أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في 7 يونيو الجاري، اختيار وزير الخارجية السابق خلال فترته الرئاسية الأولى جان إيف لودريان، بعد عام واحد من تركه منصبه، لتولي منصب المبعوث الخاص له إلى لبنان. وستتمثل المهمة الرئيسية للودريان في قيادة المساعي الفرنسية لإنهاء الأزمة السياسية في دولة تُعاني من فراغ رئاسي وانهيار اقتصادي. وتأتي هذه الخطوة في ظل سياسة فرنسية تُعلي من أهمية استقرار لبنان ووحدتها واستقلالها وسيادتها، ودعم دور باريس في الجهود المبذولة لتعزيز قدرات وسلطات المؤسسات الرسمية اللبنانية في جميع أنحاء الدولة.
دلالات عديدة
يطرح الإعلان عن تعيين لودريان مبعوثاً خاصاً للرئيس الفرنسي إلى لبنان، والذي جاء قبل أسبوع من انعقاد الجلسة الثانية عشرة لانتخاب رئيس جديد للبنان والتي لم تسفر عن نتيجة تذكر، جملة من الدلالات التي يتمثل أبرزها فيما يلي:
1- اهتمام بإنهاء الفراغ الرئاسي: تعاني لبنان منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في أكتوبر ٢٠٢٢، من أزمة فراغ رئاسي، والتي لا تزال مستمرة مع إخفاقات البرلمان على مدار إثنى عشرة جلسة في انتخاب رئيس جديد نتيجة للعراقيل السياسية التي تفرضها التوازنات المعقدة في النظام السياسي القائم.
وقد أجريت الجلسة الثانية عشرة في ١٤ يونيو الحالي في ظل برلمان منقسم بشكل حاد بين معسكرين يقود أولهما حزب الله الذي أعلن دعمه للمرشح سليمان فرنجية، ويضم ثانيهما خصومه، ولا سيما الأحزاب المسيحية المؤيدة للمسئول بصندوق النقد الدولي جهاد أزعور. إلا أن الجلسة انتهت دون أن ينجح فرنجية أو أزعور في نيل عدد كافٍ من الأصوات للفوز، حيث حصل الأخير على 59 صوتاً من أصل 128 نائباً في تصويت أوّلي، فيما حصل الأول على 51 صوتاً، بما لا يمثل نسبة الثلثين المطلوبة للفوز من الجولة الأولى، لكن نواب حزب الله وحلفائه انسحبوا من أجل تعطيل نصاب الثلثين المطلوب لإجراء جولة ثانية.
وتُعوِّل باريس على لودريان للتوصل إلى توافق بين القوى السياسية اللبنانية للسماح بإنهاء أزمة الفراغ الرئاسي القائمة منذ نحو سبعة أشهر، والتي فاقمت من حدة الأزمة الاقتصادية المستمرة في البلاد منذ أربعة سنوات، عبر انتخاب رئيس جديد، حيث دعت، في ١٣ يونيو الجاري، قبل انعقاد الجلسة الثانية عشرة لاختيار رئيس جديد، إلى اغتنامها للخروج من الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد منذ أكتوبر الماضي.
وفي إطار التنسيق بين وزارة الخارجية الفرنسية والمبعوث الخاص للرئيس الفرنسي للبنان، أشارت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية إلى أن وزيرة الخارجية كاترين كولونا ستلتقي بلودريان في ١٦ يونيو الجاري؛ لإطلاعه على فحوى الاتصالات الأخيرة مع مسئولين لبنانيين، لكى يتابع جهود الوزارة في هذا الملف الذي يحظى بأولوية خاصة لدى باريس.
2- إجراء تغيير في المقاربة الفرنسية: يكشف تعيين لودريان مبعوثاً خاصاً للرئيس الفرنسي إلى لبنان، وتصدر إنهاء أزمة الفراغ الرئاسي أجندة مهامه، وتصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية خلال اجتماعها مع وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب، على هامش الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لمكافحة تنظيم “داعش” بالرياض في ٨ يونيو الجاري، بأن بلادها “ليس لديها مرشح للرئاسة في لبنان”، وأن “ما يهمها هو أن يتم انتخاب رئيس جديد في وقت تواجه فيه الدولة اللبنانية ظروفاً اقتصادية صعبة”، يكشف عن رغبة فرنسية في تغيير مقاربتها لحل الأزمة السياسية اللبنانية القائمة على المقايضة بين تأييد المرشح الرئاسي سليمان فرنجية المدعوم من حزب الله وحركة أمل، وتكليف الدبلوماسي السابق نواف سلام رئيساً للحكومة لقربه من المجتمع الدولي.
