يبدو أن إيران تسعى إلى استئناف المفاوضات من أجل تحقيق أهداف عديدة يتمثل أبرزها في عدم مواجهة الخيار الحرج الخاص بالوصول إلى مرحلة إنتاج القنبلة النووية، وتشكيل حكومة يمينية متشددة في إسرائيل، فضلاً عن عدم دفع التوتر مع الدول الغربية إلى حافة الهاوية، وتجنب دفع تلك الدول إلى اتخاذ قرارات بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية.
رغم تراجع الاهتمام الأمريكي والغربي بالمفاوضات النووية التي توقفت منذ أغسطس الماضي، على نحو بدا جلياً في تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي قال فيها إن “الاتفاق النووي مات”، في 21 ديسمبر الفائت؛ فإن إيران ما زالت حريصة على تأكيد اهتمامها بمواصلة المفاوضات والوصول إلى اتفاق نووي جديد.
فقد أكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، في 2 يناير الجاري، أن “إيران مستعدة لاستئناف المفاوضات، إلا أن خيار الوصول إلى اتفاق نهائي بيد الولايات المتحدة الأمريكية”. في حين قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 28 ديسمبر الفائت، إن “نافذة المفاوضات النووية ما زالت مفتوحة، لكنها لن تبقى كذلك إلى الأبد”. وكان لافتاً أن عبد اللهيان وجه هذا التحذير خلال زيارته إلى سلطنة عُمان، على نحو يوحي بأن الزيارة كانت لها علاقة بهذه التصريحات، أو بمعنى أدق أن الزيارة كانت تهدف إلى نقل رسائل إيرانية مباشرة إلى بعض الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن المفاوضات والاتفاق المحتمل. وتوازى ذلك مع تصريحات مساعد وزير الخارجية علي باقري كني قال فيها إن إيران مستعدة لإنهاء المفاوضات والوصول إلى تسوية.
دوافع عديدة
يُمكن تفسير حرص إيران على تأكيد استعدادها لاستئناف المفاوضات مجدداً في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- عدم مواجهة الخيار الأصعب: يمكن القول إنه رغم أن إيران وجهت تهديدات عديدة بأنها سوف تواصل تطوير برنامجها النووي، ربما حتى الوصول إلى مرحلة امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية، في حالة تعثر المفاوضات أو توقفها أو إنهاء العمل بالاتفاق النووي الحالي؛ إلا أنها ربما لا تفضل اللجوء إلى هذا الخيار على الأقل حالياً. إذ إن إيران تواجه أزمات مركبة في وقت واحد، وبالتالي فهي لا تريد في الوقت ذاته المغامرة بمواجهة أزمة أخرى قد تكون أصعب من الأزمات الحالية، خاصة أنها قد تتضمن استخدام القوة العسكرية التي لا يمكن استبعادها في هذه الحالة.
ويعني ذلك أن النظام الإيراني الآن يواجه مأزقاً حرجاً، باعتبار أنه أمعن في رفع سقف توقعات الداخل الإيراني إزاء البرنامج النووي، في ظل التهديدات التي وجهها للدول الغربية وإصراره على عدم تقديم تنازلات في المفاوضات، على نحو لا يمكن معه في الوقت الحالي تمرير أي تراجع عن تطوير البرنامج النووي، وربما إيصاله إلى المرحلة الحرجة في حالة ما إذا فشل الرهان الحالي على المفاوضات والاتفاق.
2- عدم استبعاد الانخراط في حرب مباشرة: لم تعد إيران تستبعد أن تنخرط في حرب مباشرة في المنطقة، ولا سيما في ظل تشكيل حكومة يمينية جديدة في إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، والتي تضع ضمن أولوياتها مواجهة الخطر النووي الإيراني. وقد بدا ذلك جلياً في تلويح الحكومة الإسرائيلية بتكوين جبهة دولية لمواجهة محاولة إيران امتلاك القنبلة النووية. إذ جدد وزير الخارجية الإسرائيلي الجديد إيلي كوهين، في 2 يناير الجاري، تأكيد التزام بلاده بمنع إيران من الحصول على قدرات نووية عسكرية. وقال إن إسرائيل ستعمل على “بلورة جبهة دولية موحدة لإحباط المشروع النووي العسكري الإيراني”. كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التزامه بمعارضة المفاوضات النووية خلال المرحلة القادمة.
ومن دون شك فإن إيران تدرك أن استمرار تطوير برنامجها النووي وتعثر التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية من شأنه أن يدفع إسرائيل إلى مواصلة العمليات الأمنية الاستخباراتية التي تقوم بها داخل إيران نفسها لتعطيل البرنامج النووي، وعرقلة البرنامج الصاروخي، واستهداف العلماء النوويين والعسكريين. ورغم أن هذه العمليات تراجعت في الشهور الأخيرة بفعل اندلاع الاحتجاجات الإيرانية منذ 16 سبتمبر الماضي، إلا أنها قد تتواصل مرة أخرى مع تشكيل الحكومة الجديدة، واستمرار إيران في رفع مستوى قدراتها النووية.
