شهدت العلاقات التركية-اليونانية توترات متزايدة في الآونة الأخيرة، لا سيما مع صفقة “الفرقاطات” التي أبرمتها اليونان مع فرنسا يوم 28 سبتمبر الماضي، وما أسفر عنها من تصريحاتٍ مناوئة من الجانب التركي تحمل اتهاماتٍ لليونان بخوض سباق تسلح يُهدد الأمن الإقليمي ويُنذر بعسكرة ملف المتوسط. فعلى خلفية تلك الاتفاقية وما تبعها من تراشقٍ بالتصريحات والاتهامات من الجانبين على مدار الأيام القليلة الماضية، بدأت اليونان منذ مطلع الشهر الجاري تدريباتٍ عسكرية في جزيرة قريبة من الساحل التركي في شمال بحر إيجه، وصفتها المُتحدثة باسم وزارة الدفاع التركية بأنها أعمال “غير قانونية واستفزازية وعدوانية”. هذا، فضلاً عن إعلان قبرص بدء أعمال التنقيب عن الغاز يوم 3 أكتوبر 2021، وهو ما اعتُبر من قبل الجانب التركي انتهاكاً لحقوق القبارصة الأتراك، وأسفر عن طرد سفينة أبحاث قبرصية حاولت دخول الجرف القاري التركي يوم 4 أكتوبر الجاري، في خطوة زادت من حدة التوترات.
ملامح التعاون
ضم الاتفاق الأخير المُوقَّع بين اليونان وفرنسا العديد من البنود التي تدعم الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، وشملت: جوانب السياسة الخارجية، والتدريب المشترك، وتبادل الخبرات الفنية والمعلوماتية الاستخباراتية، ومشاريع التصنيع الدفاعي المشترك. وأبرز ما ميز هذا الاتفاق التعاون في مجال “الدفاع المشترك” بين البلدين في حال تعرض أي بلد منهما للاعتداء، وذلك وفقاً لنص البند الثاني من الاتفاق.
نصّت الاتفاقية التي وصفها الرئيس الفرنسي “ماكرون” بأنها “شراكة استراتيجية”، وبلغت قيمتها حوالي 5 مليارات يورو، على شراء اليونان 3 فرقاطات (مع إمكانية إضافة واحدة أخرى إذا لزم الأمر) من طراز “بيلارا”، وذلك على أن يتم تسليم أول فرقاطة رقمية حديثة في 2025 والأخيرة في 2026. وتمتاز تلك الفرقاطات بعدة خصائص دفاعية وحربية، تُمكنها من إسقاط الأهداف الساحلية والأهداف الجوية على مسافات بعيدة تزيد على 100 كم، وتوفر لها الحماية ضد الصواريخ الباليستية، وضد الغواصات، فضلاً عن تزويدها بأحدث الأنظمة الإلكترونية التابعة لمركز معلومات القتال الفرنسي الرائد عالمياً SETIS.
وبموازاة هذه الاتفاقية، كشفت وزيرة الجيوش الفرنسية “فلورانس بارلي” أن اليونان قد أعلنت مؤخراً عن رغبتها في الحصول على 6 طائرات حربية من طراز “داسو رافال” كإضافة على الصفقة التي كانت قد وقّعتها مع فرنسا في 25 يناير 2021 بشأن شراء 18 طائرة من الطراز نفسه، على أن تبدأ عملية تسليم الطائرات اعتباراً من صيف 2022، وتنتهي عام 2023. وقد شملت الصفقة شراء صواريخ جوالة من نوع “سكالب”، وصواريخ مضادة للسفن من نوع “إيكزوسيت”، وصواريخ مضادة للطيران بعيدة المدى من نوع “ميتيور”.