فحسب تقارير عديدة، فإن باريس لم تنجح في إقناع قوى المعارضة بالعودة عن قرارها الرافض لترشيح فرنجية، وتحديداً القوى المسيحية التي دعمت المرشح جهاد أزعور كرد فعل على موقف فرنسا الداعم لفرنجية. وستقوم مقاربة لودريان الجديدة على فكرة “مرشح التسوية”، استناداً إلى قاعدة رئيس توافقي لا يكون محور خلاف بين تلك القوى خلال المرحلة القادمة.
3- تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الضرورية: سعت فرنسا في المرحلة السابقة إلى محاولة استخدام نفوذها التاريخي في لبنان لدفع القوى السياسية اللبنانية للتوافق على إجراء إصلاحات اقتصادية من شأنها السماح ببدء تلقي بيروت مساعدات خارجية تبدو في أشد الحاجة إليها، لكن محاولاتها فشلت في هذا الصدد. ولذلك تُعوِّل باريس على لودريان الذي يمتلك خبرة واسعة في إدارة الأزمات، من أجل ممارسة دور في إيجاد حل توافقي وفعّال يمكن أن يساعد في تقليص حدة الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بعد انفجار مرفأ بيروت في ٤ أغسطس ٢٠٢٠، حيث حذر صندوق النقد الدولي، في ٨ يونيو الجاري، من أن لبنان بحاجة لتنفيذ إصلاحات اقتصادية عاجلة وشاملة لوقف الأزمة الشديدة والمتفاقمة التي يواجهها الاقتصاد منذ سنوات.
4- استقطاب الدعم الإقليمي والدولي: يرتبط نجاح باريس في التعامل مع الأزمات السياسية والاقتصادية التي تواجهها لبنان منذ أربع سنوات بضرورة التنسيق مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف اللبناني، على نحو قد يساعد في توحيد الجهود لتحقيق ذلك، وهي المهمة الذي سيقوم بها لودريان، حيث مكنته قيادة وزارتى الدفاع والخارجية الفرنسية خلال حكومتين فرنسيتين متتاليتين من تأسيس شبكة علاقات واسعة على المستويين العربي والدولي، ربما تؤهله للتعامل مع كل الفرقاء الدوليين والإقليميين والمحليين للوصول إلى تفاهمات من أجل انتخاب رئيس جديد للبنان. ومن دون شك، فإن اتخاذ هذه الخطوة ربما لا ينفصل عن المناخ الجديد الذي بدأت تشهده منطقة الشرق الأوسط، في ظل تحسن العلاقات بين العديد من القوى الإقليمية الرئيسية بها.
انطلاقة جديدة
اكتسبت الخطوات العديدة التي اتخذها الرئيس إيمانويل ماكرون لتقليص حدة الأزمات التي تواجهها لبنان، لا سيما في أعقاب انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، اهتماماً خاصاً من جانب قوى عديدة معنية بما يجري على الساحة الداخلية اللبنانية، حيث انخرط بشكل مكثف في الجهود التي تبذل لتسوية الأزمة السياسية واحتواء الأزمة الاقتصادية لدرجة أنه قام بزيارة بيروت بعد يومين فقط من وقوع الانفجار، بالتوازي مع تقديم المساعدات المالية والإنمائية الفرنسية، وممارسة ضغوط على النخبة السياسية اللبنانية من أجل إجراء إصلاح جذري. إلا أنه يواجه حالياً ضغوطاً وانتقادات بسبب عدم تحقيق مجمل هذه الأهداف حتى الآن. ومن هنا، فإن اختيار لودريان ليكون مبعوثاً خاصاً له إلى لبنان يكشف عن رغبة فرنسية في تدشين مبادرة دبلوماسية جديدة لإنهاء أزمة الفراغ الرئاسي في لبنان، على نحو يعني أنه قد يمثل نقطة انطلاق لإنجاح الدور الفرنسي في لبنان، بعد إخفاقات سابقة منذ وقوع انفجار مرفأ بيروت.