3- تجنب إيصال التوتر مع الغرب إلى حافة الهاية: ربما تسعى إيران عبر هذه التحركات إلى تجنب إيصال التوتر مع الدول الغربية إلى مرحلة غير مسبوقة، خاصة أن الخلافات العالقة بين الطرفين لم تعد منحصرة في المفاوضات النووية، وإنما امتدت إلى الدعم العسكري الإيراني إلى روسيا لمساعدتها على مواصلة إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، والانتهاكات التي تواصل السلطات الإيرانية ارتكابها ضد المحتجين الذين باتوا يحظون بدعم من جانب المجتمع الدولي، رغم أن هذا الدعم ما زال في حدوده الدنيا ولم يؤثر بعد على المواجهة التي تجري حالياً بين النظام والشارع الإيراني.
وبالطبع، فإن رفع منسوب التوتر مع الدول الغربية سوف يكون معناه فرض عزلة شبه دولية على إيران، حيث يتبقى لها العلاقات القوية مع روسيا والصين، وإن كانت تواجه اختبارات صعبة، على غرار التوتر المفاجئ الذي طرأ على العلاقات مع الصين، بعد مشاركة الرئيس الصيني شي شين بينج في القمم الثلاث التي عُقدت في العاصمة السعودية الرياض خلال الفترة من 9 إلى 13 ديسمبر الفائت، في حين أن علاقاتها مع كثير من دول المنطقة تواجه بدورها اختبارات صعبة بفعل استمرار التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية.
4- تلويح الدول الغربية بتصنيف “الباسدران” منظمة إرهابية: قد تكون لدى طهران رغبة في تجنب دفع الدول الغربية إلى تبني الخطوة السابقة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وهو ما سوف يرتب معطيات جديدة لا تتوافق مع مصالح وحسابات إيران في الوقت الحالي.
فقد أشارت تقارير عديدة إلى أن الحكومة البريطانية ربما تتجه إلى اتخاذ تلك الخطوة خلال المرحلة القادمة، خاصة في ظل اتساع نطاق الخلافات مع إيران، سواء حول المفاوضات النووية أو الدعم العسكري المقدم إلى روسيا، أو الانتهاكات التي تُمارَس ضد المحتجين، أو احتجاز عدد من الأشخاص على صلة ببريطانيا من جانب السلطات الإيرانية بسبب الاحتجاجات الداخلية، والذين وصل عددهم إلى 7 أشخاص. وكان لافتاً أن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك حرص على توجيه انتقادات قوية ضد إيران، حيث طالبها، في 2 يناير الجاري، بعدم استخدام ملف مزدوجي الجنسية لكسب نفوذ دبلوماسي، في إشارة إلى أن إيران تستغل هذا الملف كورقة ضغط في إدارة خلافاتها مع الدول الغربية.
ويبدو أن ألمانيا تدرس الخطوة ذاتها، بعد أن انخرطت بدورها خلال المرحلة الماضية في شن حملة قوية ضد إيران بسبب تصاعد حدة التوتر في العلاقات معها، حيث أشارت تقارير عديدة أيضاً إلى أن البرلمان الألماني بات يطالب بدوره بتصنيف الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، وأن مجموعة من النشطاء السياسيين طالبوا البرلمان بتبني هذا الخيار فعلاً.
كسب الوقت
رغم ذلك فإن إصرار إيران على ضرورة استئناف المفاوضات النووية وتأكيدها على أنه ما زال هناك أمل في الوصول إلى اتفاق نووي جديد، لا يوحي بأنها بدأت في إجراء تغيير في سياستها المتشددة إزاء المفاوضات أو الاتفاق. ومع أن الاحتجاجات الحالية التي قاربت على إنهاء شهرها الرابع تفرض ضغوطاً أقوى على النظام، دفعت اتجاهات عديدة إلى ترجيح اتجاهه إلى إبداء مرونة أكبر يمكن أن تساعد في الوصول إلى اتفاق، إلا أن استعداد النظام للتجاوب مع هذه الضغوط يبدو ضعيفاً. إذ إن النظام الإيراني ما زال مصراً على عدم تقديم تنازلات، سواء إلى المحتجين في الداخل، أو إلى الدول الغربية، خاصة أنه يتهم تلك الدول باستغلال الاحتجاجات لممارسة ضغوط عليه في الملفات الخلافية، ومحاولة تقويض دعائمه في الداخل، على نحو يوحي بأن الملفات الخلافية بين إيران والدول الغربية سوف تشهد استحقاقات بارزة خلال عام 2023.