رغم أن الضربات العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل سوريا لا تعبر عن توجه جديد تتبناه تل أبيب في التعامل مع التطورات الميدانية التي تشهدها الساحة السورية، إلا أن الجديد في الأمر يكمن في اقترابها من القاعدة الروسية في طرطوس. وهنا، يمكن القول إن إسرائيل تسعى عبر هذا التغيير في السياسة التي تتبناها إزاء سوريا إلى توجيه رسائل تحذيرية في اتجاهات متعددة، لا تنحصر في خصومها الإقليميين فحسب، وإنما تمتد أيضاً إلى موسكو.
شنت إسرائيل، في 15 أغسطس الجاري، عملية عسكرية جديدة داخل سوريا، في ريف محافظة طرطوس الجنوبي، حيث استهدفت عمليات شحن صواريخ من مواقع إيرانية إلى حزب الله اللبناني. وقد أسفر الهجوم عن مقتل ثلاثة ضباط وإصابة ثلاثة آخرين، وهي العملية العسكرية التاسعة عشرة التي تشنها إسرائيل ضد مواقع تابعة لإيران أو النظام السوري أو المليشيات المسلحة منذ بداية العام الجاري.
دوافع عديدة
يُمكن تفسير إقدام إسرائيل على شن هذه الضربة العسكرية الجديدة في هذا التوقيت تحديداً في ضوء دوافع رئيسية أربعة، تتمثل في:
1- توجيه رسائل تحذيرية إلى موسكو: لا يمكن الفصل بين الضربة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة وبين التوتر المتصاعد بين إسرائيل وروسيا حول التعامل مع الملف الأوكراني. فقد بدا أن ثمة تغيراً نسبياً في الموقف الذي تبنته الأولى إزاء هذا الملف، فبعد أن كانت حريصة على عدم الانخراط بشكل مباشر إلى جانب أحد طرفيها، فقد بدأت في توجيه انتقادات للغزو، ولا سيما بعد أن تولى يائير لابيد رئاسة الحكومة. ويبدو أن ذلك كان أحد الأسباب التي دفعت روسيا إلى اتخاذ قرار بحل الوكالة اليهودية المعنية بتنظيم الهجرة إلى إسرائيل، حيث وجهت اتهامات للوكالة بـ”انتهاك قوانين الخصوصية”. ومع أن إسرائيل ما زالت حريصة على استمرار التواصل والتنسيق مع روسيا في سوريا؛ إلا أن هذا القرار الذي أقدمت عليه موسكو يمكن أن يدفعها إلى إجراء تغيير في موقفها إزاء هذا التنسيق، وهو ما يفسر تعمدها استهداف مناطق قريبة من القاعدة البحرية الوحيدة لروسيا على البحر المتوسط، ومن القاعدة العسكرية في حميميم. وبمعنى أدق، فإن تل أبيب ربما تحاول عبر تلك الهجمات ممارسة ضغوط موازية على موسكو للامتناع عن المضيّ قدماً في تنفيذ هذا القرار، عبر التلويح بأن ذلك كفيل بتقليص مستوى التفاهمات الأمنية في سوريا.
2- الرد على مناورات الحرس الثوري: كان لافتاً أن الضربة العسكرية الجديدة جاءت بعد يومين فقط من إعلان الحرس الثوري الإيراني عن إجراء تجارب حية على صواريخ متوسطة المدى وراجمات صواريخ إيرانية الصنع. كما قام بنصب الراجمات في بادية الميادين شرقي دير الزور، وأطلق عدداً من الصواريخ بشكل عشوائي باتجاه البادية. وهنا، فإن إسرائيل تهدف إلى تأكيد أنها لن تسمح لإيران بتعزيز حضورها العسكري داخل سوريا، أو تهديد أمنها عبر الاستناد إلى الذراع الطولى في القدرات العسكرية الإيرانية وهي الصواريخ الباليستية.
