سعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، منذ وصوله إلى البيت الأبيض في ٢٠ يناير الماضي، إلى تبني آلية “فض الاشتباك” في التعامل مع الأزمات والصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، بدلاً من التعويل على الوصول إلى تسويات نهائية لها أثبتت التجارب أنها تواجه عقبات لا تبدو هينة، في وقت تتحرك واشنطن من أجل تقليص الانخراط في المنطقة لصالح مواجهة النفوذين الصيني والروسي اللذين يتحديان النفوذ والقوة الأمريكية عالمياً، بالتوازي مع تعزيز الوجود الأمريكي في منطقة الإندو-باسيفيك، حيث التنافس المحتدم بين واشنطن وبكين راهناً. وبمقارنة أهداف الإدارة الأمريكية الحالية مع الإدارات الأمريكية السابقة، يمكن القول إن أولوياتها تراجعت في منطقة الشرق الأوسط، وباتت تنطلق فقط من مقاربة “لا مزيد من الدول الفاشلة”، على نحو دفعها إلى اتباع نهج أكثر حذراً من الإدارات السابقة في التعامل مع أزمات المنطقة.
مؤشرات عديدة
شهدت الأشهر الماضية العديد من المؤشرات التي تكشف عن اهتمام إدارة الرئيس بايدن بآلية فض الاشتباك وعدم التصعيد في أزمات منطقة الشرق الأوسط، يتمثل أبرزها في:
1- تعيين مبعوثين خاصين للأزمات: أعلن الرئيس بايدن، مع بدايات تشكيل إدارته، عن تعيين عدد من المبعوثين الأمريكيين الخاصين للعديد من أزمات منطقة الشرق الأوسط، سواء التي تعهد بايدن خلال حملته للانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠ بالعمل على حلها، أو تلك التي لم تكن على أجندة الإدارة من الأساس، ولكن التطورات التي طرأت على الساحتين الإقليمية والدولية خفَّضت سقف التوقعات بالنسبة للإدارة التي اتجهت إلى تقليص أهدافها من الوصول إلى تسويات إلى منع التصعيد أو فض الاشتباك. ومن هنا، فرضت هذه المتغيرات حدوداً واضحة للخيارات المتاحة أمام المبعوثين الخاصين، حيث تمثلت مهمة المبعوث الخاص السابق لأفغانستان زلماى خليل زاد في قيادة الجهود الأمريكية لإتمام عملية الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والتي واجهت انتقادات أمريكية وعالمية قوية بسبب التداعيات التي تمخضت عنها، خاصة أن تلك الجهود لم تنجح في دفع حركة “طالبان” إلى عدم الاستيلاء على السلطة، على نحو دفع خليل زاد في النهاية إلى تقديم استقالته، في 19 أكتوبر الماضي. ولا تبدو المهمة واضحة حالياً أمام المبعوث الحالي إلى أفغانستان توماس ويست في ظل تكريس سيطرة الحركة على السلطة وتصاعد حدة العمليات الإرهابية.
بينما يقود المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران روبرت مالي الجهود الأمريكية لعودة إيران مجدداً لخطة العمل الشاملة المشتركة لعام ٢٠١٥، من خلال المباحثات غير المباشرة معها في فيينا والتي استؤنفت في 29 نوفمبر الفائت وما زالت مستمرة حتى الآن دون الوصول إلى صفقة بين الأطراف المشاركة. وتقتصر مهمة المبعوث الأمريكي إلى ليبيا وسفيرها ريتشارد نورلاند على دعم إجراء الانتخابات في موعدها في 24 ديسمبر الجاري. وقد أعرب، في بداية الشهر نفسه، عن قلقه من احتمال تأجيل الانتخابات، حيث قال أن “واشنطن تشارك الليبيين والمجتمع الدولى مخاوفهم من عدم إقامة الانتخابات فى موعدها فى ظل خطر عنف المليشيات المسلحة غربى البلاد”.
2- تهدئة التصعيد بين إسرائيل والفلسطينيين: على الرغم من أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لم يكن من أولويات إدارة بايدن خلال أشهرها الأولى، إلا أن التصعيد العسكري في الأراضي الفلسطينية الذي استمر لأحد عشر يوماً خلال شهر مايو الماضي، دفعها إلى القيام بتحركات دبلوماسية مباشرة ودعم الجهود التي بذلتها مصر من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين الطرفين، وهو ما تحقق في 21 مايو الماضي.
