سياسات الردع:
لماذا شنت واشنطن هجوماً في دير الزور؟

سياسات الردع:

لماذا شنت واشنطن هجوماً في دير الزور؟



رغم أن الهجوم الذي شنه الجيش الأمريكي، في 23 أغسطس الجاري، في محافظة دير الزور السورية واستهدف منشآت البنية التحتية التي تستخدمها جماعات تابعة للحرس الثوري الإيراني، لا سيما فيلق “فاطميين”، جاء رداً على تعرض قاعدة “التنف” التي يستخدمها التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” لهجوم قبل ذلك بخمسة أيام، إلا أنه لا ينفصل عن المفاوضات التي تجري مع إيران حول الملف النووي، بل يمكن القول إن توقيته يوحي بأن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تسعى من خلاله إلى توجيه رسائل إلى ثلاثة جهات رئيسية قبل تبلور ردها على المسودة الأوروبية الخاصة بالاتفاق النووي التي طرحها مسئول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل.

أعلن المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش الأمريكي (سنتكوم) الكولونيل جو بوتشينو، في 23 أغسطس الجاري، أن الجيش وجّه ضربات عسكرية في محافظة دير الزور استهدفت منشآت بنى تحتية تستخدمها مجموعات مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، وأضاف أن هذه “الضربات الدقيقة تهدف إلى الدفاع عن وحماية القوات الأمريكية من هجمات على غرار تلك التي نفذتها مجموعات مدعومة من إيران في 15 أغسطس ضد عناصر من الولايات المتحدة عندما استهدفت مسيرات موقعاً للقوات المناهضة لتنظيم “داعش” بقيادة الولايات المتحدة من دون التسبب بسقوط ضحايا”.

أهداف عديدة

كان لافتاً أن إيران سارعت إلى تأكيد أن المواقع التي تعرضت للاستهداف من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ليست لها علاقة بها، إلا أن ذلك لا يقلص من أهمية هذه الخطوة التي أقدمت عليها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتي يبدو أنها تسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في:

1- توجيه تهديدات جدية إلى إيران: سعت الإدارة الأمريكية عبر تلك الضربات إلى توجيه تحذيرات مباشرة إلى إيران، بأنها لن تتغاضى عن شن مزيد من العمليات العسكرية لحماية قواتها ومصالحها من خطر استهدافها من قبل مليشيات مسلحة تابعة للأخيرة، سواء في سوريا أو أى دولة أخرى تتواجد بها قوات أمريكية. ويعني ذلك في المقام الأول، أن واشنطن تحاول من خلال ذلك رفع كُلفة عمليات الاستهداف التي تنفذها المليشيات الموالية لإيران، وبالتالي دفع الأخيرة للتوقف عن مواصلة تبني تلك السياسة خلال المرحلة القادمة.

2- التركيز على أدوار الحرس الثوري: كان لافتاً أن البيان الذي أصدرته قيادة “سنتكوم” ركز على أن المواقع التي تعرضت لاستهداف تديرها جماعات مرتبطة بالحرس الثوري. وهنا، فإن الإدارة الأمريكية تسعى عبر ذلك إلى تأكيد أن الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران، مع قرب نهاية المفاوضات التي تجري بين الطرفين، على مستوى ثنائي ومتعدد، منذ 6 أبريل 2021، لا يعني أن واشنطن لن تتحرك على الأرض لكبح الأنشطة التي يقوم بها الحرس الثوري، لا سيما في دول الأزمات، على غرار سوريا والعراق ولبنان واليمن. وبالطبع، فإن هذا الاستهداف قد يتزايد مع الوضع في الاعتبار أن إيران رفضت بشكل واضح تقييد تلك الأنشطة في سياق أى اتفاق محتمل مع القوى الدولية حول البرنامج النووي، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية بدورها إلى الإصرار على رفض رفع العقوبات المفروضة على الحرس أو شطبه من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وهو الشرط الذي تبنته إيران مع بداية المفاوضات، لكنها استبعدته مع قرب نهايتها.

