سياسة مزدوجة:
لماذا جددت إيران رفضها مشاركة دول المنطقة في مفاوضات فيينا؟

سياسة مزدوجة:

لماذا جددت إيران رفضها مشاركة دول المنطقة في مفاوضات فيينا؟



رغم أن حكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ما زالت حريصة على مواصلة توجيه رسائل إلى دول المنطقة، ولا سيما دول الجوار، تفيد بأنها تضع تطوير العلاقات معها ضمن أولوياتها؛ إلا أنها في الوقت نفسه جددت إصرارها على رفض مشاركة تلك الدول في المفاوضات التي تجري في فيينا حول الاتفاق النووي، رغم أن الارتدادات المباشرة للنتائج التي سوف تنتهي إليها هذه المفاوضات -أياً كانت- تبقى إقليمية بامتياز، وتحظى باهتمام خاص من جانب تلك الدول لاعتبارات أمنية واستراتيجية في المقام الأول. ويمكن تفسير ذلك في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في تجنب توسيع نطاق التفاوض ليشمل التدخلات الإقليمية، وتمرير البند الخاص ببرنامج الصواريخ الباليستية، والاقتراب من مرحلة إجراء مفاوضات مباشرة مع واشنطن، وتعزيز موقع إيران في المنطقة باعتبارها قوة رئيسية.

سعى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، خلال مشاركته في “المؤتمر الوطني لإيران ودول جوارها”، الذي نظمه معهد الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية وأنهى أعماله في 24 يناير الجاري، إلى توجيه رسائل مباشرة إلى دول الجوار، مفادها أن إيران حريصة على مواصلة السياسة الحالية القائمة على تطوير العلاقات مع تلك الدول واحتواء العقبات التي تحول دون ذلك.

لكنّ أهم ما جاء في تصريحات عبد اللهيان هو رفضه مجدداً إشراك دول المنطقة في مفاوضات فيينا، حيث قال في هذا السياق: “لا نرحب بفكرة إضافة أعضاء جدد من المنطقة إلى المحادثات، لكننا نُبقي جيراننا على اطّلاع بالقضايا”، مضيفاً أن إيران تستعيض عن ذلك بالمواظبة على إطلاع دول المنطقة على مجريات المفاوضات، سواء عبر سفرائها، أو من خلال مساعدي وزير الخارجية، أو عن طريق الزيارات التي يقوم بها إلى بعض تلك الدول.

ويطرح ذلك دلالة مهمة تتمثل في أن إيران تتبنى سياسة مزدوجة في تعاملها مع دول المنطقة؛ ففي الوقت الذي تؤكد فيه أنها تمنح الأولوية لتطوير العلاقات مع تلك الدول، فإنها لا تُحبذ إشراكها في مفاوضات يمكن أن تمسَّ أمنها ومصالحها بشكل مباشر، باعتبار أن المعطيات الجديدة التي يمكن أن تتمخض عنها المفاوضات سوف تؤثر بشكل مباشر على التفاعلات التي تجري في المنطقة، أياً كان المسار الذي سوف تنتهي إليه.

اعتبارات عديدة

يمكن تفسير حرص إيران على تجديد إصرارها على رفض مشاركة دول المنطقة في مفاوضات فيينا في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أبرزها في:

1- عدم توسيع نطاق ملفات التفاوض: ترى إيران أن مشاركة عدد من دول المنطقة في المفاوضات يمكن أن يفرض ضغوطاً أقوى لتوسيع نطاق المفاوضات لتشمل الملفات الخلافية الأخرى التي لا تقل أهمية بالنسبة لتلك الدول عن البرنامج النووي الإيراني. وتأتي التدخلات الإقليمية الإيرانية في مقدمة تلك الملفات، خاصة بعد أن تفاقمت حدتها خلال الفترة الماضية إلى درجةٍ أدّت إلى استمرار الأزمات الإقليمية دون تسوية حتى الآن رغم كل الجهود التي بذلتها قوى إقليمية ودولية عديدة في هذا الصدد.

ورغم أن القوى الدولية التي تنخرط في المفاوضات سبق أن تبّنت تلك الدعوة، ولا سيما مع بداية الجولة السابعة من هذه المفاوضات، التي كانت بمثابة الجولة الأولى في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي؛ إلا أنها لم تصر على ذلك، حيث فضلت منح الأولوية للوصول إلى صفقة تعزز من احتمال استمرار العمل بالاتفاق النووي، وتوقف التقدم الكبير الذي أحرزته إيران في هذا الصدد خلال الفترة الأخيرة. كما أن إيران نفسها رفضت ذلك بشكل واضح، حيث أكدت أكثر من مرة أن المفاوضات التي تجري في فيينا تتركز حول الاتفاق النووي فحسب، ولا تمتد إلى الملفات الأخرى. وهنا، فإن مشاركة بعض دول المنطقة في هذه المفاوضات كان من الممكن أن يُعيد إضفاء زخم خاص على تلك الدعوة، باعتبار أن المخرجات الأساسية للمفاوضات سوف تكون إقليمية في المقام الأول.

