يبدو أن مرحلة جديدة من التوتر بين إيران والدول الغربية سوف تبدأ على خلفية التقرير الذي أصدرته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 15 نوفمبر الجاري، والذي كشف أن إيران لم تكتفِ فقط بمنع بعض المفتشين من جنسيات محددة من دخول منشآتها، وعدم الرد على أسئلة الوكالة حول العثور على جزيئات يورانيوم في منشأتي توركوزآباد وورامين، وإنما بدأت أيضاً في زيادة إنتاج اليورانيوم المخصّب بنسب مختلفة، إلى درجة جعلتها تحتفظ بكمية من اليورانيوم المخصب تفوق 22 ضعف ما هو مسموح به في الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه في 14 يوليو 2015، بعد أن كانت هذه الكمية تفوق ما هو مسموح به بنحو 18 مرة، حسب التقارير السابقة للوكالة.
هنا، لا يمكن فصل ما يجري على صعيد التوتر مع الدول الغربية والوكالة الدولية للطاقة الذرية عن تطورات الحرب التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة بين القوات الإسرائيلية وحركة حماس، بعد عملية “طوفان الأقصى” التي شنتها كتائب القسام- الذراع العسكرية التابعة للأخيرة- في 7 أكتوبر الفائت.
وبمعنى أدق، فإن الارتدادات الإقليمية التي فرضتها تلك الحرب كان لها دور في دفع إيران إلى رفع مستوى التخصيب مجدداً، وإن كان ذلك لا يعد السبب الوحيد، باعتبار أن قرار زيادة مستوى التخصيب قد يكون اتُّخذ حتى قبل اندلاع الحرب الأخيرة، بما يعني أن دوافع أخرى ربما يكون لها تأثير في هذا القرار الذي يتوقع أن يكون حاضراً بقوة في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي سيعقد في الشهر الجاري.
اعتبارات عديدة
في ضوء ذلك، فإن قرار إيران بالعودة من جديد إلى زيادة كمية اليورانيوم المخصب التي تمتلكها بنسب مختلفة يمكن تفسيره في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تهديد واشنطن بعدم استكمال صفقة تبادل السجناء: إذ يتبقى الشق الثاني الخاص بحصول إيران على 6 مليارات دولار التي تمثل أموالها المجمدة لدى كوريا الجنوبية، والتي تم تحويلها إلى حسابات في قطر كجزء من صفقة تبادل السجناء التي تم تنفيذ الشق الأول منها في 18 سبتمبر الماضي بالإفراج المتبادل عن السجناء لدى السلطات الإيرانية والأمريكية.
فبعد اندلاع الحرب في غزة، بدا لافتاً وعلى خلفية زيادة الاتهامات الموجهة لإيران بالضلوع في عملية “طوفان الأقصى”، أن الإدارة الأمريكية بدأت تلمح إلى إمكانية تجميد هذا الشق، خاصة في ظل الضغوط القوية التي تعرضت لها من جانب بعض أقطاب الحزب الجمهوري الذين اعتبروا أن السياسة التي تبنتها الإدارة تجاه إيران كان لها دور في دفع الأخيرة إلى مواصلة تحركاتها على الأرض لتعزيز نفوذها ودعم حلفائها.
وهنا، فإن زيادة كمية اليورانيوم المخصب يمكن أن تكون- في قسم منها- محاولة للرد على المماطلة الأمريكية في تنفيذ هذا الشق المهم من الصفقة، الذي يحظى باهتمام خاص من جانب إيران، في ظل الأزمة الاقتصادية القوية التي تواجهها ولم تنجح الإجراءات الحكومية التي اتُّخذت في احتواء تداعياتها خلال المرحلة الماضية.
2- عدم استبعاد توسيع نطاق الحرب: رغم أنّ إيران حرصت أكثر من مرة، وعلى لسان كبار مسئوليها، على نفي ضلوعها في عملية “طوفان الأقصى”، وهو ما تماهت معه ردود الفعل الأمريكية والإسرائيلية في هذا الصدد، ورغم أنها مارست- على ما يبدو- ضغوطاً على حلفائها من أجل ضبط إيقاع التصعيد مع إسرائيل عبر هجمات عسكرية محدودة؛ إلا أنها لم تستبعد حتى الآن إمكانية توسيع نطاق الحرب لتشمل دولاً وأطرافاً أخرى، وفي مقدمتها بالطبع لبنان، في ظل التصعيد الذي ترتفع وتيرته تدريجياً بين حزب الله وإسرائيل بسبب الضربات العسكرية المتبادلة بين الطرفين خلال الفترة الماضية.
