رسائل مزدوجة:
لماذا عادت تركيا لاستهداف شمال العراق؟

رسائل مزدوجة:

لماذا عادت تركيا لاستهداف شمال العراق؟



تواصل تركيا استهدافها مناطق شمال العراق في إطار مساعيها الرامية إلى محاصرة حزب العمال الكردستاني، حيث شنت المسيرات التركية، في 28 يوليو الفائت، هجمات على مواقع وعناصر كردية في الداخل العراقي، أسفرت عن مقتل أربعة من مقاتلي حزب العمال، وذلك بالتزامن مع إعلان حكومة محمد شياع السوداني عن زيارة مرتقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق، وبالتوازي مع التحركات المستجدة للبلدين لمعالجة القضايا العالقة بينهما.

ورغم أن هجمات المسيرات التابعة للجيش التركي توقفت بعد تنفيذ أهدافها، فإن ذلك لا ينفي أن تركيا ربما تشن عمليات مماثلة في المستقبل، خاصة وأن الاستخبارات التركية أكدت أنها ستواصل تحييد قيادات الكردستاني في مناطق شمال العراق. وقد كشفت أنقرة، في مطلع يوليو الفائت، عن مقتل القيادي في حزب العمال الكردستاني مسعود جلال عثمان الذي كان يحمل الاسم الحركي “زاجروس تشيكدار”، في عملية نفذتها في منطقة سنجار التابعة لمحافظة نينوى في شمال العراق.

توقيت لافت

جاءت الهجمات التركية على شمال العراق في ظل تطور لافت في العلاقات التركية-العراقية، على نحو بدا جلياً في زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني إلى تركيا في 21 مارس الماضي، ونجاح الدولتين في اتخاذ خطوات تنفيذية على صعيد تسوية القضايا الخلافية، وفي الصدارة منها ملف المياه، الذي يوليه الجانب العراقي أهمية كبيرة ويعتبره قضية سيادية.

كما تزامنت الهجمات مع اتساع نطاق التعاون في مشاريع التنمية المستدامة، وهو ما ظهر في إعلان الرئيس أردوغان، قبل نحو خمسة أشهر، عن بدء العمل على مشروع “طريق التنمية” الممتد من البصرة في العراق إلى تركيا، الذي وصفه بأنه “طريق حرير جديد”.

وكان لافتاً عودة التصعيد العسكري التركي على مناطق شمال العراق، بالتزامن مع تحركات تركية مغايرة لتعزيز نفوذها بين القوى السياسية المختلفة في إقليم كردستان العراق، وبدا ذلك مع اتخاذ أنقرة مجموعة من التدابير لتعزيز الثقة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تتهمه تركيا بدعم عناصر حزب العمال الكردستاني، حيث زار وفد من ممثلي الشركات التركية، في 14 يونيو الماضي، محافظة السليمانية، وهو ما يعكس توجهاً تركياً لإعادة النظر في طبيعة العلاقة مع حزب الاتحاد الوطني ثاني أكبر الأحزاب في كردستان العراق.

في المقابل، تزامن استهداف المسيرات التابعة للجيش التركي لعناصر الكردستاني شمال العراق، مع محاولات عدد من القوى السياسية العراقية، وخاصة الموالية لإيران، محاصرة نفوذ تركيا والجماعات السياسية القريبة منها في الداخل العراقي، ولا سيما كتلة “تقدم” النيابية، التي يتزعمها محمد الحلبوسي، حيث سعت بعض التيارات العراقية الممثلة في البرلمان العراقي، في نهاية يوليو الفائت، إلى طرح سحب الثقة من الحلبوسي، وعزله من رئاسة البرلمان.

أهداف متعددة

تتمثل أهم أهداف العمليات العسكرية التي قامت بها تركيا ضد الأكراد في شمال العراق في الوقت الحالي فيما يلي:

1- فرض سياسة الأمر الواقع: تستهدف تركيا من وراء الهجمات العسكرية على شمال العراق فرض سياسة الأمر الواقع على بغداد، خاصة أنها قامت بشنها قبل الزيارة المحتملة للرئيس أردوغان إلى بغداد في الفترة المقبلة. كما تهدف أنقرة إلى توجيه رسالة لبغداد، مفادها أنها لن تتجاوب مع المطالب العراقية التي تدعو لانسحاب قواتها من شمال العراق، وأن قواعدها العسكرية ستظل باقية لاعتبارات أمنية، تتعلق بالمواجهات مع مسلحي حزب العمال الكردستاني، الذين يتحركون داخل المناطق الحدودية بين تركيا والعراق، ويستهدفون الداخل التركي.

