رغم أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ما زالت حريصة على تقليص مساحة الانخراط في منطقة الشرق الأوسط، في إطار الاستراتيجية التي تتبناها، والقائمة على خفض الاشتباك مع قضايا وأزمات المنطقة؛ إلا أنها بدأت تنخرط، بصورة انتقائية، في عدد من الملفات التي ترتبط بأولوياتها في المنطقة ومساعيها لحماية مصالحها، خاصة في حال تزايدت احتمالات تعرضها لتهديدات بفعل تفاقم بعض تلك الأزمات، فضلاً عن سياساتها لمواجهة خصومها الاستراتيجيين، سواء في مناطق نفوذهم، أو تلك التي يسعون لتعزيز أدوارهم فيها على حساب الدور الأمريكي، مثل القارة الإفريقية، في ضوء تصاعد حدة الأزمات في بعض دولها وفي مقدمتها مالي.
مؤشرات عديدة
بدأت الإدارة الأمريكية في إبداء اهتمام أكبر بالتطورات التي تشهدها العديد من الأزمات التي تصاعدت حدتها في المنطقة خلال الفترة الأخيرة، على نحو يبدو جلياً في المؤشرات التالية:
1- الوساطة بين المكونين المدني والعسكري السودانيين: مع احتدام التوتر بين المكونين العسكري والمدني في السودان في أعقاب القرارات التي اتخذت في ٢٥ أكتوبر الماضي، وإعادة تجدد الاحتجاجات، بعد استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، التي أضفت مزيداً من التعقيد على الأزمة السياسية؛ زادت الولايات المتحدة الأمريكية من انخراطها بقوة، سواء بصورة منفردة أو بمشاركة العديد من القوى الإقليمية والدولية، لدعم الجهود التي تضمن الانتقال السياسي في السودان، وكذلك تأييد مساعي بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في البلاد (يونيتامس).
وقد اتّسع نطاق الانخراط الأمريكي في الأزمة السودانية، من أجل الدفع نحو إجراء حوار بين المكونين العسكري والمدني قائم على عدم تمديد الفترة الانتقالية، والالتزام بموعد الانتخابات. فقد حضرت مساعدة وزير الخارجية للشئون الإفريقية مولي في، والمبعوث الأمريكي الخاص للقرن الإفريقي ديفيد ساترفيلد- الذي تم تعيينه خلفاً للمبعوث السابق جيفري فيلتمان الذي تقدم باستقالته- اجتماع “أصدقاء السودان” الذي عُقد في المملكة العربية السعودية، في 18 يناير الجاري، بهدف حشد الدعم الدولي لبعثة الأمم المتحدة بشأن تسهيل عملية الانتقال المدني في السودان. وخلال زيارتهما للخرطوم، التي بدأت بعد ذلك بيوم واحد، سيلتقي المسئولان الأمريكيان بناشطين وشخصيات سياسية والقيادات المدنية وأعضاء المجلس السيادي للتأكيد على التزام واشنطن بتحقيق الحرية والسلام والعدالة للشعب السوداني، واتخاذ إجراءات لا رجعة فيها بشأن انتقال السلطة لقيادة مدنية.
2- ممارسة ضغوط لإجراء الانتخابات الصومالية: أبدت واشنطن تحفظها تجاه الإجراءات التي اتخذها الرئيس الصومالي محمد عبد الله “فرماجو”، في 26 ديسمبر الفائت، عندما قام بتعليق سلطات رئيس الوزراء محمد حسين “روبلي” متهماً إياه بالفساد. ورغم أنها أعلنت دعمها بعد ذلك للاتفاق الذي تم التوصل إليه في 9 يناير الجاري، ويقضي باستكمال الانتخابات التشريعية في غضون 40 يوماً خلال الفترة ما بين 15 يناير إلى 25 فبراير المقبل؛ فإنها لم تستبعد اتجاه بعض الأطراف إلى محاولة تعطيلها. ومن هنا، مارست ضغوطاً قوية من أجل تنفيذ الجدول الزمني لإجراء الانتخابات التي تأخرت عن موعدها. وأصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، في 12 يناير الجاري، بياناً جاء فيه أن “الانتخابات الصومالية تأخرت عن موعدها أكثر من عام”، وأضافت أن “الولايات المتحدة على استعداد لاتخاذ تدابير ضد المفسدين، إذا لم يتم الالتزام بالجدول الزمني الجديد المتفق عليه بين الولايات والحكومة الفيدرالية”.
