براجماتية أردوغان:
لماذا تواصل تركيا عمليات ترحيل اللاجئين السوريين؟

براجماتية أردوغان:

لماذا تواصل تركيا عمليات ترحيل اللاجئين السوريين؟



تواصل السلطات التركية ترحيل اللاجئين، خاصة السوريين والعراقيين، غير آبهة بالأوضاع التي تشهدها بلادهم. وبالرغم من التحذيرات الأممية والأوروبية من خطورة تلك الخطوة التي اعتبروها مخالفة للقوانين الدولية المتعلقة بطالبي اللجوء، فقد بدأت السلطات التركية قبل عمليات الترحيل في اتباع سياسات لتضييق الخناق على هؤلاء اللاجئين، وتقليل المزايا الممنوحة لهم داخل البلاد، ودفعهم وفق سياسة “الترحيل القسرية” للهجرة للخارج أو العودة الطوعية إلى بلادهم، وهو ما يعني ترحيل أنقرة للاجئين دون وجود أية اتفاقية تنص على ذلك، مما يحمل جملة من الأسباب، منها: تنفيذ وعود الانتخابات الرئاسية التركية، واحتواء الغضب الشعبي داخل تركيا من وجودهم، وإحباط محاولة المعارضة للعودة إلى المشهد السياسي، واستغلال عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وحلحلة الأزمة الاقتصادية في تركيا، والتخوف التركي من استغلال الأكراد للاجئين وتهديدها بالداخل.

أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان، في 1 يوليو 2023، أن السلطات التركية رحلت في الفترة من (26 يونيو حتى 1 يوليو 2023) 390 لاجئاً سورياً إلى بلادهم عبر معبر باب السلامة الحدودي بين تركيا وسوريا إلى مدينة إعزاز بريف حلب الشمالي، رغم أن هؤلاء اللاجئين يحملون بطاقة الحماية المؤقتة التركية “كيملك”، وأفاد المرصد بأن السلطات التركية قد أجبرت اللاجئين السوريين على توقيع أوراق رسمية تفيد برغبتهم “الطوعية” في العودة إلى بلادهم، وفي الوقت ذاته أفاد بأن تركيا تقول إن ترحيل بعض اللاجئين لبلادهم يأتي لعدم امتلاكهم أوراق الإقامة الرسمية من جهة، أو ارتكابهم أعمال شغب داخل البلاد من جهة أخرى.

إضافة لذلك، فقد رحلت السلطات التركية صباح 2 يوليو الجاري، 12 سورياً و4 عراقيين، بينهم نساء وأطفال، عبر بوابة رأس العين نحو الأراضي السورية، وفقاً لما أعلنته وكالة الأنباء السورية “نورث برس”.

وتجدر الإشارة إلى أن عدد اللاجئين السوريين في تركيا يبلغ 3.7 ملايين لاجئ سوري، وفقاً لإحصائيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، ويمتلك غالبيتهم ما يسمى بـ”بطاقة الحماية المؤقتة التركية” المعروفة اختصاراً بـ”كيملك” باللغة التركية، وقد منحتها لهم تركيا بطلب من المفوضية العليا للاجئين والاتحاد الأوروبي. بجانب ذلك، فإن إدارة الهجرة التركية تمنح بعض اللاجئين أحياناً “بطاقة السياحة”، وهذه البطاقة ينبغي أن يتم تجديدها كل ثلاثة أو خمسة أشهر، وفي حال عدم الالتزام بذلك يتم ترحيل اللاجئ الذي تثبت إقامته بالبلاد بدون الحصول على إحدى البطاقتين.

