يُعد القرار الذي اتخذه الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 9 فبراير الجاري، والخاص برفع مستوى التمثيل الدبلوماسي لبلاده مع سوريا بعد قطيعة دامت عشرية كاملة، خطوة غير مسبوقة، وتطوراً لافتاً بشأن التحول التونسي حيال تطورات الأزمة السورية. وربما يمكن القول إن هذا القرار كشف عن سعى النخبة الحاكمة في تونس إلى تعزيز حضور البلاد في المشهد الإقليمي خلال المرحلة المقبلة، خاصة في ظل توترات مكتومة في العلاقات مع بعض دول الجوار.
ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل بدوره عن جهود الرئيس سعيّد للكشف عن ملابسات تسفير الجهاديين التونسيين إلى مناطق الصراعات، ولا سيما سوريا، خلال السنوات التي كانت تسيطر فيها حركة “النهضة” على السلطة، وهو الملف الذي ما زال يمثل محوراً رئيسياً في التفاعلات السياسية التي تجري على الساحة التونسية خلال المرحلة الحالية.
تحولات بارزة
قوبلت السياسة التي تبناها النظام السوري في التعامل مع الاحتجاجات التي اندلعت في البلاد منذ عام 2011 بردود فعل تونسية رافضة، توازت مع المطالبة بالاستجابة لمطالب المحتجين. واتسم الموقف التونسي في هذه الفترة بالتوافق مع الاتجاه الدولي السائد من الأزمة في سوريا آنذاك، حيث قرر الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي، في 4 فبراير 2012، طرد السفير السوري بتونس، وسحب أي اعتراف بالنظام الحاكم في دمشق، داعياً “الأسد” إلى التنحي عن السلطة.
هذا الموقف التونسي الأوّلي بدأ يتغير تدريجياً خاصة منذ عام 2017، حيث بدا لافتاً أن ثمة تطورات إيجابية طرأت على العلاقات بين تونس وسوريا في عهد الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي، وهو ما بدا جلياً في تأكيده، في 4 أبريل 2017، أن “لا مانع من عودة العلاقات الطبيعية مع سوريا”، مضيفاً أن “السلطات التونسية لم تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع سوريا وأن لديها تمثيلية قنصلية في دمشق ترعى المصالح التونسية”.
لكن العلاقات بين الدولتين وصلت إلى مستوى أعلى، بعد انتخاب الرئيس قيس سعيّد، الذي اعتبر أن “قضية النظام السوري شأن داخلي يهم السوريين بمفردهم، والبعثات الدبلوماسية تكون بين دول وليس أنظمة”. كما كانت تونس من الدول الأولى التي بادرت إلى إرسال مساعدات لسوريا عشية الزلزال المدمر الذي وقع في 6 فبراير الجاري، وتضمنت تلك المساعدات إرسال طائرات إغاثة تشمل فرق إنقاذ وحماية مدنية وأطباء ومساعدات غذائية.
وقبل ذلك، حرص الرئيس سعيّد، خلال لقاءه وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في الجزائر على هامش احتفالات الأخيرة بالعيد الستين للاستقلال، في 6 يوليو 2022، على تأكيد أن “الإنجازات التي حققتها سوريا وكذلك التي حققها الشعب التونسي في محاربة قوى الظلام والتخلف تتكامل مع بعضها لتحقيق الأهداف المشتركة للشعبين الشقيقين في سوريا وتونس”.
أسباب عديدة
يمكن تفسير هذه الخطوة التي أقدمت عليها تونس في هذا التوقيت في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تحييد ضغوط الخصوم في الداخل: لا يمكن فصل هذه الخطوة التونسية الخاصة برفع مستوى العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، عن الجهود التي يبذلها الرئيس قيس سعيّد ويهدف من خلالها إلى تحييد الضغوط التي تفرضها التطورات الطارئة على الساحة الداخلية، والحصول على مزيد من الدعم السياسي، في ظل استمرار حالة الاستقطاب السياسي في الداخل على خلفية استمرار الأزمة الاقتصادية.
