يكمن وراء عودة داعش لتكثيف نشاطه العملياتي خلال شهر يناير الماضي في أنحاء متفرقة من سوريا، جملة من العوامل الدافعة التي يتمثل أبرزها في الفوضى والانفلات الأمني المستشري في عدة بلدات سورية، وتردي الأوضاع الاقتصادية والبنى التحتية، بالإضافة إلى تراجع سياسات مكافحة الإرهاب وانشغال “قسد” بالضربات التركية. وربما يفرض النشاط العملياتي المتصاعد للتنظيم العديد من التداعيات يتمثل أبرزها في توسيع استهداف الحواجز العسكرية للقوات الحكومية والمليشيات الإيرانية الموالية لها، وتكثيف هجمات التنظيم على سجون ومخيمات شمالي سوريا، إضافة إلى تطلع التنظيم لتجنيد المزيد من السكان المحليين في صفوفه.
فمع بداية عام 2024، تصاعد النشاط العملياتي لتنظيم داعش في مناطق متفرقة من سوريا، واتجه عناصر التنظيم نحو تكثيف الهجمات المتوازية ضد أهداف عديدة على الأراضي السورية، بطريقةٍ توحي بأن التنظيم يخطط لمرحلة جديدة قد يكون هدفه فيها إحداث تغيير أو ربما العودة إلى المناطق السورية لما لها من أهمية رمزية وعملية بالنسبة له، مستغلاً في ذلك تصاعد الانفلات الأمني في سوريا واضطراب الأوضاع بشكل عام، مع تراجع جهود مكافحة الإرهاب.
وعليه، وثّق المرصد السوري لحقوق الإنسان قيام التنظيم خلال شهر يناير الماضي بتنفيذ 27 عملية ضمن مواقع قوات النظام السوري والمليشيات الموالية لها، أودت بحياة 79 شخصاً يتوزعون بين محافظات دير الزور، وحمص، والرقة، وحماة، وحلب، إضافةً إلى تنفيذ 19 عمليةً ضمن مناطق نفوذ الإدارة الذاتية، أسفرت عن مقتل 9 أشخاص يتوزعون بين محافظات دير الزور، والرقة، والحسكة، وحلب. وقد تنوعت التكتيكات التي استخدمها تنظيم داعش ما بين شن هجمات مسلحة، وتنفيذ اغتيالات بطرق مختلفة كإطلاق الرصاص والقتل بأدوات حادة ونصب الكمائن، وزرع عبوات ناسفة وألغام.
عوامل مترابطة
تتعدد العوامل الدافعة لتصاعد النشاط العملياتي لتنظيم داعش على الجغرافيا السورية، والتي يمكن استعراضها كالتالي:
- التوظيف الإعلامي لمنافسة التيارات المحسوبة على إيران في المنطقة: ناقشت افتتاحية العدد الأخير لصحيفة “النبأ” التابعة للتنظيم ضرورة تصعيد العمليات في سوريا والعراق لمواجهة التداعيات السلبية للصراع الدائر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران داخل أراضي الدول العربية؛ إذ أشار العدد 429 إلى استخدام طهران للمنطقة من أجل تحقيق مصالحها الخاصة بغض النظر عما يحتاج إليه المسلمون.
كما أشار التنظيم إلى أن الحكومة الإيرانية حريصة على عدم تصعيد الخلاف مع الولايات المتحدة، ولكنها تتبنى أجندة لدعم مكاسبها في المنطقة، وبناء على هذه الرؤية طالب التنظيم عناصره بتكثيف النشاط في سوريا والعراق.
2- تصاعد الفوضى والانفلات الأمني في بلدات سورية عديدة: تصاعدت وتيرة أعمال العنف والجرائم ضمن مناطق نفوذ قوات النظام، في ظل تقاعس الأجهزة الأمنية المعنية عن وضع حد للانفلات الأمني المتصاعد والفوضى المستشرية في جُل مناطقها، وقد وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان خلال شهر يناير الماضي وقوع 28 جريمة قتل بشكل متعمد، كما بلغت حصيلةُ الاستهدافات في درعا 24 حادثة انفلات أمني أودت بحياة 35 شخصاً، إلى جانب توثيق المرصد 12 عملية اغتيال واقتتال لعسكريين من قوات النظام والأجهزة الأمنية التابعة لها في محافظات دير الزور وريف دمشق والحسكة وحمص ودرعا، مع تصاعد حالات الاختطاف والاعتقال التعسفي، حيث اعتقلت الأجهزة الأمنية ما لا يقل عن 33 مدنياً، وتم تسجيل 7 حالات اختطاف في درعا وحمص.