مؤشرات الترحيل

وفي ضوء ما تقدم، يمكن القول إن استمرار تركيا في ترحيل اللاجئين خاصة السوريين إلى بلادهم، يستند إلى بعض المؤشرات التي تنص على أن قرارات الترحيل هذه لن تتوقف رغم التحذيرات الأوروبية والأممية لأنقرة من مخاطر ترحيلهم لبلاد لا تزال تشهد حروباً وأزمات متعددة، ومن بين هذه المؤشرات ما يلي:

1- تعهد “أردوغان” بإعادة اللاجئين السوريين: إن عمليات الترحيل التي شهدها شهر يوليو الجاري، تعد الأولى بعد فوز الرئيس “أردوغان” بالانتخابات الرئاسية التركية أواخر مايو الماضي، وتأتي وفقاً لتعهد سابق لـ”أردوغان” في مقابلة تلفزيونية له مع قناة (تي آر تي) التركية في 23 مايو الماضي، أي بعد خمسة أيام من إعلان فوزه بالانتخابات في جولة الإعادة التي خاضها الرئيس التركي مع زعيم المعارضة “كمال كليجدار أوغلو”، ووقتها فإن “أردوغان” قد أكد أن بلاده تهيئ الأرضية المناسبة لتدشين مشاريع سكنية في سوريا من أجل عودة قرابة مليون لاجئ سوري إضافي إلى بلادهم، وتحديداً إلى الشمال السوري بداية من يونيو 2023، زاعماً أن العودة ستكون بشكل “طوعي وآمن”، وكشف أن تركيا خلال السنوات الماضية أعادت حوالي 560 ألف لاجئ إلى مناطق بشمالي سوريا بعد تطهيرها من الإرهاب.

2- تأكيد تركي على إعادة اللاجئين خلال 2023: تتطابق تصريحات الرئيس التركي مع أخرى أطلقتها وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية “داريا يانيك” في مؤتمر صحفي في أغسطس الماضي، ووقتها شددت الوزيرة التركية على أن بلادها حريصة على إعادة اللاجئين كافة إلى بلاده خلال عام 2023، قائلة: “سوف نكثف جهودنا ونعمل بكل طاقتنا حتى لا يتبقى سوريون على أرضنا بعد العام 2023″، واعتبر بعض المراقبين السياسيين أن هذا الموقف يمثل وجهة نظر الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية الحاكم من مسألة وجود اللاجئين السوريين في البلاد.

3- تعاون تركي مع قطر لإعادة اللاجئين: إن ما يعد مؤشراً على إصرار أنقرة على إعادة اللاجئين، توقيع وزير الداخلية التركي السابق “سليمان صويلو” في 24 مايو الماضي، مع مدير عام صندوق قطر للتنمية “خليفة الكواري” على مشروع يقضي بالتعاون المشترك لتدشين وحدات سكنية جديدة في شمال سوريا، تمهيداً لاستقبال اللاجئين، وهذه المدينة السكنية التي تطلق عليها تركيا “منطقة آمنة” من المفترض أن تخدم حوالي 70 ألف شخص، وسيكون بها مختلف الخدمات التجارية والصحية والتعليمية وأيضاً الدينية.

دوافع مختلفة

في ضوء المؤشرات سالفة الذكر، يمكن القول إن ترحيل السلطات التركية للاجئين الباحثين عن “ملاذ آمن” إلى بلادهم بطريقة قسرية (وفقاً لشهادات أعداد كبيرة من السوريين) ورفعها شعار “العودة الطوعية”، يحمل جملة من الدوافع، يمكن توضيحها على النحو التالي:

1- تنفيذ وعود الانتخابات الرئاسية التركية: إن سرعة اتجاه السلطات التركية إلى ترحيل اللاجئين بعد أقل من شهرين على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي فاز فيها الرئيس “أردوغان” وحزبه بالأغلبية، يرجع إلى تنفيذ الوعود الانتخابية التي سبق وقطعها الرئيس التركي إبان حملته الانتخابات، وهذا يعكس رغبة الحزب الحاكم في توصيل رسالة إلى المواطنين مفادها أن الدولة عازمة على حل أزمة وجود اللاجئين في البلاد التي تؤرقهم، وفي الوقت ذاته تفنيد الدعوات التي سبق وأطلقتها الأحزاب التركية المعارضة وخاصة “حزب الشعب الجمهوري” إبان فترة الانتخابات، حينما قالت إنه في حال فاز مرشحها “كليجدار أوغلو” فإنه سيرسل اللاجئين السوريين إلى بلادهم خلال عامين، وإن استمرار حزب “العدالة والتنمية” الحاكم و”أردوغان” في الحكم سيسمح باستمرار وجود اللاجئين في البلاد بل وسيأتي المزيد منهم إلى تركيا، ووقتها رد الرئيس التركي على هذه الدعوات بالتأكيد على أن عمليات ترحيل اللاجئين بدأت وستستمر تركيا في تقديم الدعم اللازم لهم لضمان “العودة الطوعية” لبلادهم.

