يمكن تفسير اهتمام إيران بالانخراط في الهدنة الحالية بين إسرائيل وحماس في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في تأكيد امتلاكها نفوذاً داخل الحركة، والتماهي بإيجابية مع مطالب جمعية الخريجين التايلنديين والإيرانيين، ومواصلة التفاهمات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإطالة أمد الحرب وبالتالي إضعاف موقف إسرائيل.
فقد حرصت إيران على تأكيد انخراطها في الجهود التي بذلت من أجل الوصول إلى هدنة بين إسرائيل وحركة حماس، خلال الفترة من 24 وحتى 27 نوفمبر الماضي، والتي تعمل الأطراف الوسيطة (قطر، ومصر، والولايات المتحدة الأمريكية) على تمديدها لأيام أخرى. ورغم أن إيران ليس طرفاً محايداً في الأزمة الحالية، باعتبار أنها داعم رئيس لحركة حماس وإن لم تكن طرفاً ضالعاً في عملية “طوفان الأقصى”، فإن تحولها إلى وسيط في هذه الصفقة يوحي بأنها تسعى إلى تحقيق أهداف عديدة ترتبط برؤيتها لتداعيات ما بعد انتهاء الحرب في غزة، والمسارات المحتملة لعلاقاتها مع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وقراءتها للارتدادات التي سوف تفرضها العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل داخل القطاع.
ففي هذا السياق، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيراني ناصر كنعاني، في 25 نوفمبر الماضي:
منذ الأسبوع الأول لنشوب الحرب في قطاع غزة، وفي ضوء طلب السلطات التايلندية، أجرى وزير الخارجية التايلندي مباحثات مع وزير الخارجية الإيرانية في الدوحة، وطلب منه تسهيل إجراءات إطلاق سراح رهائن تايلنديين لدى حماس، مضيفاً: “تمت متابعة الأمر بصورة مشتركة من جانب كل من إيران وقطر، حيث سلمت قائمة بأسماء هؤلاء الرهائن إلى المسؤولين في حماس، لكي ينظروا في الأمر من منطلق إنساني”.
وكان لافتاً أن السفارة الإيرانية في بانكوك أكدت الخبر نفسه، وسعت إلى الترويج للدور الإيراني في الصفقة على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث قالت إن إيران قدمت قائمة الأسماء بعد طلب من وزارة الخارجية والبرلمان في تايلند. وقد وصل عدد التايلنديين الذين أُفرج عنهم خلال الأيام الثلاثة الأولى من الهدنة، إلى 17 تايلندياً.
لكن رغم الطابع السياسي الذي يطغى على هذه الخطوات، إلا أن المسألة لم تخلُ من طابع أيديولوجي، في ظل الدور الذي قامت به إحدى الجمعيات الإسلامية التايلندية المقربة جداً من إيران في عملية التفاوض والإفراج عن الرهائن التايلنديين.
أهداف عديدة
1- تأكيد استمرار التأثير على حماس: تمثل هذه الخطوة الإيرانية أحد أركان السياسة المزدوجة التي تبنتها إيران منذ بداية الحرب الحالية، بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنّتها كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس) داخل غلاف غزة في 7 أكتوبر الفائت. فمن البداية أعلنت إيران أنها ليست ضالعة في تلك العملية، وأكدت مراراً أن ما تسميه بـ”فصائل المقاومة” تتخذ قراراتها باستقلالية تامة. ومن هنا فإنها بقدر ما سعت إلى نفي انخراطها في الحرب الحالية، ومن ثم تجنب دفع جزء من كلفتها، بقدر ما سعت إلى تأكيد أن ذلك لا يعني أنها تفتقد القدرة على التأثير في القرارات التي تتخذها حركة حماس وغيرها من تلك الفصائل.
وقد حاولت إيران إثبات امتلاكها نفوذاً داخل حركة حماس في مناسبات عديدة، منها -على سبيل المثال- استضافة وفد رفيع المستوى من الحركة برئاسة رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية في طهران، وتنظيم اجتماع له مع المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي في 5 نوفمبر الماضي، فضلاً عن عقد لقاءات متعددة بين وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان مع قادة ومسؤولي حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، في الدوحة وبيروت.
2- الاهتمام بتعزيز النفوذ داخل تايلند: كان لافتاً أن إحدى المنظمات الإسلامية أعلنت أنه كان لها دور في المفاوضات التي أُجريت مع حماس في طهران، وأدت في النهاية إلى الإفراج عن الرهائن التايلنديين السبعة عشر.
رئيس جمعية الخريجين التايلنديين والإيرانيين: حماس وعدتنا بالإفراج عن الرهائن التايلنديين
فقد أعلن لپونگ سید رئيس جمعية الخريجين التايلنديين والإيرانيين، أن الجمعية عقدت مفاوضات لمدة 3 ساعات مع حركة حماس في طهران، وأن دورها كان الحاسم في تحقيق النتائج المرجوة، حيث أشار إلى أنّه في حالة الاكتفاء بدور وزارة الخارجية أو مطالبة دولة أخرى بالتدخل فقد كان من الممكن أن تضعف فرص إطلاق سراحهم.