3- ممارسة ضغوط على حزب الله: سعى حزب الله اللبناني خلال الفترة الأخيرة إلى الانخراط في التصعيد بين إيران وإسرائيل. ورغم أنه استند في هذا السياق إلى النزاع بين الأخيرة ولبنان على أحد حقول الغاز “كاريش”، مهدداً بأن “لا أحد يستطيع تصدير النفط والغاز في المنطقة طالما لبنان لن يستطيع ذلك”؛ فإن ذلك لا ينفي أنه حاول عبر هذا التحرك توجيه رسالة إلى إسرائيل بأن إصرارها على توسيع نطاق المواجهة مع إيران سوف يفرض تداعيات سلبية عليها، لأنه سوف يدفع المليشيات الموالية لطهران إلى التدخل من أجل رفع كلفة العمليات التي تستهدف بها تل أبيب منشآت إيران النووية والعسكرية ومواقعها داخل سوريا.
سَعْيُ الحزب إلى الانخراط في التصعيد المتواصل مع إسرائيل بدا جلياً في التحذيرات التي وجهها إلى الأخيرة، خلال فترة التصعيد العسكري في غزة ضد حركة “الجهاد الإسلامي”، حيث حذر الأمين العام للحزب حسن نصر الله، في 9 أغسطس الجاري، من أي محاولات إسرائيلية لتوسيع استهدافها قادة فلسطينيين إلى لبنان، مضيفاً أن “أي اعتداء على أي إنسان في لبنان لن يبقى بدون عقاب، ولن يبقى بدون رد”. وقد حاول الحزب عبر ذلك التماهي مع الموقف الإيراني من التصعيد الأخير في غزة، خاصة أنه توازى مع الزيارة التي كان يقوم بها زياد النخالة أمين عام حركة “الجهاد” إلى طهران، في 6 أغسطس الجاري، حيث التقى مسئولين إيرانيين رفيعي المستوى، وفي مقدمتهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي.
ولذا، فإن أحد أهداف الضربة الأخيرة ينصرف إلى ممارسة ضغوط أقوى على الحزب عبر منعه من تعزيز قدراته العسكرية، من خلال نقل صواريخ من مواقع تابعة لإيران داخل سوريا إلى مواقع الحزب في لبنان، وهو ما يوحي -في الغالب- بأن تل أبيب لم تعد تستبعد أن تندلع مواجهات عسكرية مع الحزب خلال المرحلة القادمة.
4- اقتراب المفاوضات النووية من النهاية: يبدو أن المفاوضات النووية التي تجري بين إيران وقوى مجموعة “4+1” بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية تقترب من نهايتها، حيث تعكف كل من طهران وواشنطن في الوقت الحالي على دراسة المسودة المقترحة من منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل. ووجهت إيران من الإشارات ما يفيد بأنها لم تعد تستبعد إمكانية الوصول إلى صفقة جديدة في فيينا، وهو ما عززته تصريحات المندوب الروسي في المنظمات الدولية ميخائيل أوليانوف، التي أشار فيها إلى إمكانية حدوث تطورات إيجابية، أو الإعلان عن صفقة جديدة في بداية الأسبوع القادم.
ورغم أن النتيجة الأخيرة للمفاوضات لم تتضح بعد، فإن إسرائيل ارتأت ضرورة التحرك على الأرض بشكل استباقي للتعامل مع المعطيات الجديدة للمفاوضات، سواء انتهت بالوصول إلى اتفاق أو فشلت في تحقيق ذلك وعادت أزمة الملف النووي الإيراني إلى مربعها الأول من جديد، وذلك عبر الضربات العسكرية لكل خصومها في سوريا، ولا سيما النظام السوري وإيران وحزب الله. وهنا، فإن الهدف يكمن في تأكيد أنه أياً كانت نتيجة المفاوضات، فإن إسرائيل لن تتوانى عن شن ضربات عسكرية في دول ومناطق مختلفة من أجل حماية مصالحها.
صراع مستمر
ربما يمكن القول في النهاية إن هذا النمط من الضربات قد يتواصل خلال المرحلة القادمة، ليس فقط لأن كلا الطرفين (إيران وإسرائيل) مصران على مواقفهما الحالية، حيث تسعى الأولى إلى تكريس وجودها العسكري في سوريا، فيما تحاول الثانية تحجيمه؛ وإنما أيضاً لأن استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية يبدو أنه سوف يفرض تداعيات مباشرة على التطورات الميدانية في سوريا، ولا سيما لجهة اتساع نطاق التباين بين موسكو وتل أبيب خلال المرحلة الحالية.