دوافع مختلفة
رغم الموقف اليوناني الرافض لاتهامات تركيا بشأن كون تلك الصفقة العسكرية “موجهة” ضدها، وضد مصالحها في بحر إيجه وشرق المتوسط؛ إلا أن تلك الاتهامات قد جاءت في ضوء تزامن الصفقة مع العديد من مُستجدات الساحة السياسية الإقليمية والعالمية، المُرتبطة -إلى حد كبير- بتركيا، والتي لا يمكن التغافل عنها في إطار تحليلنا لدوافع الصفقة. ويمكن تناول تلك الاعتبارات والدوافع على النحو التالي:
1- توتر العلاقات الفرنسية التركية: جاءت التصريحات التركية المناوئة للاتفاق الذي أبرمته اليونان مع فرنسا استكمالاً لسلسلة الخلافات التي تشهدها العلاقات بين الأخيرة وتركيا، إثر تضارب مصالح الجانبين ومواقفهما في العديد من الملفات الصراعية في المنطقة، ولا سيما فيما يتعلق بتدخل تركيا في كلٍّ من سوريا وليبيا، ورفض المطالب الفرنسية بسحب قواتها من البلدين، واستمرارها في دعم المليشيات والفصائل المسلحة، فضلاً عن وقوفها إلى جانب أذربيجان في مواجهة أرمينيا المدعومة من فرنسا، وتزويدها بالأسلحة المتطورة التي ساهمت في قلب موازين القوى لصالح أذربيجان في إقليم “ناغورني كارباخ”.
2- وقف المد التركي في جزيرة قبرص: رغم الخلاف طويل الأمد بين كلٍّ من تركيا واليونان حول السيادة في جزيرة قبرص؛ إلا أن ذلك الخلاف قد تنامى مؤخراً مع تزايد اكتشافات حقول الغاز في المياه الجنوبية للجزيرة عام 2019، والتي سرعان ما طالبت جمهورية شمال قبرص التركية، المُعترف بها فقط من تركيا، بحقوقها فيها بدعم من أنقرة.
جدير بالذكر هنا أنه في إطار مساعي تركيا لتنفيذ أجندتها ومد نفوذها العسكري في مواجهة القوى الإقليمية بمنطقة شرق المتوسط الغنية بالغاز والثروات، أعلن الرئيس التركي “أردوغان” نهاية عام 2019 عن تحويل مطار تركيا في قبرص الشمالية والمعروف باسم “ليفكونيكو” إلى قاعدة جوية تحمل اسم “جيشيتكالي” لاستقبال الطائرات الدرونز الهجومية من نوع “بيرقدار بي تي 2” والتي سبق وأن استخدمتها تركيا في النزاع الأذربيجاني-الأرميني، وفي توجيه ضربات جوية ضد أهداف كردية في العراق، وقوات “خليفة حفتر” في ليبيا، وهو ما اعتبرته اليونان وقبرص انتهاكاً للأمن الإقليمي وتهديداً مباشراً لدول المنطقة ومصالحها.
كما جاءت التصريحات الأخيرة للرئيس التركي أثناء زيارته لقبرص الشمالية في يوليو 2021، والتي أعلن فيها عن رغبة بلاده في فتح مدينة “فاروشا” تحت إدارة تركية وإعادة التفاوض حول ملف قبرص على أساس الاعتراف بوجود شعبين وإجراء المفاوضات الجديدة بين بلدين منفصلين، لتؤكد عن مساعيه لكسب أوراق ضغط جديدة للمساومة بها أمام الاتحاد الأوروبي في العديد من الملفات العالقة بينهما، والتي على رأسها ملفا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والتنقيب عن غاز المتوسط.
3- الرد على صفقة الغواصات التركية-الألمانية: بالعودة قليلاً للوراء، نجد تشابه المخاوف التركية بسبب صفقة الفرقاطات مع تلك التي أعربت عنها اليونان على خلفية اتفاقية الغواصات التي وقّعتها وزارة الدفاع التركية مع إحدى الشركات التابعة لعملاق بناء السفن الألماني “تيسين كروب مارين سيستمز”، والتي نصت على شراء تركيا 6 غواصات دفع هوائي ألمانية. فعلى الرغم من عدم اعتراض اليونان على توقيع الاتفاقية عام 2009، إلا أن تلك الصفقة قد أثارت المخاوف اليونانية مؤخراً، خاصة بعد احتدام المواجهة بين الجانبين على ثروات وغاز المتوسط، وفشل محاولاتها للضغط على ألمانيا لإلغاء أو تأجيل الصفقة، مما دفعها للبحث عن شراكة استراتيجية جديدة تزيد من قدراتها الدفاعية في مواجهة الأسطول البحري التركي.