وفي هذا السياق، يرى الرئيس سعيّد أن تحسين العلاقات مع دمشق ربما يساهم في توفير أرضية لكسب تأييد بعض التيارات التونسية، أو على الأقل تحييد الضغوط التي تمارسها، وفي الصدارة منها الاتحاد التونسي للشغل، الذي دعا، في 4 أغسطس 2021، إلى أهمية إعادة العلاقة مع سوريا، والابتعاد عن سياسة المحاور. كما دعت الهيئة الوطنية للمحامين قبل أيام إلى “فك العزلة عن الشعب السوري، وإرجاع العلاقات الدبلوماسية فوراً وعلى أعلى مستوى”. وقد أبدى الاتحاد اهتماماً خاصاً بإرسال مساعدات إلى سوريا من أجل تعزيز قدرتها على مواجهة تبعات الزلزال.
2- متابعة ملف تسفير الجهاديين: وهو ملف يحظى باهتمام خاص على الساحة الداخلية التونسية. ومن هنا، فإن اتجاهات عديدة ترى أن الخطوة التونسية الأخيرة تهدف إلى رفع مستوى التنسيق الأمني مع النظام السوري من أجل متابعة هذا الملف، خاصة أن تونس كانت من أكثر الدول العربية التي شارك بعض مواطنيها في العمليات التي قامت بها التنظيمات الإرهابية على الساحة السورية. ومن دون شك، فإن ذلك لا ينفصل بدوره عن الصراع المستمر مع حركة “النهضة” التي تواجه اتهامات بالتورط في عمليات تسفير الجهاديين إلى مناطق الصراعات، ولا سيما سوريا.
3- تأكيد محورية الدور التونسي في المنطقة: يبدو أن تونس تسعى إلى تعزيز دورها وموقعها في التطورات المتسارعة التي طرأت على الساحة الإقليمية في الفترة الماضية. وهنا، يمكن فهم سعى تونس إلى تطوير العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، وهو ما يتوازى مع استمرار الجهود التي تبذلها دول عربية عديدة من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية.
وربما يكتسب هذا التوجه مزيداً من الأهمية والزخم في ظل اتساع نطاق القضايا الخلافية بين تونس وبعض دول الجوار، على غرار الجزائر، إلى جانب استمرار الضغوط الدولية. وقد كان الجدل الذي ثار حول هروب المعارضة الجزائرية أميرة بوراوي إلى فرنسا عبر تونس آخر المؤشرات التي تكشف عن مدى التوتر في العلاقات بين تونس والجزائر. ومن هنا، فإن تونس ربما ترى أن الانخراط في جهود تسوية الأزمة السورية قد يساهم في تقليص حدة الضغوط الخارجية وتوسيع هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمامها على المستويين الإقليمي والدولي.
4- استقطاب الدعم الإقليمي للسياسة التونسية: في ضوء الضغوط التي تتعرض لها تونس، فإن اتخاذ خطوة جديدة على صعيد رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي مع سوريا من شأنه تأمين حواضن إقليمية داعمة للسياسة التونسية، خاصة أن سوريا كانت من أوائل الدول التي أيدت خارطة الطريق التي وضعها الرئيس قيس سعيّد، كما أكدت دمشق على أن “الدولة الشرعية في تونس والشعب التونسي قادران على الانطلاق إلى مستقبل يقرره التونسيون أنفسهم”، واعتبرت أن “إجرءات سعيد لا تتعارض مع قواعد ومضامين الدستور التونسي”.
تداعيات محتملة
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن الزلزال الذي تعرضت له تركيا وسوريا، في 6 فبراير الجاري، قد يفرض تداعيات سياسية عديدة على المستوى الإقليمي، ربما تدعم موقف النظام السوري، خاصة في ظل تطلع العديد من القوى العربية إلى دعم فرص الوصول إلى تسوية للصراع السوري، من أجل إنهاء معاناة السوريين، ومكافحة التنظيمات الإرهابية التي ما زالت تنشط داخل سوريا وعلى رأسها تنظيم “داعش”، ووقف التدخلات التي تقوم بها العديد من القوى الإقليمية غير العربية.