعم التقارب بين تركيا وسوريا. ففي 29 نوفمبر الفائت، جددت روسيا على لسان سفيرها لدى تركيا اليكسي يرهوف استعدادها لبذل جميع الجهود لتطوير العلاقات بين تركيا وسوريا، واستئناف المحادثات التي تشهد جموداً منذ اجتماعات الدورة الـ20 لصيغة أستانة التي عقدت في 20 و21 يونيو الماضي.
ورغم أن العقوبات الأمريكية على النظام السوري قد تكون محدودة في التأثير على هذا المسار، إلا أنها تستهدف توجيه رسالة إلى تركيا تحديداً بأن كلفة هذه الجهود قد تكون عالية.
4- الرد على استهداف “قسد”: لا تنفصل العقوبات الأمريكية عن رغبة واشنطن في الرد على الهجمات التي يشنها النظام ضد مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تعد الحليف المحلي لواشنطن في الحرب ضد تنظيم “داعش”. ويبدو أن هذا الهدف تحديداً يكتسب أهمية خاصة لدى الولايات المتحدة في الوقت الحالي، في ظل تصاعد الهجمات على قواعدها العسكرية في الداخل السوري، على خلفية دعمها لإسرائيل في حربها على قطاع غزة.
وقد وجّهت “قسد”، في 18 نوفمبر الماضي، اتهامات للنظام السوري واستخباراته بالتنسيق مع تركيا في إطار العمليات التي تستهدف قادتها وعناصر “حزب العمال الكردستاني”. كما يشار إلى أن النظام السوري والمليشيات الإيرانية الداعمة له كانت قد شنت هجوماً على مواقع “قسد”، في 29 أكتوبر الماضي، وهو ما يثير قلق الولايات المتحدة التي تعتبر “قسد” نقطة استناد استراتيجية لوجودها في سوريا، بالإضافة إلى كونها شريكة في الحرب ضد تنظيم “داعش”.
5- تحييد الجبهة السورية في حرب غزة: ربما تسعى واشنطن عبر هذه الخطوة إلى تحييد أية ارتدادات سلبية محتملة من الجانب السوري على إسرائيل في ظل الحرب التي تتصاعد حدتها حالياً في قطاع غزة. ورغم وجود قناعة أمريكية بأن دمشق قد لا تحاول حالياً الانخراط في هذه الحرب، إلا أن إطالة أمد العمليات العسكرية في غزة، وغياب الحسم، قد يربك الحسابات مجدداً ويعزز من احتمالات توسيع نطاق تلك الحرب.
ختاماً، يمكن القول إن العقوبات الأمريكية الأخيرة على النظام السوري قد تفرض تداعيات سلبية عديدة على المستويين السياسي والاقتصادي، حيث أنها سوف تضعف من قدرة الحكومة السورية على مواجهة التدهور الملحوظ في الأوضاع المعيشية، لكنها في الوقت نفسه قد تنتج تأثيرات عكسية تتمثل في تعزيز النفوذ الروسي والإيراني في الداخل السوري.