تقييم الأوضاع:
لماذا زار ميلي شمال شرق سوريا؟

تقييم الأوضاع:

لماذا زار ميلي شمال شرق سوريا؟



أجرى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارك ميلي زيارة مفاجئة، في ٤ مارس الجاري، لقاعدة في شمال شرق سوريا، للقاء القوات الأمريكية هناك، وتقييم جهودها خلال السنوات الثماني الماضية تقريباً لمحاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، ومراجعة إجراءات حماية القوات الأمريكية العاملة في سوريا من هجمات عسكرية مستقبلية، بعد تعرضها لعديد من الهجمات خلال الأشهر الماضية من المليشيات الموالية لإيران، على غرار الهجوم الذي وقع في ١٨ فبراير الفائت واستهدف قاعدة القرية الخضراء، بحسب بيان للقيادة المركزية الأمريكية.

وقد أثارت زيارة ميلي لشمال شرق سوريا معارضة النظام السوري، حيث أدانت وزارة الخارجية السورية تلك الزيارة، واعتبرتها انتهاكاً لسيادة سوريا وسلامة أراضيها، وكذلك حفيظة تركيا التي استدعت وزارة خارجيتها السفير الأمريكي لدى أنقرة جيفري فليك، لطلب توضيحات بشأن الزيارة، والتعبير عن عدم ارتياحها لها.

دلالات متعددة

حملت زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية لشمال سوريا، ولقاؤه بالقوات الأمريكية، التي تصل وفقاً لبعض التقديرات إلى حوالي ٩٠٠ عسكري أمريكي في سوريا، لتقديم الدعم لمليشيا “قوات سوريا الديمقراطية” في حربها ضد تنظيم “داعش”، العديد من الدلالات، التي يتمثل أبرزها فيما يلي:

1- تأكيد النجاح الأمريكي في محاربة “داعش”: حققت القوات الأمريكية في سوريا بمساعدة حلفائها من الأكراد نجاحاً ملحوظاً في القضاء على التنظيم الإرهابي، وإنهاء خلافته المزعومة. فقد جاءت زيارة ميلي لشمال سوريا، ولقاؤه بالقادة والقوات الأمريكية هناك، للوقوف على العمليات الجارية ضد التنظيم في أعقاب بيان القيادة المركزية الأمريكية، في ٣ مارس الجاري، الذي يُشير إلى أنها نفّذت بالتعاون مع شركاء الولايات المتحدة في المنطقة، خلال شهر فبراير الفائت، ٤٨ هجوماً عسكرياً على التنظيم في سوريا والعراق، أسفر عن مقتل ٢٢ عنصراً إرهابياً بالتنظيم، واعتقال ٢٥ آخرين. كما نجح الجيش الأمريكي، في ١٧ من الشهر نفسه، في اغتيال حمزة الحمصي، القيادي البارز بتنظيم “داعش”. وقد قال ميلي للصحفيين المسافرين معه أنه يعتقد أن القوات الأمريكية وحلفاءها من الأكراد، الذين يقومون بالدور الأساسي في مواجهة “داعش”، يحرزون تقدماً في إلحاق هزيمة دائمة بالتنظيم الإرهابي.

2- معارضة سحب القوات الأمريكية: يُطالب عديد من المشرعين الأمريكيين بسحب القوات الأمريكية من سوريا انطلاقاً من شعار “أمريكا أولاً”، الذي يعني وضع مصالح الأمريكيين في المقدمة، وليس مصالح المركب الصناعي العسكري بحسب النائب الجمهوري مات جايتز، ولأن الكونجرس الأمريكي، الذي يملك سلطات الحرب، لم يأذن باستخدام القوة العسكرية الأمريكية في سوريا، لأن الولايات المتحدة ليست في حرب ضد سوريا. ولذلك قدم جايتز، في ٢٢ فبراير الفائت، قراراً لمجلس النواب يطالب فيه الرئيس جو بايدن بسحب القوات العسكرية الأمريكية المتمركزة في سوريا، في غضون ١٥ يوماً في حال موافقة الكونجرس عليه. وقد صرح لشبكة “فوكس نيوز” بأنه منذ الحرب الروسية-الأوكرانية وهناك اهتمام أمريكي متراجع بالقوات الأمريكية المتمركزة في سوريا. وأضاف أنه منذ قرار الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بمشاركة الجنود الأمريكيين في الصراع السوري، والولايات المتحدة منخرطة في حرب أهلية سورية مع روسيا وتركيا وإيران، وهو الأمر الذي قد يدفعها للتصادم مع تلك القوى الإقليمية والدولية، التي لديها مصالح متعارضة مع تلك التي تُدافع عنها واشنطن.

بيد أن المسئولين العسكريين الأمريكيين، مثل الجنرال ميلي وقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا، يرفضون دعوات المشرعين الأمريكيين لسحب القوات الأمريكية من سوريا؛ لأن تمركزهم هناك مهم لاستمرار العمليات العسكرية ضد التنظيم الإرهابي، ولضمان هزيمته الدائمة، ولمنع استعادة قدراته على التخطيط لشن هجماته الإرهابية في المنطقة، وضد حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها. وقد أكدوا أنه بدون استمرار تلك العمليات فإن “داعش” ستكون لديه القدرة على إعادة تنظيم صفوفه مجدداً.

