عقد مجلس المستشارين المغربي وبرلمان البحر الأبيض المتوسط الجلسة التأسيسية لمنتدى “مراكش البرلماني الاقتصادي للمنطقة الأورومتوسطية والخليج” يومي 7 و8 ديسمبر بالمغرب. وفي هذا السياق، أكد رئيس المجلس “النعم ميارة” (في كلمته الافتتاحية بالمنتدى)، على ضرورة تعزيز العلاقات بين الدول الخليجية والأورومتوسطية من خلال كيان جديد يُعنَى بالدرجة الأولى بالملفات الاقتصادية (أمن الغذاء، أمن الطاقة، تعزيز التبادل التجاري، دعم الاستثمارات المشتركة..)، إضافة إلى مكافحة تمويل الإرهاب، في إطار تحقيق السلم والأمن والاستقرار في المنطقة.
رؤية مغربية
وضع “النعم ميارة” تصوراً لكيفية إنشاء الكيان المؤسسي الجديد وتحويله تدريجياً إلى منظمة فاعلة في المنطقة، وذلك من خلال بدء نشاطه كمركز تفكير مشترك، وفي خطوة لاحقة توفير الموارد المالية والبشرية اللازمة لضمان استمراره، ليصبح مؤسسة معنية بطرح أفكار وصيغ التعاون بين الدول الأعضاء بالمنتدى، ومتابعة تنفيذها، وصولاً لإقامة نموذج إقليمي متقدم للتعاون الاقتصادي وتبادل الخبرات على المستويات التشريعية والتجارية والمالية، ولتحقيق ذلك الأمر يرى “ميارة” ضرورة اتباع التدابير التالية:
1- إطلاق “آلية للحوار الاستراتيجي الاقتصادي” بين الدول الخليجية والأورومتوسطية من أجل ابتكار منهجية جديدة لإعادة إحياء مسار “برشلونة”، وتعزيز الاتحاد من أجل المتوسط، وتعزيز العلاقات بين دول الخليج وأوروبا.
2- استئناف المفاوضات من أجل إقامة منطقة تبادل حر بين أوروبا والخليج قابلة للتوسع مستقبلاً لتشمل دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، لافتاً إلى أن تطوير المبادلات التجارية بين المنطقتين سيمكن من فتح آفاق جديدة تشمل الاستفادة من منطقة التبادل الحر بالقارة الأفريقية، ومنطقة التبادل الحر لآسيا والباسيفيك، والسوق المشتركة لدول أمريكا الجنوبية “الميركوسور”.
3- استحداث “صندوق استثمار أورومتوسطي خليجي”، توجه مخصصاته لتعزيز الربط اللوجيستي البيني بين المنطقتين، خاصة بين المثلث اللوجستي لميناء “طنجة” المغربي، وميناء “جينوة” الإيطالي، وميناء “جبل علي” الإماراتي.
4- توسيع التوطين المشترك للأنشطة الاقتصادية، من أجل إنشاء سلسلة قيمة أورومتوسطية خليجية خالقة للقيمة المضافة والفرص لكل دول المنطقة.
دوافع التحرك
تتمثل أهم أهداف المغرب من إقامة الكيان المؤسسي الجديد الذي يجمع الدول الخليجية والأورومتوسطية، في التالي:
1- إحلال المشاريع الإقليمية الراهنة بمشروع جديد: يبرز الطموح المغربي بإنشاء تكتل اقتصادي جديد أن التكتلات الإقليمية الحالية التي يُعد المغرب عضواً فيها لم تنجح في تحقيق المأمول منها. فعلى سبيل المثال، الاتحاد المغاربي الذي أُطلق في عام 1991 لم ينجح في تحقيق حلم الوصول إلى السوق المغاربية المشتركة في عام 2000 بسبب التوترات بين الدول الأعضاء، وخاصة بين المغرب والجزائر، وعدم وجود رغبة في تحرير التجارة بينهم. وبالنسبة لمسار برشلونة الذي انطلق في 1995، فهو لم يحقق تقدماً ملموساً في مجالات الشراكة الاقتصادية والسياسية والأمنية بين الكتلة الأوروبية (15 دولة) وكتلة جنوب المتوسط (12 دولة). فعلى سبيل المثال، كان من المفترض إنشاء منطقة تبادل تجاري حرة بين الطرفين في 2010، وهو ما لم يتحقق، وبالتالي استمر حجم التجارة منخفضاً بين ضفتي المتوسط مقارنة بإمكاناتهما، ولعل نموذج التجارة بين دول الاتحاد الأوروبي الـ15 مع دول المغرب العربي لم يرتفع بالشكل المأمول (انظر الجدول 1).