ومن جهة أخرى، شهدت مناطق نفوذ الإدارة الذاتية خلال شهر يناير تصاعد الاقتتالات العشائرية وانتشار الفوضى والسلاح بين المدنيين دون وجود رادع قانوني، حيث وثق المرصد السوري 5 اقتتالات، أسفرت عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 5 أشخاص آخرين بجراح في محافظتي دير الزور والرقة، إلى جانب وقوع 6 جرائم قتل بشكل متعمد ضمن مناطق نفوذ “قسد” أودت بحياة 8 أشخاص، في ظل تصاعد هجمات المسلحين المحليين ضد قوات سوريا الديمقراطية، وانشغال الأخيرة بالرد على التصعيد التركي ضمن مناطق شمال شرقي سوريا.
وعليه، تصاعد النشاط العملياتي لتنظيم داعش ضمن مناطق نفوذ قوات النظام والمليشيات الموالية له، ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مستغلاً الانفلات الأمني المستشري، وانشغال القوى الأمنية والعسكرية بالتصعيد التركي الذي يمثل محفزاً لداعش لشن المزيد من الهجمات والقيام بعمليات جديدة في مناطق متفرقة من سوريا ولا سيما دير الزور، إلى جانب استفادة عناصر التنظيم من تلك الضربات التركية في شن هجمات على سجون الإدارة الذاتية لتحرير عناصره المحتجزة هناك.
2- تراجع آليات مكافحة الإرهاب: في ظلّ انشغال دول التحالف الدولي ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بالحروب والأزمات الراهنة، تراجعت على إثرها الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، ورغم الجهود التي تبذلها قسد لتطويق خطر التنظيم عبر إطلاق حملات أمنية موسعة لملاحقة خلايا داعش، وضبط الأمن في السجون والمخيمات سيما مخيم الهول؛ إلا أن تلك العمليات لم تعد كافية في ظل تصاعد الهجمات التركية على مناطق شمال شرقي سوريا، وانشغال قوات سوريا الديمقراطية بالرد على تلك الهجمات، واستغل تنظيم داعش هذا الانشغال في تصعيد نشاطه العملياتي في سوريا، ومواصلة خلايا التنظيم عملياتها ضمن مناطق نفوذ الإدارة الذاتية.
وقد أحصى المرصد السوري 19 عملية قامت بها خلايا التنظيم خلال شهر يناير ضمن مناطق نفوذ قسد، أسفرت عن مقتل 7 من قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي (الأسايش)، و1 من عناصر التنظيم، و1 من المدنيين، بينما نفذت قسد 8 عمليات أمنية بينها 5 مشتركة مع التحالف الدولي، وأسفرت تلك العمليات عن اعتقال 45 شخصاً من عناصر وقيادات تنظيم داعش ومقتل عنصر من التنظيم؛ إلا أن تلك العمليات التي تنفذها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي أضحت في الغالب رد فعل على تلك التي ينفذها داعش. وعليه، يسعى التنظيم إلى استثمار تراجع سياسات مكافحة الإرهاب، والتصعيد المتبادل بين أنقرة وقوات سوريا الديمقراطية في الشمال السوري، عبر تكثيف نشاطه لإعادة إحياء الخلافة المكانية في سوريا.
3- تردي الأوضاع الاقتصادية وتدني البنى التحتية: دفع تفاقم تردي الأوضاع المعيشية والإنسانية في أنحاء متفرقة من سوريا تنظيم داعش إلى تكثيف نشاطه خلال شهر يناير مستغلاً الاستياء والغضب الشعبي والاحتجاجات المتواصلة المنددة بتردي الأوضاع وانهيار الواقع الاقتصادي ضمن مناطق نفوذ قوات النظام، فضلاً عن ارتفاع أسعار المواد الأساسية نتيجة انهيار قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي ووصولها إلى أدنى المستويات، في ظل تقاعس الحكومة السورية عن اتخاذ إجراءات لتحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين.
هذا بالإضافة إلى تفاقم معاناة النازحين في مخيمات الشمال السوري نتيجة توقف مشاريع الدعم الإغاثي والصحي، في ظل أزمة اقتصادية تعصف بالنازحين وعدم الاستقرار الناجم عن قصف قوات النظام السوري مناطق إدلب وريفها، إلى جانب معاناة أهالي شمال شرقي سوريا من تكثيف الهجمات التركية على مناطق نفوذ الإدارة الذاتية، ولا سيما البنى التحتية المدنية وتدمير العديد من المرافق الأساسية، والمنشآت الحيوية، مما عطل مرافق المياه والمستشفيات، وانقطاع الكهرباء عن مليون شخص في المدن والقرى.