هنا، وفي هذه الحالة، فإن إيران قد تضطر إلى التدخل. فإذا كانت قد قررت عدم الانخراط في الحرب الحالية بعد العملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، فإن هذا التوجه قد يتغير في حالة امتداد الحرب إلى لبنان. وبمعنى أدق، فإن سياسة إيران من الحرب الحالية قد لا تبدو مستقرة، إذ إنها ربما تتغير في حالة ما إذا دخل حزب الله كطرف مباشر فيها.
وفي ضوء ذلك، فإن إيران ربما اتجهت إلى زيادة كمية اليورانيوم المخصب باعتبار أن ذلك يدخل ضمن سياسة “مراكمة أوراق الضغط” التي يمكن إدارة التصعيد عبرها مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ولا سيما في حالة ما إذا اتجهت الأولى إلى رفع مستوى عملياتها العسكرية ضد حزب الله في لبنان، أو إذا اتخذت الثانية قراراً باستخدام الخيار العسكري ضد حزب الله، عبر قطعها العسكرية التي تتواجد حالياً بالقرب من مسرح العمليات.
3- الرد على العقوبات الأوروبية: استبقت الدول الأوروبية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا وألمانيا، قرار مجلس الأمن برفع الحظر الأممي المفروض على إيران في مجال الأنشطة المرتبطة بالصواريخ الباليستية، في 18 أكتوبر الفائت، بتأكيد مواصلة فرض عقوبات في هذا الصدد، مع الالتزام بالعمل على منع إيران من حيازة أسلحة نووية.
ومن دون شك، فإن هذا التوجه يعبر عن سياسة جديدة تتبناها الدول الأوروبية، التي سبق أن تباينت سياستها مع السياسة الأمريكية، في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، خاصة بعد أن انسحبت الأخيرة من الاتفاق النووي في 18 مايو 2018 وبدأت في فرض عقوبات أمريكية على إيران منذ 7 أغسطس من العام نفسه.
هنا، فإن إيران لم تكتفِ بالتنديد بهذه العقوبات، وتأكيد أن الدول الغربية تقاعست عن الالتزام بتعهداتها في الاتفاق النووي، وإنما بدأت في رفع مستوى أنشطتها النووية، واتخاذ خطوات تصعيدية أخرى على غرار منع بعض المفتشين من جنسيات محددة مثل الفرنسيين والألمان من دخول منشآتها.
4- ضغوط تيار المحافظين الأصوليين: تحول الاتفاق النووي تحديداً إلى محور للصراعات السياسية داخل إيران، منذ الوصول إليه في 14 يوليو 2015. إذ لم يتوقف تيار المحافظين الأصوليين عن شن حملات مستمرة ضد الاتفاق. وبعد أن نجح هذا التيار في تكريس نفوذه داخل مراكز صنع القرار، ولا سيما مع انتهاء الولاية الثانية للرئيس السابق حسن روحاني، مارست بعض أجنحته النافذة في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) وبعض المؤسسات الأخرى، فضلاً عن وسائل الإعلام الرئيسية، ضغوطاً من أجل تبني سياسة أكثر تشدداً في إدارة العلاقات سواء مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو مع الدول الغربية بشكل عام.
وقد تصاعدت حدة تلك الضغوط بعد تعرض إيران لعمليات استخباراتية داخل منشآتها النووية وجهت فيها اتهامات مباشرة لإسرائيل، وبعد توجيه الدول الغربية اتهامات لإيران بتقديم دعم عسكري لروسيا لمساعدتها على إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا.
لذا، فإن تيار المحافظين الأصوليين استغل هذه التطورات- في مجملها- لممارسة ضغوط أقوى من أجل رفع مستوى الأنشطة النووية، وربما إيصالها إلى المرحلة التي تمتلك فيها إيران القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
ملف شائك
في ضوء ذلك، سوف تتواصل التجاذبات بين إيران والدول الغربية خلال المرحلة القادمة، خاصة أنه لا توجد مؤشرات تزيد من احتمالات الوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، سواء في ظل انشغال الأخيرة بالحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، أو في ظل اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي سيتحول فيها الملف الإيراني إلى أحد محاور الخلافات بين المرشحين الرئيسيين.