العصا والجزرة:
لماذا توجّه إيران رسائل نووية متناقضة؟

العصا والجزرة:

لماذا توجّه إيران رسائل نووية متناقضة؟



يمكن تفسير حرص إيران على التلويح بـ”العصا” في مواجهة الدول الغربية، وفي الوقت نفسه تقديم “الجزرة” إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في سعي إيران إلى استثمار دور الوساطة الذي تقوم به سلطنة عُمان بين طهران وواشنطن، وإصرارها على الاحتفاظ بكل الخيارات المتاحة أمامها، وعدم استبعادها تدخل إسرائيل لعرقلة الصفقة المحتملة، وتجنب التعرض لقرار إدانة جديدة من جانب مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

موقع “صنعت نيوز” (أخبار الصناعة): هل زيارة سلطان عُمان مرتبطة بالاتفاق النووي؟

رغم أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكدت أن إيران بدأت في اتخاذ خطوات إيجابية عديدة على صعيد التعاون بين الطرفين حول مراقبة الأنشطة النووية التي تقوم بها الأخيرة، إلا أن ذلك لم يساهم في تقليص حدة التوتر والخلاف بين الطرفين حول العديد من البنود، وهو أكد عليه التقريران اللذان أصدرتهما الوكالة، في 31 مايو الفائت، على نحو دفع المدير العام للوكالة رفاييل غروسي إلى تأكيد أن “الطرفين لم يصلا إلى المحطة النهائية بعد”، في إشارة إلى أن مساحة التباين ما زالت واسعة ولا يمكن احتواؤها بسهولة.

وفي كل الأحوال، يمكن القول إن إيران تسعى في الوقت الحالي إلى تبني ما يمكن تسميته بـ”العصا والجزرة” في إدارة علاقاتها مع الوكالة والدول الغربية. إذ إنها اتخذت خطوات إيجابية من قبيل تركيب كاميرات المراقبة التابعة للوكالة في بعض المنشآت، على غرار منشأتين معلنتين لتخصيب اليورانيوم، إلى جانب منشأة أخرى في أصفهان. فضلاً عن إغلاق ملف أحد المواقع الثلاثة التي أثيرت حولها شكوك بشأن ممارسة إيران أنشطة نووية حساسة فيها، وهو موقع ماريوان، بالتوازي مع تسوية الخلاف حول نسبة تخصيب اليورانيوم (83.4%) التي عثر عليها مفتشو الوكالة في منشأة فوردو.

لكن في مقابل ذلك، ما زالت إيران حريصة على التلويح بالعصا، عبر الاستمرار في مراكمة كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسبة مختلفة. إذ كشف أحد تقريري الوكالة أن كمية اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67% التي تمتلكها إيران حالياً تبلغ 23 ضعف ما هو منصوص عليه في الاتفاق النووي، أي إنها وصلت إلى 4774.5 كيلوجرام، في حين أن الاتفاق لا يسمح بتجاوز كمية اليورانيوم حاجز الـ202.8 كيلوجرام. وبلغت كمية اليورانيوم المخصب نسبة 60% نحو 141.1 كيلوجرام.

أهداف عديدة

يمكن القول إن إيران تسعى خلال الفترة الحالية إلى تحقيق أهداف عديدة عبر تلك السياسة، يتمثل أبرزها في:

1- تجنب صدور قرار إدانة من مجلس المحافظين: دائماً ما تسعى إيران قبل انعقاد اجتماعات مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية (يعقد المجلس خمسة اجتماعات سنوية في مارس، ويونيو، واجتماعين في سبتمبر، ونوفمبر)، إلى اتخاذ خطوات إيجابية لتجنب صدور قرار إدانة للأنشطة النووية التي تقوم بها، وهو ما يدعم من فرص إحالة ملفها مرة أخرى من الوكالة إلى مجلس الأمن، على نحو قد يدفع دولاً عديدة إلى تكثيف الدعوة وربما التحرك من أجل تفعيل ما يسمى بآلية “الزناد” (Snapback)، التي تعني العودة التلقائية للعقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل الوصول للاتفاق النووي وتم تعليقها بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2231.

2- تعزيز فرص الوصول إلى تفاهمات مع واشنطن: تتوازى هذه الخطوات الإيرانية مع تزايد التقارير التي تُشير إلى انعقاد مفاوضات بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان، شبيهة بالمفاوضات التي عقدت بين الطرفين ومهدت المجال أمام الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015. ورغم أن الولايات المتحدة الأمريكية نفت هذه التقارير، إلا أن تصريحات المسؤولين الإيرانيين لم تستبعد هذا المسار، بل إن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أكد، في 30 مايو الفائت، أن إيران تتبادل رسائل مع الولايات المتحدة الأمريكية حول الملف النووي عن طريق وسيط.