3- استيعاب الضغوط الداخلية المتصاعدة: لا يمكن فصل الضربات العسكرية الأخيرة عن الضغوط التي تتعرض لها الإدارة الأمريكية من جانب الحزب الجمهوري وبعض أقطاب الحزب الديمقراطي، بسبب مواصلة انخراطها في مفاوضات مع إيران امتدت لنحو عام ونصف، وحرصها على الوصول إلى اتفاق نووي جديد مع الأخيرة. إذ يشن أعضاء بارزون في الحزبين الجمهوري والديمقراطي حملة ضد الإدارة بسبب ذلك، معتبرين أن أى اتفاق محتمل مع إيران سوف يسمح للنظام الإيراني بالوصول إلى موارد مالية كبيرة سوف يستخدمها في مواصلة دعم المليشيات الموالية لها وتطوير برنامج الصواريخ الباليستية، وفي الوقت نفسه سوف ترفع القيود المفروضة على الأنشطة النووية الإيرانية تدريجياً وفقاً للاتفاق. وعلى ضوء ذلك، سعت الإدارة عبر توجيه هذه الضربات إلى تأكيد أن أى اتفاق محتمل مع إيران حول البرنامج النووي لا يقلص من حرية الحركة وهامش الخيارات المتاح أمامها للتعامل مع المخاطر التي يفرضها استمرار التدخلات الإيرانية في المنطقة وإصرار طهران على تطوير برنامج الصواريخ الباليستية.

4- تقليص حدة الانتقادات الإسرائيلية: جاءت الضربات الأخيرة في اليوم نفسه الذي عقد فيه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي ايال هولاتا اجتماعاً مع نظيره الأمريكي جيك سوليفان في واشنطن، حيث تركزت المباحثات حول الاتفاق النووي الذي تحاول الإدارة الأمريكية الوصول إليه مع إيران. كما أنها تسبق زيارة سيقوم بها وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى الولايات المتحدة الامريكية في 25 أغسطس الجاري، حيث سيلتقي قائد القيادة المركزية “سنتكوم” الجنرال مايكل كوريلا. وهنا، فإن توقيت الضربة يوحي بأن واشنطن تسعى إلى تقليص حدة الانتقادات التي توجهها إسرائيل للمفاوضات والاتفاق المحتمل، وتأكيد أن هذا الاتفاق، في حالة الوصول إليه، لا يعني أن واشنطن سوف تتراجع عن التزاماتها الاستراتيجية إزاء حلفائها، لا سيما إسرائيل، التي قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيارتها في 13 يوليو الفائت، حيث وقع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد ما يسمى بـ”إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة وإسرائيل”.

لكن لا يبدو أن هذه الجهود الأمريكية سوف تساهم في إقناع إسرائيل بالتراجع عن الضغوط التي تمارسها على الإدارة أو الانتقادات التي توجهها لسياستها إزاء المفاوضات والاتفاق. وقد بدا ذلك جلياً في تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، في 24 أغسطس الحالي، التي أعاد فيها التأكيد على أن الاتفاق المحتمل لا يقلص الخيارات المتاحة أمام إسرائيل للتعامل مع مخاطره. وفي هذا السياق، تساءل لابيد: “كيف يمكن التوقيع على اتفاق مع الإيرانيين يمنحهم مئة مليار دولار سنوياً كجائزة على قيامهم بخرق جميع التزاماتهم”، مضيفاً أن “إسرائيل لا تعارض أي اتفاق مهما كان. نحن نعارض هذا الاتفاق لأنه سيئ، لأنه لا يمكن قبوله بنصه الحالي. بنظرنا، إنه لا يلائم المعايير التي حددها الرئيس جو بايدن نفسه التي تتعهد بمنع إيران من التحول إلى دولة نووية”.

تصعيد محتمل

على ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن التصعيد سوف يبقى عنواناً رئيسياً للتفاعلات بين إيران وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، حتى لو تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد في فيينا، وهو ما يعود في المقام الأول إلى الفصل المتعمد بين هذا الاتفاق، وبين المعطيات الإقليمية التي يمكن أن تنجم عنه. إذ أصرت إيران من البداية على أن تجري المفاوضات حصراً حول البرنامج النووي، ولم تمارس الولايات المتحدة الأمريكية، أو القوى الدولية الأخرى المنخرطة في المفاوضات، أية ضغوط لتوسيع نطاقها لتشمل الملفات الأخرى التي لا تقل أهمية، ولا سيما التدخلات الإقليمية وبرنامج الصواريخ الباليستية.