جدول (1): تطور حجم التجارة بين دول المغرب العربي ودول الاتحاد الأوروبي الـ 15
الموقعة على اتفاق برشلونة خلال الفترة (2002/2020)
يسعى المغرب لإيجاد فرص بديلة مع جيرانه، سواء دول الخليج أو الدول الأوروبية شمال المتوسط، تمكنه من تعزيز تجارته معهم في ضوء صعوبة تحقيق تطور مطرد في التجارة مع دول آسيا نظراً لبعد المسافة وارتفاع تكلفة النقل. وفي هذا السياق، لفت “الميارة” إلى أن هناك فرصاً لزيادة حجم التجارة بين المنطقتين الخليجية والأورومتوسطية من 150 مليار دولار إلى 230 مليار دولار، كما أشار ضمنياً لدور متوقع من المغرب لربط دول التكتل الجديد مع الدول الأفريقية ودول تجمع “الميركسور” (نظراً لعلاقات المغرب القوية مع تلك الدول). وعلى جانب آخر، ينظر المغرب لأهمية تنامي دور التكتلات الإقليمية كضامن سلاسل الإمداد العابرة للحدود، حيث أصبحت الدول تعزز من علاقاتها التجارية في محيطها الإقليمي لضمان عدم حدوث اختناقات في تلك السلاسل أسوة بما حدث في خضم جائحة (كوفيد-19).
2- تثبيت تواجد المغرب في مشاريع النقل الدولية: بالرغم من أهمية موقع المغرب للربط بين القارة الأفريقية والأوروبية، إلا أنه لم يلقَ اهتماماً متزايداً في مشاريع النقل المستحدثة التي تربط الشرق بالغرب، أو الربط بين دول الجنوب (آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا)، وذلك في ضوء البيئة التنافسية على ممرات النقل البحري والبري بين دول الخليج والشرق الأوسط للربط بين الصين وأوروبا. ويُشار في هذا الصدد إلى أن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية لم تدرج المغرب في خطط الربط الرئيسية بين الدول الأعضاء في المبادرة (انظر الخريطة 1)، وبالتالي يسعى المغرب لإدراجه على خريطة التجارة الدولية التي عكستها اتفاقات الصين التجارية مع العديد من الدول.
خريطة (1): ممرات التجارة الدولية
وفق تصور مبادرة “الحزام والطريق” الصينية
وتكشف الخريطة السابقة ممرات التجارة البحرية التي يمكن سلوكها للوصول إلى القارة الأفريقية، والتي تضمنت ميناء “فالنسيا” الإسباني كنقطة عبور نحو ميناء “لاجوس” النيجيري في غرب أفريقيا، الأمر الذي دفع “ميارة” للتأكيد على أهمية الربط الملاحي بين ميناء “طنجة” المغربي وميناء “جينوة” الإيطالي وميناء “جبل علي” الإماراتي (تم إدراجهم ضمن الموانئ التي تدعم المبادرة الصينية)، وبما يُمكن المغرب مستقبلاً من أن يصبح مركز عبور للموانئ الأفريقية في غرب القارة.
وتجدر الإشارة إلى أن المغرب يواجه منافسة قوية مع دول شمال أفريقيا بشأن الدور المرتقب في المبادرة الصينية، ولا سيما بعد إعلان الجزائر في 5 ديسمبر 2022 توقيع اتفاق مع الصين على الخطة التنفيذية للبناء المشترك لمبادرة “الحزام والطريق”، وبالمثل تُعتبر تونس منافساً للمغرب فيما يتعلق بالربط بين الشرق والدول الأفريقية، ويدلل على ذلك مقترح سابق لإيران في 2015 لإنشاء ما أسمته “ممر شرق-غرب” (انظر الخريطة 2)، والذي يجعل إيران نقطة ربط بين شرق وغرب آسيا، ومنها إلى تونس التي تعتبر محور ارتكاز للوصول إلى وسط وغرب أفريقيا.