3- رفض خيار الحرب على إيران: تواصل إسرائيل ضغوطها على الإدارة الأمريكية من أجل توجيه تهديدات جدية لإيران بإمكانية اللجوء إلى الخيار العسكري في حالة فشل مفاوضات فيينا، والعودة للاتفاق النووي لعام ٢٠١٥. إلا أن إدارة بايدن واجهت هذه الضغوط بالتأكيد على أنها لا تزال تُعوِّل على الخيار الدبلوماسي، وفرض المزيد من العقوبات على إيران، مع رفض التهديد بالخيار العسكري، خاصة وأنها لم ترد على الهجوم العسكري الأخير الذي تعرضت له قاعدة “التنف” السورية التي تتواجد بها قوات أمريكية، في ٢٠ أكتوبر الماضي، والتي وجَّهت فيها اتهامات للمليشيات الموالية لإيران بتنفيذها.
4- إخفاقات التدخل العسكري في المنطقة: تشير خبرة التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، ولاسيما في أعقاب أحداث 11 سبتمبر ٢٠٠١، إلى أنه زاد من تأزم الأوضاع الأمنية في منطقة الشرق الأوسط، وتحويل العديد من دولها إلى “دول فاشلة” فاقدة للسيطرة على أراضيها التي وفرت الملاذ الآمن للتنظيمات الإرهابية، فضلاً عن ارتفاع التكلفة المالية والبشرية التي تفوق المصالح التي تحققها واشنطن، وهو ما دفع الرئيس بايدن إلى تسريع عملية الانسحاب الأمريكي من المنطقة بداية من أفغانستان في ٣١ أغسطس الماضي، لينهي عقدين من الحرب الأمريكية فيها. كما اتفق الرئيس بايدن مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، على إنهاء المهام القتالية للجيش الأمريكي في العراق رسمياً بحلول نهاية العام الجاري، مع بقاء بعض القوات لتقديم مهام التدريب والاستشارات للقوات العراقية في إطار الحرب ضد التنظيمات الإرهابية.
5- دور ثانوي في بعض الملفات: لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية فاعلاً مُؤثِّراً في بعض الملفات الإقليمية. ففي الملف السوري، تمارس روسيا وإيران وتركيا الأدوار الرئيسية في تحديد المسارات المحتملة للأزمة. وفي الملف الليبي، فإن بعض القوى الإقليمية إلى جانب عدد من الدول الأوروبية تحولت إلى الأطراف الأساسية فيها. ولعل ذلك يرجع إلى عدم وجود مصالح هامة تدفع واشنطن للانخراط المكثف في تلك الصراعات، خاصة أن هذا الانخراط قد يكون مُكلِّفاً مقارنة بالمكاسب التي ستحققها من الاشتباك في تلك الصراعات. ويقتصر الدور الأمريكي في تلك الصراعات على عدم تصعيدها، ودفع الأطراف إلى الانخراط في توافقات سياسية مرحلية قد تساعد، في مرحلة لاحقة، على الوصول إلى تسويات.
6- تقديم مزيد من المساعدات الإنسانية: في الوقت الذي تقلل فيه الإدارة الأمريكية من الانخراط العسكري في أزمات المنطقة، فإنها زادت من المساعدات الإنسانية للمتضررين منها. فقد أعادت الإدارة، في 7 أبريل الماضي، 235 مليون دولار من المساعدات الأمريكية للفلسطينيين التي قطعتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. وفي 4 أغسطس الماضي، أعلنت الإدارة عن ١٠٠ مليون دولار كدعم اقتصادي إضافي للبنان. كما أعلنت، في 9 من الشهر نفسه، عن تقديم مساعدات إنسانية في اليمن بقيمة ١٦٥ مليون دولار. وكشف وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن، في 28 يونيو الماضي، عن تقديم ٤٣٦ مليون دولار كمساعدات إنسانية إضافية للسوريين في سوريا والدول المجاورة.
خيار مستمر
يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تواصل اتباع هذه الآلية في التعامل مع الأزمات الإقليمية المختلفة في منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة القادمة، ليس فقط بسبب تحول اهتمامها نحو مواجهة النفوذ الصيني في منطقة “الإندو-باسيفيك”، رغم أهمية ذلك بالطبع، وإنما أيضاً بسبب تفاقم الخلافات مع روسيا حول الأزمة الأوكرانية التي رفعت مستوى التوتر معها إلى درجة غير مسبوقة بدت جلية في التهديد باستخدام الخيار العسكري، فضلاً عن اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في عام 2022.