وقد وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان خلال شهر يناير 61 استهدافاً جوياً من قبل طائرات مسيرة تابعة لسلاح الجو التركي على مناطق نفوذ الإدارة الذاتية، أسفرت عن مقتل 7 أشخاص، وإصابة أكثر من 13 شخصاً بجراح متفاوتة، كما استهدفت الغارات الجوية التركية 19 مركزاً حيوياً لتدمير البنية التحتية في شمال شرق سوريا، إضافة إلى انقطاع الكهرباء عن 9 مدن وهي: درباسية، وعامودا، والقحطانية، وديرك، وكركي لكي، وجل آغا، وتل كرجر، وتل حميس، والقامشلي، وبلغ عدد القرى التي انقطعت عنها الكهرباء 2232 قرية.
وعليه، كان من الطبيعي أن يستثمر تنظيم داعش الأوضاع المضطربة في عموم الأراضي السورية، وضعف البنى التحتية التي خلقت حالة من الغضب الشعبي أسهمت في خلق مساحات واسعة لعودة التنظيم، وتجنيد العديد من السكان المحليين سيما الذين يعانون الفقر.
تداعيات محتملة
في ظلّ الافتقار إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني في سوريا، يفرض النشاط العملياتي المتصاعد لتنظيم داعش العديد من التداعيات المحتملة والتي يمكن استعراضها كالتالي:
1- توسيع استهداف النقاط العسكرية لقوات النظام السوري والمليشيات الموالية له: ربما يتجه عناصر داعش في الفترات المقبلة إلى تكثيف استهداف الحواجز والنقاط العسكرية لقوات النظام والمليشيات الموالية له، للاستيلاء على الذخائر والأسلحة، واستنزاف قوات النظام والعناصر الموالية لها للانسحاب من البادية، ولا سيما مع اتجاه القوات الحكومية والمليشيات الإيرانية في الثاني عشر من يناير إلى إخلاء عشرات النقاط والمقرات التي أنشأتها مؤخراً في البادية، وسحب عناصرها نحو المناطق المأهولة في تدمر وريفي حمص ودير الزور، نتيجة النشاط المتزايد للتنظيم في البادية، بما يسمح للتنظيم على المدى المتوسط بإعادة التموضع والانتشار، ومن ثمّ التوغل في المناطق المأهولة لزيادة عناصره وموارده.
2- تكثيف هجمات التنظيم على السجون والمخيمات: قد تشهد الفترات المقبلة مزيداً من الهجمات لتنظيم داعش على سجون ومخيمات الشمال السوري، التي تحوي الآلاف من عناصر التنظيم والعوائل، مستثمراً الضربات التركية المكثفة وانخفاض القدرات الأمنية في مناطق نفوذ الإدارة الذاتية جراء هذه الضربات وانشغال قوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي بها، إضافةً إلى استغلال افتقار سجون الإدارة الذاتية للمقومات الرئيسية التي يستلزم تواجدها لتفادي محاولات الهرب. وعليه قد يُسهم تراجع سياسات مكافحة الإرهاب وانشغال دول التحالف بالحروب والأزمات الداخلية وترك مسؤولية حماية السجون لقوات سوريا الديمقراطية في إيجاد التنظيم فرصة سانحة لتكثيف نشاطه في مناطق السجون والمخيمات.
3- تجنيد المزيد من السكان المحليين في صفوف “بقايا” داعش: دائماً ما يستغل تنظيم داعش الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في توسيع انتشاره وتسهيل حركته ومن ثم القيام بعمليات إرهابية، لذا قد تشهد الفترات المقبلة مزيداً من اندماج التنظيم مع السكان المحليين وتجنيدهم، سيما مع تفاقم تردي الأوضاع المعيشية والخدمية والأمنية في عموم الأراضي السورية، وتساهل الحكومة السورية في اتخاذ إجراءات لاحتواء الأوضاع.
تكثيف المواجهة
ختاماً، يمكن القول إن تصاعد النشاط العملياتي لتنظيم داعش يأتي في إطار مساعي التنظيم لاستغلال الأوضاع المضطربة في سوريا، وتراجع سياسات مكافحة الإرهاب، لمحاولة إحياء الخلافة المكانية في سوريا، وكسب المزيد من المؤيدين والحفاظ على قاعدته الشعبية، لذلك لا بد من تكثيف جهود مكافحة الإرهاب، وعدم إغفال محاربة التنظيم، فضلاً عن تركيز الحكومة السورية على احتواء الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة والتي يجد التنظيم في ثناياها فرصة سانحة لإثبات وجوده وتعزيز صفوفه.