2- احتواء الغضب الشعبي داخل تركيا: يريد الرئيس التركي من خلال ترحيل اللاجئين احتواء الغضب الشعبي الذي تفاقم في البلاد خلال الفترة الماضية، إذ يرفض عدد كبير من الأتراك وجود اللاجئين السوريين في بلادهم زاعمين أنهم يقاسمونهم في “لقمة العيش”. وفي مايو الماضي كشفت صحيفة “الجارديان” البريطانية في استطلاع رأي، أن 80% على الأقل من الأتراك يريدون ترحيل السوريين من البلاد، وعليه فإن “أردوغان” في خلال عهدته الثالثة والأخيرة، لا يستطيع إغفال الموقف الشعبي الرافض لاستمرار وجود اللاجئين داخل البلاد، وذلك حتى لا تستغل أحزاب المعارضة التركية هذا الملف لأسباب سياسية وتقوم بحشد الشعب ضد النظام الحاكم.

3- إحباط محاولة المعارضة للعودة إلى المشهد السياسي: يعي الرئيس التركي أن فوز مرشح المعارضة الذي كان يطالب بإعادة اللاجئين بـ 47.5% من أصوات الأتراك في الانتخابات الرئاسية، قد يشكل خطراً على البلاد، خاصة أن المعارضة تعمل في الوقت الراهن على محاولة العودة للمشهد السياسي ولكن من بوابة الانتخابات المحلية (البلدية) المزمع انعقادها في تركيا منتصف 2024، وذلك لإعادة الاعتبار لمكوناتها السياسية والاقتصادية في مواجهة سياسات الحزب الحاكم، وهو ما أكده المعارض الاقتصادي “علي باباجان” بعد إعلان نتيجة الانتخابات مباشرة، قائلاً إنه “يعدّ العدة لمعركة الانتخابات البلدية في العام المقبل”، وعليه فإن “أردوغان” ينبغي عليه حل أزمة اللاجئين قبل هذه الانتخابات كي لا تستخدمها المعارضة كسلاح ضده ولضمان كسب تأييد الناخبين له.

4- حلحلة الأوضاع الاقتصادية في تركيا: هناك رؤية مزعومة في تركيا مفادها أن اللاجئين خاصة السوريين هم السبب في تفاقم الأزمة الاقتصادية الحرجة التي تشهدها البلاد، وخسارة الليرة التركية 30% من قيمتها في عام 2022، فضلاً عن ارتفاع نسبة التضخم إلى 44%، وارتفاع أسعار السلع الغذائية إلى 54% (إحصائيات عام 2022)، رغم أن عدداً من الخبراء الاقتصاديين كان لديهم رأي آخر، مفاده أن اللاجئين وخاصة السوريين ساهموا بشكل إيجابي في تعزيز نمو الاقتصاد التركي من خلال عمليات الإنفاق الاستهلاكي من جهة، وانخراطهم في دورة العمل بحصولهم على مقابل قد لا يقبل به المواطن التركي من جهة أخرى، وهو السبب ذاته في وجود “مشاعر معادية” من قبل الأتراك تجاه اللاجئين، وفي ضوء ذلك فإن “أردوغان” خلال تصريحاته للحصول على تأييد الناخبين، قد وعد بإصلاح الوضع الاقتصادي المتردي للبلاد، وخلق 6 ملايين وظيفة خاصة للشباب، وعليه فإن ترحيل اللاجئين سيكون سبباً في استحواذ الأتراك على هذه الوظائف.