وقد أشار تقرير نشرته صحيفة “واشنطن تايمز”، في ٥ يناير الماضي، إلى أن هناك مخاوف متعددة بين المسئولين العسكريين والأمنيين من شن التنظيم هجمات انتقامية ضد الولايات المتحدة وحلفائها بعد الضربات العسكرية الأمريكية العديدة في سوريا، والتي أدت إلى مقتل بعض قادة التنظيم خلال العام الماضي.

3- تقييم جهود إعادة اللاجئين في مخيم الهول لأوطانهم: يفرض مخيم الهول السوري في مدينة الحسكة شمال شرق سوريا، الذي يُعد موطناً لآلاف العراقيين والسوريين النازحين من ديارهم خلال الحرب الأهلية التي استمرت لعقد، ويضم عائلات مقاتلي تنظيم “داعش” من النساء (من ٧٥ دولة)، والأطفال الذين يشكلون النواة الجديدة للتنظيم؛ تحديات قصيرة وطويلة الأجل للولايات المتحدة وحلفائها؛ لأنّ الأوضاع المتدهورة في المخيم، الذي يُوصف بأنه “دويلة داعش”، حوّلته لأرض خصبة محتملة للإرهابيين. فضلاً عن أن تنامي نفوذ التنظيم بداخله، وانتشار أفكاره بشكل أكثر تشدداً من قبل، جعله مصدر تهديد حقيقياً لواشنطن وحلفائها. ولذلك يدعو عديد من المسئولين العسكريين الأمريكيين لإعادة اللاجئين بالمخيم إلى بلدانهم أو مجتمعاتهم الأصلية، مع العمل على تحسين الظروف المعيشية في المخيم. وتأتي زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية المفاجئة لسوريا؛ لتقييم جهود إعادة اللاجئين بمخيم الهول لأوطانهم، وإعادة تأهيلهم وفقاً للمتحدث باسم الجنرال ميلي العقيد ديف بتلر.

4- حماية القوات الأمريكية العاملة في سوريا: هدفت زيارة ميلي إلى مراجعة إجراءات حماية القوات الأمريكية من هجمات عسكرية مستقبلية، بعد تعرضها لعديد من الهجمات المسلحة خلال الأشهر الماضية، والتي نفذتها المليشيات المدعومة من إيران باستخدام الطائرات من دون طيار والصواريخ لاستهداف المنشآت التي تضم القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لمحاربة تنظيم “داعش”.

ففي ١٤ فبراير الفائت، أعلنت القيادة المركزية للجيش الأمريكي (سنتكوم) إسقاط الجيش الأمريكي طائرة من دون طيار إيرانية الصنع في سوريا كانت تحاول إجراء عملية استطلاع حول قاعدة عسكرية أمريكية في شمال شرق سوريا.

5- استمرارية الدعم الأمريكي للأكراد: على الرغم من عدم إشارة تقارير للقاء بين ميلي وقادة “قوات سوريا الديمقراطية”، أبرز حلفاء الولايات المتحدة في مواجهة تنظيم “داعش” بسوريا، فإن زيارته لقاعدة عسكرية أمريكية في شمال سوريا، وربما في منطقة تسيطر عليها “قسد”، تؤكد على استمرار الدعم الأمريكي للأكراد، وتزويدهم بكل ما يلزمهم من أسلحة وإمدادات لوجستية، لاستمرار دورهم في محاربة تنظيم “داعش”، ولا سيما في وقت لا تزال تُهدد فيه تركيا بهجوم واسع النطاق ضد الأكراد السوريين، الذين تعتبرهم أنقرة إرهابيين.

6- مواجهة النفوذ الإقليمي الإيراني: تهدف زيارة ميلي لشمال سوريا إلى مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا في إطار التحول في الاستراتيجية الأمريكية من إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام ٢٠١٥- الذي كان يتقدم أجندة الإدارة الديمقراطية منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض- في أعقاب إخفاق جولات المباحثات غير المباشرة في فيينا، إلى تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة، ولا سيما مع الدعم العسكري الإيراني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، حيث يقدم النظام الإيراني طائرات من دون طيار لموسكو والتي استخدمتها في استهداف البنى التحتية الأوكرانية. وتهدف الولايات المتحدة من الحفاظ على التواجد العسكري في سوريا، إلى إغلاق جميع الطرق أمام طهران للربط بين العراق وسوريا، بما يُعزز من نفوذها الإقليمي ودورها المزعزع للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.

دوافع الاستمرار

تأتي زيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية لشمال سوريا في ظل تصاعد الدعوات داخل الكونجرس الأمريكي لسحب القوات الأمريكية المتمركزة من سوريا ولا سيما مع تصاعد تيار “أمريكا أولاً”، لتؤكد ما صرح به مارك ميلي للصحفيين المرافقين له بأن هناك علاقة بين المهمة الأمريكية في سوريا وأمن الولايات المتحدة وحلفائها. وهناك جملة من الاعتبارات الجيوسياسية الأخرى لاستمرار التواجد العسكري الأمريكي، والتي تتقدم الأجندة الأمريكية، فبجانب الحفاظ على المكاسب الأمريكية في هزيمة تنظيم “داعش” الإرهابي الذي كان يسيطر في السابق على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا والعراق، وإجهاض مخططه لإقامة خلافته المزعومة؛ يهدف الوجود العسكري الأمريكي في سوريا إلى الحفاظ على تواجد أمريكي في شرق البحر الأبيض المتوسط الذي تتزايد أهميته الاستراتيجية في الآونة الأخيرة، وموازنة نفوذ روسيا وتركيا وإيران في سوريا، خاصة أن لدى تلك الدول موقفاً مشتركاً يدعو لإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في سوريا.