3- مراقبة تطورات الأزمة الداخلية الإثيوبية: ما زالت الإدارة الأمريكية حريصة على متابعة تطورات الأزمة الداخلية في إثيوبيا، على نحو انعكس في الاتصال الهاتفي الذي تم بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، في ١٠ يناير الجاري، حيث ناقشا الصراع المستمر في إثيوبيا والفرص الممكنة لتعزيز السلام والمصالحة، وسبل تسريع الحوار نحو وقف إطلاق النار عن طريق التفاوض، والحاجة الملحّة لتحسين وصول المساعدات الإنسانية على امتداد إثيوبيا. لكن واشنطن سعت إلى ممارسة ضغوط أقوى على إثيوبيا لتحقيق ذلك، ومن ثم فرضت عقوبات عليها إلى جانب مالي وغينيا، في 2 يناير الجاري، عبر إقصائها من برنامج الأفضليات التجارية لقانون “أغوا” (قانون النمو والفرص في إفريقيا)، بسبب “الإجراءات التي اتخذتها حكوماتها والتي تنتهك مبادئ هذه الاتفاقية”.
واللافت -في هذا السياق- هو أن هذا الاهتمام توازى مع تصاعد الاستياء الأمريكي من الدور الذي تقوم به إريتريا في الصراع الإثيوبي، على نحو دفع إدارة الرئيس بايدن، في 12 نوفمبر الماضي، إلى فرض عقوبات على الجيش الإريتري، بجانب شخصيات وكيانات إريترية، بسبب ضلوعها في الحرب التي اندلعت في إقليم تيجراي الإثيوبي. وسيعمل الوفد الأمريكي، الذي يضم مولي في وديفيد ساترفيلد، خلال زيارته لإثيوبيا في الأيام القادمة، في أعقاب الاتصال الهاتفي بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإثيوبي؛ على تشجيع المسئولين الإثيوبيين على إنهاء الضربات الجوية والأعمال العدائية الأخرى، والتفاوض على وقف إطلاق النار، والإفراج عن جميع السجناء السياسيين، وإرساء الأساس لحوار وطني شامل، واغتنام الفرصة الحالية للسلام.
4- مواجهة النفوذ الروسي في مالي: لا تقتصر جهود الإدارة الأمريكية على مواجهة النفوذ الروسي في أوروبا، وهو ما يبدو جلياً في الأزمة الأوكرانية الحالية، ولكنها تمتد أيضاً إلى إفريقيا. وفي هذا السياق، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية، مع حلفائها الأوروبيين، على زيادة الضغط على مالي لوقف انتشار قوات “فاجنر” الروسية، حيث أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، في 15 ديسمبر الفائت، بياناً أعربت فيه عن أسفها لقرار السلطات في مالي طلب نشر قوات من مجموعة “فاجنر” الروسية، معتبرة أنها سوف “تزيد من زعزعة الاستقرار في البلاد”. وقال المتحدث باسم الوزارة نيد برايس: “نحن قلقون من الانتشار المحتمل لقوات من مجموعة (فاجنر) المدعومة من روسيا في مالي”، مضيفاً أن “الصفقة التي وقّعتها السلطات المالية بقيمة عشرة ملايين دولار شهرياً تحول الأموال التي يمكن استخدامها لدعم القوات المسلحة المالية والخدمات العامة في البلاد من أجل دفع تكاليف نشر قوات فاجنر”.
