معطيات ضاغطة:
لماذا عدّلت روسيا طرح أن تصبح تركيا مركزاً للغاز للطبيعي؟

معطيات ضاغطة:

لماذا عدّلت روسيا طرح أن تصبح تركيا مركزاً للغاز للطبيعي؟



يُواجَه طرحُ روسيا لإقامة مركز للغاز الروسي على الأراضي التركية بتحديات تحول دون تنفيذه، مما دفع موسكو للمبادرة بتغيير ذلك الطرح إلى مقترح جديد يجعل أنقرة منصة إلكترونية لتداول غازها، ويرجع ذلك التحول بالأساس إلى وقوع تركيا في حزام نشط للزلازل، وارتفاع تكلفة إنشاء مركز للغاز الطبيعي والبنية التحتية الداعمة له (مثل خطوط أنابيب)، فضلاً عن توتر العلاقات بين أنقرة وموسكو مؤخراً بسبب تحركات تركية تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الروسية، بما يفتح المجال لبدء مباحثات بين البلدين لإعادة صياغة كيفية تعزيز دور البلدين مستقبلاً في سوق الغاز العالمي.

ذكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 29 يوليو 2023 (في مؤتمر صحفي)، أن إنشاء مركز للغاز في تركيا لا يزال على جدول الأعمال، موضحاً أنه لن يكون منشآت ضخمة لتخزين الغاز على الأراضي التركية، ولكنه منصة تجارة إلكترونية لتنظيم التداولات التجارية، لافتاً إلى أن الجانب التركي يُدرك ذلك الأمر.

جدير بالذكر أن الطرح الروسي بشأن أن تصبح تركيا منصة إلكترونية لتداول الغاز هو تعديل لطرح سابق لإنشاء مركز فعلي لتخزين وتصدير الغاز الروسي لأوروبا، والذي طرحه “بوتين” في 12 أكتوبر 2022 (خلال منتدى “أسبوع الطاقة الروسي”)، حيث لفت وقتها إلى أنه سيصبح أكبر مركز إمداد للغاز لأوروبا في تركيا. هذا وقد ناقش “بوتين” في 13 أكتوبر 2022 مع نظيره التركي “رجب طيب أردوغان” إمكانية إنشاء المركز على الأراضي التركية للتصدير إلى دول أخرى خاصة لأوروبا، بينما أشار “أردوغان” عقب لقائه مع “بوتين” إلى أنّ مركز الغاز قد يُبنى في منطقة تراقيا في شمال غرب تركيا قرب بلغاريا، ليصبح مركز توزيع دولياً ولا سيما مع وجود مركز وطني لتوزيع الغاز هناك (انظر شكل رقم 1). وذكر “أردوغان” أيضاً، في 19 أكتوبر 2022، أنه اتفق مع نظيره الروسي على إنشاء مركز للغاز الطبيعي في تركيا، وأن أنسب مكان له هو الجزء الأوروبي من البلاد.

شكل رقم (1): شبكة إمداد الغاز الطبيعي في تركيا

(Source: Energy Systems Journal, Springer, July 2020)

طرح جديد

لا يعني الطرح الروسي الجديد لتسويق غازها الطبيعي للدول الأوروبية عبر تركيا أن يتم تخزين وتوزيع الغاز الطبيعي من خلالها بشكل مادي، وذلك نظراً لتحديات تواجه الطرح الأول لأن تصبح تركيا مركزاً لتخزين وتوزيع الغاز الطبيعي الروسي، حيث تمثلت أبرز العراقيل في التالي:

1- وقوع تركيا في حزام نشط للزلازل: إن تعرّض وسط وجنوب تركيا لزلزالين في 6 فبراير 2023، بقوة 7.8 و7.6 ريختر، وما أسفر عنه من خسائر بشرية وخسائر في البنية التحتية، أعاد للأذهان وقوعها في حزام نشط للزلازل يسمى “Alpide Belt” (انظر شكل رقم 2)، والذي يمتد في الجزء الجنوبي من منطقة أوروآسيا، بما يجعلها ثاني أكثر منطقة زلزالية في العالم تقع فيها 17٪ من أكبر الزلازل في العالم، وبالتالي فإنّ بناء منشآت لتخزين وتوزيع الغاز الروسي على الأراضي التركية يجعلها عرضة للتضرر من الزلازل، بما يقلص من جدواها الاقتصادية والتجارية، مع احتمالية أن يؤدي تسرب الغاز المخزن إلى أزمة بيئية.