3- استثمار زيارة سلطان عُمان إلى طهران: كان لافتاً أن هذه التصريحات توازت مع الزيارة التي قام بها سلطان عُمان هيثم بن طارق إلى إيران ولقائه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، في 29 مايو الفائت، حيث أشارت وسائل الإعلام الإيرانية باستمرار إلى أن السلطنة تمارس مجدداً دور الوسيط و”حامل الرسائل” بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. بل إن هذه التقارير ربطت بين لقاءات السلطان في طهران، وبين الزيارة التي قام بها بريت ماكغورك كبير مستشاري الرئيس بايدن لشؤون الشرق الأوسط إلى سلطنة عُمان، في 8 مايو الفائت، حيث اعتبرت أن ذلك يمثل مؤشراً على تقدم في المباحثات التي ترعاها السلطنة خلال المرحلة الحالية.

4- التحسب لإمكانية تعطل الصفقة: تبدو إيران حريصة على الاحتفاظ بخيار ثانٍ يمكن أن تستند إليه في حال فشل الخيار الأول، بما يعني أنها تتبنى ما يسمى بسياسة “Track Two”، إذ إنها لم تستبعد بعد احتمال تعطل المباحثات غير المباشرة وفشل الوساطة التي تقوم بها سلطنة عُمان، ومن ثم فإنها عملت على الاحتفاظ بخيار “التصعيد النووي” عبر مواصلة مراكمة كميات كبيرة من اليورانيوم المخصب بنسب مختلفة، بحيث إن أي فشل محتمل في خيار التفاوض مجدداً لن يفرض تداعيات سلبية عديدة على موقعها في مواجهة الدول الغربية، خاصة أنها تستطيع في مرحلة لاحقة التراجع من جديد عن الإجراءات الإيجابية التي اتخذتها إزاء الوكالة، على غرار تركيب كاميرات المراقبة، حيث إنها سبق أن قامت بنزع تلك الكاميرات رداً على صدور قرار إدانة ضد أنشطتها النووية من جانب مجلس محافظي الوكالة، في 8 يونيو 2022، والعمليات الاستخباراتية التي قامت بها إسرائيل –في الغالب– واستهدفت بعض المنشآت النووية، على غرار مفاعل ناتانز الذي تعرض للاستهداف مرتين، ومنشأة “تسا” لتصنيع أجهزة الطرد المركزي في كرج.

5-  عدم استبعاد تدخل إسرائيل: ترى إيران أن إسرائيل يمكن أن تتحرك من أجل عرقلة أي صفقة محتملة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، تنهي أزمة الملف النووي حالياً، خاصة أن تل أبيب تعارض بشدة تجدد المفاوضات بين الطرفين، وتسعى في الوقت الحالي إلى تكثيف المباحثات مع المسؤولين الأمريكيين، من أجل إقناعهم باتخاذ إجراءات أكثر حزماً تجاه إيران، سواء بسبب الأنشطة النووية المستمرة التي تقوم بها، أو بسبب تطوير البرنامج الصاروخي، أو مواصلة التمدد على الصعيد الإقليمي، بشكل بات يهدد المصالح الأمريكية نفسها، ولا سيما في كل من سوريا والعراق.

ورغم أن طهران ترى أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في حاجة ماسة إلى الوصول إلى صفقة نووية معها، تساعد الإدارة في تعزيز موقعها الداخلي قبل الانتخابات الرئاسية، فإنها لا تستبعد أن تنجح إسرائيل عبر نفوذها داخل الولايات المتحدة الأمريكية في تشكيل لوبي مناوئ للصفقة ومعارض للمضيّ قدماً فيها، ومن ثم فإنها ارتأت ضرورة الاحتفاظ بكل الخيارات في ظل الغموض الذي تتسم به المسارات المحتملة للجهود الحالية التي تُبذل من أجل الوصول إلى صفقة جديدة.

سياسة مزدوجة

في ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران سوف تواصل تبني سياسة مزدوجة في التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية، خاصة أنها لم تتأكد بعد من أن الإجراءات الإيجابية التي اتخذتها فيما يتعلق بالتعاون مع الوكالة سوف تدفع الدول الغربية إلى إبداء مرونة أكبر إزاء بعض المطالب التي تتبناها وتشترط الحصول عليها قبل إبرام الصفقة المحتملة، ولا سيما فيما يتعلق بالموقف من الحرس الثوري، والمستوى الذي سوف يصل إليه رفع العقوبات الأمريكية.