هذه التصريحات تطرح دلالتين مهمتين: الأولى، أن هذه الجمعية لديها بدورها نفوذ داخل إيران، بدليل أنه كان لها دور في إطلاق سراح الرهائن. هذا النفوذ ربما اكتسبته في ضوء علاقاتها المتشعبة والمتعددة المستويات، لا سيما الثقافي والديني، مع جهات داخل إيران مثل وزارة الثقافة والحوزات الدينية.
والثانية، أن المتغيّر الأيديولوجي كان له تأثير على قرار إيران بالتدخل في الصفقة لصالح الإفراج عن الرهائن التايلنديين، بما يعني أنها سعت عبر هذا الدور إلى الحفاظ على علاقاتها مع المنظمة ومن ثم على نفوذها داخل تايلند، الذي يبدو أنه محط قبول من جانب السلطات بدليل سماحها لتلك المنظمة بالتدخل في جهود الإفراج عن الرهائن.
وعبر البحث عن هذه الجمعية، اتضح أنها جمعية تؤسس علاقات قوية مع إيران، حيث نشرت وكالة أنباء مهر، على سبيل المثال، في 8 يونيو 2012، خبراً عن لقاء بين المستشار الثقافي الإيراني في تايلند مصطفى نجاريان زاده وأعضاء الجمعية، وأشارت إلى أن رئيس الجمعية –آنذاك- دكتور زين العابدين فندي كان أستاذاً بالجامعة وإمام مسجد “نور النصيحة” الشيعي.
وكالة أنباء مهر: توسيع الدبلوماسية العامة: لقاء بين المستشار الثقافي وجمعية الخريجين التايلنديين الإيرانيين – يونيو 2012
3- استمرار التفاهمات مع واشنطن: ربما ترى إيران أن الانخراط في جهود الوصول إلى هدنة بين إسرائيل وحماس، يمكن أن يوفر مكاسب لها فيما يتعلق بتعزيز فرص استمرار التفاهمات مع الولايات المتحدة الأمريكية. إذ ترغب إيران في أن تحيد الضربات العسكرية التي شنتها المليشيات الشيعية الموالية لها في العراق وسوريا ضد القواعد الأمريكية، وتتجنب التأثير سلباً على العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما يعني ذلك أن إيران تحاول استثمار عدم ضلوعها في عملية “طوفان الأقصى” وإدراك واشنطن لذلك، من أجل البناء على هذه التفاهمات وربما تطويرها في المرحلة القادمة، حتى تصل إلى مرحلة إبرام صفقة خاصة بالاتفاق النووي، حتى لو تمّ ترحيل ذلك بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تُجرَى بعد نحو عام.
ولا يمكن في هذا الصدد، أن تكون لإيران رغبة في تعزيز فرص الرئيس الأمريكي جو بايدن في الفوز بفترة رئاسية جديدة، أولاً لتجنب احتمال فوز رئيس جمهوري سوف يتبنى سياسة أكثر تشدداً تجاههاً، وثانياً لدعم احتمالات الإعلان عن التوصل إلى اتفاق نووي جديد، وبالتالي رفع جزء كبير من العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران.
4- إطالة فترة التهدئة والتفاوض بين إسرائيل وحماس: ربما ترى إيران أن الوصول إلى هدنة بين إسرائيل وحماس، والتي قد يتم تمديدها في ظل الجهود الحالية التي تبذلها مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصدد، يتوافق مع حساباتها، باعتبار أن ذلك يمكن أن يساعد في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق نار دائم، وبالتالي يحول دون وصول إسرائيل إلى المرحلة التي يمكن فيها تحقيق أهدافها من العملية العسكرية، ولا سيما القضاء على القدرات العسكرية لحماس.
ففي رؤية إيران، فإنه كلما طال أمد الحرب الحالية كلما ضعف الموقف الإسرائيلي، سواء بسبب الضغوط الداخلية، أو بسبب احتمال تراجع دعم بعض القوى الدولية للعملية العسكرية الحالية التي تشنها إسرائيل داخل القطاع.
ترقّب حذر
في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران تراقب بحذر تطورات ما يجري على الأرض داخل قطاع غزة، حيث تسعى في مرحلة ما بعد تأكيد عدم ضلوعها في عملية “طوفان الأقصى” إلى استغلالها من أجل تحقيق مكاسب على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة بعلاقاتها مع بعض الدول في المنطقة، مثل قطر، التي قد تأخذ منحى أكثر قوة في مرحلة ما بعد الحرب، وتفاهماتها المستمرة مع الولايات المتحدة الأمريكية.