2- الاقتراب من المرحلة النهائية: تُشير تصريحات مسئولي الدول المشاركة في المفاوضات إلى أنها تقترب من نهايتها. وفي هذا السياق، قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، في 25 يناير الجاري: “نحن قريبون جداً جداً من نهاية المطاف في شأن القدرة على العودة إلى هذا الاتفاق”، إلا أنه أضاف أنه “لا يعرف ما إذا كنا سنعود إلى الامتثال المتبادل”، مؤكداً أن “هذا سيتقرر في الأسابيع القليلة المقبلة”. من هنا، لم يعد هناك مجال أمام إشراك قوى أخرى في المفاوضات، باعتبار أن الفترة الماضية شهدت إجراء مباحثات حول كل البنود الخلافية، سواء ما يتعلق بمستوى العقوبات الأمريكية التي سترفع عن إيران في حالة الوصول إلى صفقة، أو ما يتصل بالإجراءات التي سوف تتخذها الأخيرة للعودة للالتزام بتعهداتها فيه. وبمعنى آخر، فإن إيران باتت تستند في إطار رفضها إشراك دول المنطقة في المفاوضات إلى أن الوقت لم يعد يسمح بذلك، باعتبار أن المفاوضات اقتربت من نهايتها، وإن كان من غير الواضح بعد ما سوف تؤول إليه في النهاية.

3- تمرير البند الخاص ببرنامج الصواريخ: لا تمثل التدخلات الإقليمية الملف الخلافي الوحيد العالق بين إيران والقوى الدولية والإقليمية المعنية بأمن واستقرار المنطقة. إذ يحظى برنامج الصواريخ الباليستية باهتمام خاص أيضاً من جانب تلك الدول، التي ترى أن هذا البرنامج يهدد أمنها ومصالحها. واللافت في هذا السياق، هو أن البند الخاص ببرنامج الصواريخ مقبل على تطور مهم في عام 2023، حيث سترفع عن إيران القيود التي فرضت على إجراء أنشطة خاصة بهذا البرنامج. ورغم أن إيران لم تلتزم في الأساس بهذا القيد منذ الوصول إلى الاتفاق النووي، مستغلة الصياغة الفضفاضة التي يتسم بها هذا البند؛ فإنها تبدو معنية برفع هذا القيد، كبداية لقيود عديدة سوف تُرفع في الأعوام القادمة. وهنا، فإن إيران ترى أن مشاركة قوى أخرى في المفاوضات من الممكن أيضاً أن تلقي الضوء مجدداً على المخاطر التي يفرضها رفع القيود المفروضة على إيران في هذا الشأن، أو على الأقل تعزز الاتجاه الداعي إلى تمديد تلك القيود لفترات أخرى، وهو ما لا يتوافق مع حسابات طهران.

4- الاستعداد لإجراء مفاوضات مباشرة مع واشنطن: لم تعد إيران تستبعد إجراء مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كانت ترفض ذلك بشدة خلال الجولات السابقة من المفاوضات. إذ قال وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في 25 يناير الجاري: “التقارير التي تُفيد بأن إيران والولايات المتحدة تتفاوضان مباشرة، كل منهما مع الأخرى، غير صحيحة، لكن إذا بلغنا خلال المفاوضات نقطة يحتاج فيها إبرام اتفاق جيد مع ضمانات قوية إلى مستوى معين من المباحثات مع الولايات المتحدة، فلن نتجاهل ذلك في جدول عملنا”. هذا التوجه الجديد من جانب إيران يشير إلى أنها لم تعد تولي اهتماماً كبيراً للأدوار التي تقوم بها القوى الدولية الأخرى المشاركة في المفاوضات، بما فيها روسيا التي مارست ما يشبه دور الوسيط في الفترة الماضية، وأنها باتت ترى أن الوقت حان للوصول إلى تفاهمات مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية دون أن يكون هناك تدخل من جانب أطراف أخرى، سواء كانت منخرطة بالفعل في المفاوضات أو معنية بما يجري فيها.

5- تعزيز الحضور الإقليمي الإيراني: توحي تصريحات المسئولين الإيرانيين بأن طهران تسعى إلى استغلال المفاوضات التي تجري في فيينا لتعزيز حضورها الإقليمي، باعتبار أنها -وفقاً لرؤيتها- قوة إقليمية رئيسية في المنطقة لا يمكن تجاهلها، وهو هدف من الممكن أن يتراجع تأثيره في حالة ما إذا شاركت قوى أخرى من المنطقة في المفاوضات. وربما تحاول طهران في مرحلة لاحقة الاستناد إلى قوة الدفع التي توفرها المفاوضات، لا سيما في حالة الوصول إلى صفقة، من أجل الحصول على مكاسب سياسية واستراتيجية في المنطقة، حتى رغم رفضها مناقشة أزماتها في تلك المفاوضات.

وبمعنى آخر، فإن إيران ربما تتصور أن مجرد إجراء مفاوضات مع القوى الدولية حول البرنامج النووي يعني الاعتراف بها كقوة إقليمية رئيسية في الشرق الأوسط، حتى من جانب قوى مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي سبق أن سعت إلى اتخاذ خطوات من شأنها فرض قيود على تدخلاتها الإقليمية وبرنامجها للصواريخ الباليستية دون أن تحقق نتائج كبيرة في هذا الصدد.

سمة رئيسية

يبدو أن إيران سوف تواصل تبني تلك السياسة المزدوجة خلال المرحلة القادمة، حيث إنها ستحاول تطوير علاقاتها مع بعض دول المنطقة، دون أن يؤثر ذلك على الأدوار التي تقوم بها في دول الأزمات التي تحظى بأهمية خاصة من جانبها. وربما يعكس ذلك إحدى سمات عملية صنع قرار السياسة الخارجية الإيرانية، حيث تستغل إيران دائماً هذه الازدواجية في توسيع حرية الحركة وهامش المناورة المتاح أمامها على الصعيدين الإقليمي والدولي.