5- التخوف التركي من استغلال الأكراد للاجئين وتهديدها بالداخل: إن من أبرز الدوافع وراء ترحيل تركيا للاجئين هو تخوفها من أن يتم استغلالهم من قبل الأحزاب الكردية خاصة الموجودة بسوريا والعراق، وتحديداً حزب العمال الكردستاني (تصنفه تركيا منظمة إرهابية)، وتقوم بتدشين “دولة إرهابية” على الحدود الجنوبية لتركيا التي يقطن بها الغالبية من الأكراد السوريين، ولعل الحادثة التي وقعت في نوفمبر الماضي، هي ما تثير مخاوف تركيا من اللاجئين، حينما قامت شابة تحمل الجنسية السورية تدعى “إلهام البشير” بوضع قنبلة في شارع الاستقلال بوسط مدينة إسطنبول، وهو الهجوم الذي أدى إلى ستة قتلى و81 جريحاً، ووقتها اتهمت السلطات التركية “حزب العمال الكردستاني” بالوقوف وراء هذه العملية، وأفادت التحقيقات بأن الفتاة السورية التي دخلت لتركيا عن طريق الهجرة غير الشرعية اعترفت بتلقيها أوامر من الحزب الكردي لتنفيذ هذه العملية.

6- استغلال عودة سوريا إلى محيطها العربي: قد يكون من ضمن الأسباب التي تشجع الرئيس التركي أردوغان على ترحيل اللاجئين، قرار وزراء الخارجية العرب في مايو الماضي بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، بل ومشاركة رئيسها “بشار الأسد” في القمة العربية الـ 32 التي عقدت بالعاصمة السعودية الرياض، إذ يرى أردوغان أن الوقت الحالي بات مناسباً لإعادة أكبر عدد ممكن من اللاجئين إلى الأراضي السورية، لرؤيتهم أن دول المنطقة العربية ستقدم الدعم للنظام السوري لحل هذا الملف، خاصة أنه سبق ودعته لتوفير وتأهيل البلاد لعودة السوريين.

سياسات التضييق

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن أعداد اللاجئين السوريين الذين ترحلهم تركيا سيتزايد خلال الفترة المقبلة، تحت الشعار الذي ترفعه تركيا وهو “العودة الطوعية”، لإبراز وجود الرغبة لدى السوريين للعودة، خاصة أن أردوغان يعي جيداً أن ترحيل اللاجئين بطريقة قسرية لا يعد من الأمور القانونية، خاصة أن عشرات الآلاف من اللاجئين حاصلون على بطاقة الحماية المؤقتة “كيملك”.

ومع ذلك، فإن “سياسة الترحيل” التي تتبعها تركيا كشفت عن براجماتية الرئيس التركي في التعامل مع هذا الملف، وأن ما يقوله عكس ما يحدث، فوفقاً لشهادات سوريين عدة أجروا لقاءات صحفية خلال الفترة الماضية، فإن تركيا أجبرتهم على الخروج من البلاد، وأفادوا بأن السلطات التركية خلال الفترة الأخيرة بدأت تستغل أية “مخالفات” حتى لو كانت صغيرة يقوم بها اللاجئون السوريون داخل البلاد كمبرر لترحيلهم (كالدخول في شجار أو معارضة أي إجراء تقوم به تركيا من خلال نشر صور أو فيديوهات على منصات التواصل الاجتماعي أو التنقل بين الولايات التركية دون الحصول على إذن)، وإجبارهم على التوقيع على ورقة “العودة الطوعية” بعد احتجازهم في المقار العسكرية.

وما يدل على تزايد عمليات الترحيل أو دفع اللاجئين أنفسهم للهجرة؛ سياسات التضييق التي بدأت السلطات التركية في اتّباعها تجاه اللاجئين، ويأتي من بينها تجميد بطاقة “كيملك” التي كان يتمتع بها عشرات الآلاف من السوريين في أواخر مارس الماضي، وهو ما يعني أن اللاجئ الذي لا يحمل هذه البطاقة قد يتم ترحيله في أي وقت في حال مصادفة دورية تركية، هذا بجانب فصل بعض المعلمين السوريين، وإلغاء إعفاء الطلبة السوريين من أقساط الجامعة، وهو الأمر الذي لمسه بعض السوريين، مما دفعهم لمحاولة الهجرة بشكل سري.