شكل رقم (2): المنطقة المتأثرة من حزام “Alpide” الزلزالي

(Source: Earth Science Informatics, Springer Nature, September 2020)

على جانب آخر، فإن تخزين الغاز الروسي في تركيا لاستخدامه في المصانع التركية معرض للهدر، ويعزز من تلك المقاربة توقف إمدادات الغاز إلى أكثر من 10 مقاطعات بعد زلزال فبراير 2023، كما تأثر خط “كيليس” للغاز الطبيعي. كما أن الزلزال ضرب 10 مدن بها نحو 150 منشأة صناعية كبرى، العدد الأكبر منها في مدينة غازي عنتاب، وغالبيتها مدرجة بقوائم أفضل الشركات الصناعية في تركيا. ويُشار في هذا الصدد إلى توقع بنك “جيه بي مورجان”، أن الأضرار المباشرة التي لحقت بالمنشآت في تركيا بسبب الزلزال الكبير قد تصل إلى 2.5% من نمو الناتج المحلي أو 25 مليار دولار. ووفق تلك المعطيات سوف يجعل ذلك سعر الغاز الروسي في مركز تخزين الغاز رخيصاً عند محاولة تسويقه لدول أخرى.

2- ارتفاع تكلفة إنشاء مركز للغاز الطبيعي ومرفقاته: سيتطلب إنشاء هذا المركز استثمارات ضخمة قد تفوق قدرة موسكو وأنقرة بسبب تراجع اقتصاديهما، لا سيما وأن عملية الإنشاء ستستمر عدة سنوات، فضلاً عن ضرورة إنشاء خطوط أنابيب جديدة لضخ إمدادات الغاز من “تراقيا” لبلغاريا ومنها لأوروبا، وهو ما يُواجه بمنافسة من قبل اليونان التي دشنت في يوليو 2022 خط أنابيب غاز جديداً مع بلغاريا لتزويدها بالغاز الطبيعي المسال الأمريكي، كما أن تركيا وبلغاريا وقّعتا اتفاقاً في يناير 2023 تستورد بموجبه بلغاريا (ممثلة في شركة “بلغار غاز” المملوكة للدولة) ما يقرب من 1.5 مليار متر مكعب سنوياً لمدة 13 عاماً من محطات التصدير والمرافق التركية، بما يقلص من جدوى إنشاء خط أنابيب بين البلدين.

كانت أنقرة تأمل في دخول شركاء دوليين لتوفير التمويل اللازم لبناء مركز للغاز على أراضيها، وهو ما دلّلت عليه مطالبة وزير الخارجية التركي السابق “مولود جاويش أوغلو” قطر بدعم المقترح الروسي بإنشاء مركز للغاز في تركيا، والذي لفت إليه في مؤتمر مشترك مع نظيره القطري “محمد بن عبد الرحمن آل ثاني” في 14 أكتوبر 2022 (على هامش انعقاد الاجتماع الثامن للجنة الاستراتيجية العليا التركية القطرية)؛ إلا أنّ ذلك لم يَلْقَ استجابة من الدوحة، لا سيما وأن ذلك يشكل منافسة مباشرة مع صادرات الغاز المسال القطري لأوروبا، وهو ما دللت عليه توقعات وكالة “استاندردز آند بورز” (في تقرير صادر في مارس 2022)، بأنه يمكن للغاز القطري تعويض 13% من واردات الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، أي ما يُقدر بنحو 21 مليار متر مكعب، وذلك في ضوء قدرة إنتاج قطر السنوية من الغاز المسال بنحو 106 مليارات متر مكعب، مع الأخذ في الاعتبار أن صادرات الغاز القطري لأوروبا ستكون مرشحة للزيادة في حالة زيادة الإنتاج خلال السنوات المقبلة (وفق مخطط قطر).