حيث رأت اليونان في استمرار تلك الاتفاقية تهديداً مباشراً لأمنها الإقليمي ومصالحها في المتوسط، لما تتميز به تلك الغواصات من ميزات نسبية تُسهم في تطوير قدرات الأسطول البحري التركي في التنقيب عن الغاز والتجسس وجمع المعلومات الاستخباراتية في المياه المُتنازع عليها. فضلاً عن دورها في تعزيز قدرات الأسطول الدفاعية والهجومية، من خلال تزويدها بتوربينات ثقيلة وصواريخ موجهة ضد الأهداف البحرية. ويُذكر أن البحرية التركية قد تسلمت بالفعل خلال عام 2021 الجاري أول غواصة ألمانية، ومن المُقرر أن يتم تسليم الغواصات الخمس المُتبقية خلال السنوات الثلاث القادمة.
4- الحدّ من تدفقات الهجرة واللجوء: نظراً لكون اليونان هي بوابة العبور الرئيسية لطالبي الهجرة واللجوء إلى أوروبا عبر تركيا، تتصاعد المخاوف اليونانية من التعرض مرة أخرى لأزمة عام 2015 عندما انتقل نحو مليون شخص إلى أوروبا عبر تركيا بسبب الصراعات التي اجتاحت عدداً من دول المنطقة وعلى رأسهم سوريا والعراق. وتأتي تلك المخاوف على خلفية ما تشهده الساحة الأفغانية من تطورات، وإمكانية تجدد موجات الهجرة واللجوء تجاه أوروبا عن طريق تركيا، وتكرار ما حدث عام 2020 عندما فتحت تركيا أبواب حدودها مع اليونان. حيث صرح وزير حماية المواطنين اليونانيين في بيان حكومي قائلاً: “الأزمة الأفغانية تخلق حقائق جديدة في المجال الجيوسياسي، وفي الوقت نفسه تخلق إمكانيات لتدفقات المهاجرين. ولا يمكننا كبلد أن نظل سلبيين تجاه العواقب المحتملة”.
كما صرح الرئيس التركي “أردوغان” في وقت سابق بأن “تركيا تتحمل عبء حوالي 4.5 ملايين لاجئ، منهم 300 ألف مهاجر أفغاني، وأن بلاده ليست خادمة لأحد، مُطالباً الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم لتركيا”. وهذه المتغيرات دفعت اليونان إلى تشييد جدار طوله 40 كم على طول حدودها مع تركيا، كمنشأة في جزيرة “ساموس” محاطة بالأسلاك الشائكة.
5- تنامي التنسيق التركي-الروسي: دفع الحديث مؤخراً حول نوايا تركيا شراء فوج ثانٍ من منظومة الدفاع الجوي الروسي إس – 400، وتطوير قواتها البرية والبحرية، لبحث اليونان عن شريك استراتيجي يضمن لها تأمين مصالحها في منطقة المتوسط في مواجهة الأطماع التركية المدعومة بأنظمة عسكرية متنوعة ومتطورة. فعلى الرغم من توتر العلاقات بين تركيا وروسيا في الساحة السورية، إلا أن الجانبين يبحثان خطوات استراتيجية جديدة نحو تدشين المزيد من المشاريع الاقتصادية والدفاعية المشتركة في مجالات التسليح، والطائرات المقاتلة والغواصات، ومحطات الطاقة النووية في تركيا.
وختاماً، نظراً لتنامي وتيرة الإجراءات الأحادية والاستفزازية التي يتخذها الطرفان التركي واليوناني في بحر إيجه وشرق المتوسط، ومساعي كل منهما نحو استقطاب المزيد من الشركاء الاستراتيجيين والداعمين له في المنطقة؛ فمن غير المُتوقع أن تشهد الأزمة حلاً على المدى القريب، خاصة في ظل تزايد أعداد الفاعلين الدوليين وتداخل مصالحهم وأهدافهم الجيوسياسية والاقتصادية. فما لا يمكن التجاوز عنه هو حجم الاستفادة التي تعود على بعض الجهات الخارجية من صفقات سباق التسلح التي يسعى لها الطرفان في مواجهة بعضهما، والتي تُنذر -في الوقت ذاته- بعسكرة الأزمة وتصاعد حدة الخلافات لما يتخطى آمال الجهود والمساعي الدبلوماسية.