2- ممارسة ضغوط في ملف تعويضات النفط: لا تنفصل الهجمات الأخيرة للمسيرات التركية على شمال العراق عن رغبة أنقرة في دفع بغداد إلى التنازل عن التعويضات المالية التي ينبغي عليها دفعها للحكومة العراقية، وذلك وفقاً لقرار محكمة باريس التجارية، والبالغة نحو 1,5 مليار دولار بسبب أضرار اقتصادية لحقت بالعراق جراء سماح تركيا بتصدير نفط كردستان عبر ميناء جيهان التركي من دون موافقة بغداد، أو على الأقل جدولة هذه التعويضات. وتحظى هذه القضية بأولوية خاصة في هذا التوقيت للاقتصاد التركي الذي يعاني تراجعاً لافتاً، فضلاً عن نقص العملة الأجنبية، وارتفاع أرصدة الديوان الخارجية.

3- ترسيخ القوة الرادعة في مواجهة المشروع الكردي: لا يمكن إغفال دور الملف الكردي في تفسير التحركات العسكرية التركية في مناطق شمال العراق وشمال سوريا، وحرص أنقرة على عرقلة المشروع الكردي العابر للحدود، واستكمال الإجراءات التي اتخذتها على صعيد محاربة مليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في شمال سوريا، وآخرها القصف المدفعي على مواقع القوات الكردية في ريف حلب الشمالي في 29 يوليو الفائت، وذلك عقب مقتل خمسة عناصر تنتمي إلى فصائل موالية لأنقرة في هجوم شنته قوات “قسد” على نقطة تركية في مدينة مارع.

كما أن الهجمات الأخيرة لتركيا على مناطق شمال العراق، وبعدها على مناطق بشمال سوريا، استهدفت توجيه رسالة للدول الغربية الداعمة للمشروع الكردي، وذلك من خلال التأكيد على توظيف القوة الرادعة ضد التحركات والأنشطة الكردية في الإقليم، من دون الأخذ في الاعتبار الارتباطات السياسية التي تجمع الدول الغربية-وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية- مع التيارات الكردية في المنطقة. وفي هذا السياق، فإن الضربات الجوية التي شنتها المسيرات التركية ضد المواقع الكردية في شمال العراق، قد تسعى بالأساس لكسر قنوات التواصل بين المراكز الكردية في تركيا وسوريا وإيران والعراق، وذلك في إطار جهود أنقرة لتقويض المشروع الكردي المدعوم من الدول الغربية، والذي قد يستهدف إقامة دولة كردية على المدى البعيد.

4- تعزيز القدرة على تحشيد الداخل التركي: تكشف التحركات العسكرية التركية الأخيرة في شمال العراق أن أنقرة لا تستهدف فقط تقليص تهديدات العناصر الكردية التي تتخذ من جبال قنديل ومنطقة سنجار في العراق نقاط انطلاق لها ضد أهداف تركية، بقدر ما تسعى إلى تحشيد الجبهة الداخلية في تركيا، وتحفيز القواعد القومية، وتأمين دعمها للسلطة الحاكمة في البلاد، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية المقرر لها العام المقبل. وفي الوقت الذي يسعى فيه الرئيس أردوغان إلى عودة سيطرة حزبه على البلديات الكبرى التي خسرها في انتخابات 2019، فإن التصعيد ضد التيارات الكردية في المنطقة، يوفر بيئة خصبة لتعزيز حضور الرئيس التركي (وحزب العدالة والتنمية) في أوساط التيار القومي الذي كشفت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي أجريت في مايو الماضي، عن أنه يمثل شريحة واسعة في الداخل التركي، بل كان القوميون أصحاب القول الفصل في فوز أردوغان بالمقعد الرئاسي في جولة الإعادة.

نهج متواصل

ختاماً، يمكن القول إن الهجمات التي شنتها المسيرات التركية على مواقع الكردستاني شمال العراق، تشير إلى أن تركيا لن تقدم على إجراء تغيير في سياستها الخارجية، لا سيما تجاه سوريا والعراق، على الأقل في المرحلة الحالية، حتى في ظل الدلالات اللافتة التي كشفت عنها الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي فاز بها الرئيس أردوغان، وهو ما يعني أنه رغم الزيارة التي سيقوم بها الأخير إلى العراق، فضلاً عن محاولات تركيا تحسين العلاقات مع سوريا، فإن ذلك لن يؤدي إلى توقف الهجمات العسكرية التركية في كلتا الدولتين.