خريطة (2): مسار ممر الربط بين إيران وقارة أفريقيا عبر تونس
يُوضع في الاعتبار أيضاً مقترحات الربط البري بين شمال شرق القارة الأفريقية وشمالها الغربي، عبر طريق ساحلي يمر من مصر إلى تونس عبر ليبيا، ولكن من الصعب مد الطريق للوصول للمغرب بسبب الجزائر التي تتوتر علاقاتها معها، بما يحيد المغرب عن باقي دول شمال أفريقيا، لذا فاعتماد الممرات البحرية للوصول إلى المغرب هو الخيار الأفضل حالياً، وهو ما تقوم المغرب بالترويج له.
3- سد الفجوة التمويلية في الاقتصاد المغربي: يواجه المغرب إشكالية في عدم توفر التمويل اللازم لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي تشكل نحو 95% من إجمالي عدد الشركات العاملة في السوق المغربية، حيث قدرت فجوة التمويل التي تعاني منها تلك الشركات بنحو 37 مليار دولار (وفق “مؤسسة التمويل الدولية” المعنية بدعم القطاع الخاص بالدول النامية)، وذلك لدعم وتنمية تلك الشركات للعب دور أكبر في الاقتصاد المغربي مستقبلاً، ويُذكر أن فجوة التمويل تشكل نحو 28% من الناتج المحلي الإجمالي المغربي (وفق بيانات 2021)، ولذلك ركز “ميارة” على أهمية توطين الأنشطة المشتركة لدعم سلاسل القيمة في دول التكتل الجديد، في إشارة ضمنية لحاجة المغرب للحصول على تمويل أجنبي في ظل اختناق سوق الدين العالمي بسبب الصدمات المتتالية التي تعرض لها الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة.
في السياق نفسه، توقع “مركز البنية التحتية العالمية” (تابع لمجموعة العشرين) أن حاجات المغرب الاستثمارية لدعم البنية التحتية ستتزايد بشكل مطرد في المستقبل، بما يعني حاجتها إلى الحصول على تمويل أجنبي في ضوء فجوة تمويل متوقعة خلال الفترة (2022-2040) قُدرت بأكثر من 10 مليارات دولار سنوياً (انظر الشكل 1)، الأمر الذي يتطلب تمويلاً مستداماً من أطراف خارجية لسد تلك الفجوة، وبالتالي يطمح المغرب في أن يوفر التكتل الجديد جزءاً من ذلك التمويل، لا سيما وأن التمويل سيوجه لأغراض تنموية تُسهم في زيادة التعاملات الاقتصادية بين المغرب ودول التكتل الجديد، وهو إحدى الركائز التي يقوم عليها التكتل.
شكل (1): تطور حجم الاستثمار المطلوب في المغرب لدعم البنية التحتية
خلال الفترة (2007-2040)
عبء إضافي
في الختام، يمكن القول إن فكرة إنشاء التكتل الخليجي الأورومتوسطي الجديد يوفر العديد من المزايا للمغرب، وعلى رأسها زيادة التبادل التجاري مع دول التكتل، وفي الوقت نفسه إمكانية أن تصبح نقطة عبور مهمة للتجارة بين الدول الأعضاء وكذا مع دول من خارج التكتل الجديد، إضافة إلى حصولها على دعم مالي لسد فجوتها التمويلية، لا سيما وأن المغرب علاقاته متقدمة مع الدول الغنية داخل التكتل، سواء الأوروبية أو الخليجية. إلا أن ولادة ذلك التكتل يرتهن بمدى رغبة الدول الخليجية ونظيرتها الأوروبية في تأسيس كيان مؤسسي إقليمي جديد، بينما هناك آليات وشراكة بين الطرفين، سواء متعددة الأطراف أو في شكل علاقات ثنائية، كما أن ركائز ذلك الكيان الجديد غير مفعلة، سواء مسار برشلونة أو الاتحاد من أجل المتوسط، وبالتالي سيشكل ذلك التكتل الجديد عبئاً إضافياً على الدول الخليجية والأوروبية على حد سواء.