من جهة أخرى، فإن توريد الغاز الروسي لدول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا بشكل مستدام أمر غير مضمون، وبالتالي فإن ضلوع قطر أو أي من الشركاء الدوليين في تمويل إقامة مركز للغاز في تركيا غير مربح اقتصادياً نظراً للتطورات السياسية بين روسيا والكتلة الغربية، لا سيما وأن هناك مخططاً أوروبياً مدعوماً من الولايات المتحدة الأمريكية لتقليص الاعتماد على الغاز الروسي حتى من قبل شن الحرب الروسية على أوكرانيا، والذي تراجع بالفعل بشكل ملموس، وهو ما يوضحه الشكل التالي:

شكل رقم (3): تطور حجم واردات الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة من الغاز الطبيعي

أساس سنوي خلال الفترة (أكتوبر 2021 – يناير 2022) (بالمليار متر مكعب)

 (Source: S&P Global Ratings, March 2022)

3- عدم الاستقرار في العلاقات الروسية-التركية: شهدت الفترة الماضية توتراً بين موسكو وأنقرة، وذلك على خلفية ما يلي:

أ- استقبال الرئيس التركي لنظيره الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” في يوليو 2023، وتأكيد “أردوغان” أن كييف تستحق الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو”.

‌ب-  سماح أنقرة بعودة قادة كتيبة “آزوف” الأوكرانية إلى بلادها، وهو ما أسفر عن انتقاد موسكو لتركيا، لا سيما وأنّه كانت هناك صفقة لتبادل الأسرى بين موسكو وكييف توسطت فيها أنقرة تلزم شروطها بإبقاء هؤلاء القادة في تركيا حتى نهاية الحرب، مما دفع الكرملين للاحتجاج على خرق الاتفاق الذي كان يقضي ببقائهم بتركيا حتى نهاية النزاع مع أوكرانيا.

ج- بوادر لتحسن العلاقات الأمريكية التركية بما يسفر عن المرونة في ملف استيراد أنقرة لطائرات “إف-16” الأمريكية، وهو ما أكده مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” في 11 يوليو 2023 بأن بلاده تؤيد إرسال طائرات “إف 16” إلى تركيا بالتشاور مع الكونجرس الأمريكي، وفي الوقت نفسه أكد “سوليفان” أن الولايات المتحدة تؤيد فكرة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.

إن التطورات السابقة دفعت موسكو للإعلان ضمناً عن أن أنقرة شريك غير موثوق به، وأن مصلحة أنقرة العليا قد تتعارض مع نظيرتها الروسية، وبالتالي فإن ترشيح تركيا لأن تصبح منفذاً رئيسياً لتصدير الغاز الروسي لأوروبا ستشوبه العديد من المخاطر التي لا تصب في مصلحة موسكو، ولا سيّما مع تزايد فرص تقارب تركيا مع الجانب الأوروبي، مما دفع صانع القرار الروسي للتراجع عن فكرة إنشاء مركز للغاز على الأراضي الروسية، والاكتفاء بأن تصبح منصة إلكترونية لتداول الغاز الروسي، مما يُفقد تركيا هدفها الاستراتيجي للتحول إلى مركز عالمي لتجارة وتوزيع الغاز الطبيعي، كما أن ذلك التحول يمثل ضغطاً روسياً على الجانب التركي الذي يتخبط لدعم اقتصاده الوطني.

تذليل التناقضات

إن سعي تركيا لزيادة دورها في مواجهة تحديات أمن الطاقة العالمي، وبما يدعم من ثقلها الاستراتيجي في المجتمع الدولي، أصبح يتضارب مع توجهات موسكو بذات الشأن، كما أن تزايد تقاربها نسبياً مع الكتلة الغربية أصبح يمثل معضلة للجانب الروسي، وهو ما دفع موسكو لعدم تجديد اتفاق حبوب البحر الأسود، وبالمثل تعديل مقترح إقامة مركز للغاز على الأراضي التركية بما أفقده مضمونه، بما يُشير إلى أن التناقض الحالي في السياسات التركية ونظيرتها الروسية قد يكون سبباً في مزيد من تعثر التعاون بين البلدين لزيادة دورهما في سوق الغاز العالمي، وهو ما يستوجب رد فعل من الجانب التركي لضمان استمرار العلاقات مع روسيا في حدها الأدنى، مرحلياً على الأقل، حتى عودة العلاقات لطبيعتها، مع التوصل لتوافق بشأن مشاريع الطاقة المستقبلية بين الجانبين، ويشمل ذلك مخططات أن تصبح تركيا محوراً مهماً في توزيع الغاز الروسي بشكل يضمن لأنقرة دوراً مهماً في أمن الطاقة العالمي، وذلك عبر آليات جديدة قد يتم طرحها مستقبلاً.