دوافع رئيسية
يمكن تفسير اتجاه الإدارة الأمريكية إلى التركيز على هذه الملفات تحديداً في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تزايد الاهتمام بقضايا الداخل الأمريكي: يواجه الرئيس بايدن، مع نهاية عامه الأول في البيت الأبيض، العديد من الأزمات الداخلية في ظل استمرار تداعيات جائحة “كوفيد-19” على الاقتصاد الأمريكي، وحالة الانقسام الحزبي التي تعرقل العديد من مشروعات القوانين التي تروج لها الإدارة لتحسين المستويات المعيشية للأمريكيين، وهو الأمر الذي من شأنه تهديد فرص حفاظ الديمقراطيين على أغلبيتهم الهشة بمجلسي الشيوخ والنواب في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقرر لها في نوفمبر المقبل، ولا سيما مع تزايد تراجع شعبية الرئيس بين الناخبين الأمريكيين إلى مستويات غير مسبوقة مقارنة برؤساء أمريكيين سابقين خلال أول عام لهم في البيت الأبيض، وهو ما يفرض قيوداً على الإدارة للانخراط في كل الأزمات الإقليمية بالمنطقة.
2- التركيز على الأجندة السياسية المطروحة: شهد العام الأول للرئيس بايدن في البيت الأبيض عدم الاشتباك مع كل الأزمات والتحديات الإقليمية والعالمية، إلا تلك التي تتقدم أجندة الإدارة الأمريكية والتي أعلنتها منذ اليوم الأول لها في الحكم. ولهذا، فقد أولت الإدارة أهمية للقضايا التي تتعلق بالتحول الديمقراطي، وإجراء الانتخابات، وانتهاء المراحل الانتقالية التي يقودها قادة عسكريون وتسليم السلطة إلى قيادات مدنية، في ظل تصدر قضية الديمقراطية أجندة الإدارة، وعقد الرئيس قمة افتراضية حولها في يومي 9 و10 ديسمبر الفائت، وكذلك قضايا حقوق الإنسان، وإرسال المساعدات الإنسانية للحد من تداعيات الصراعات على مواطني دولها.
3- التدخل في القضايا الأقل تعقيداً: في ظل سعى الإدارة الأمريكية لمراجعة سياساتها حول العالم، ومن ثم مواكبة التوجه نحو منطقة الإندو-باسيفيك لمواجهة الصعود الصيني المتنامي، وإعادة استثمار الموارد المالية التي كانت مخصصة للتحركات الأمريكية الخارجية في الداخل؛ فإنها باتت تركز على القضايا والأزمات غير المعقدة، والتي لا تنخرط فيها قوى إقليمية ودولية تتبنى رؤى متعددة ومتنافسة، الأمر الذي يُعرقل إيجاد تسويات سياسية لها. وبالطبع، فإن احتمالات الوصول إلى تسوية للقضايا الأقل تعقيداً تساعد الإدارة في تحقيق إنجاز دبلوماسي بما يُعزز من شعبيتها بين الناخبين الأمريكيين الغاضبين من إخفاقاتها المتعددة على المستويين الداخلي والخارجي حتى الوقت الحالي، ولا سيما مع قرب بدايات الاستحقاقات الانتخابية لعامي 2022 و2024.
4- موازنة أدوار الخصوم الدوليين: يبدو لافتاً أن الإدارة الأمريكية تتعمد اختيار الانخراط في بعض الملفات التي يمكن من خلالها تقليص حدة الضغوط والتحديات التي تفرضها الصين وروسيا على التحركات الأمريكية في مناطق نفوذهما، وبالتحديد في آسيا وأوروبا، عبر نقل التنافس إلى إفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، ولذلك فإنها تستثمر في الملفات التي تنخرط فيها القوى المنافسة لها، والتي يمكن من خلالها التأثير على نفوذ تلك القوى، بما يحقق نوعاً من التوازن في منافسة القوى العظمى التي أضحت سمة السياسة الدولية راهناً.
5- مواجهة تهديدات التنظيمات الإرهابية: ترى الإدارة الأمريكية أن تصاعد حدة الأزمات الداخلية في بعض دول المنطقة، على غرار الصومال ومالي، يمكن أن يوفر فرصة للتنظيمات الإرهابية من أجل تعزيز نشاطها ورفع مستوى عملياتها الإرهابية من جديد. وقد بدا لافتاً -في هذا السياق- أن واشنطن لا تفصل في مقاربتها لتداعيات الأزمة الصومالية، بين تفاقم الصراع بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة وبين محاولات حركة “شباب المجاهدين” تنفيذ عمليات إرهابية نوعية من جديد.
انخراط انتقائي
في ضوء ذلك، يمكن القول إن المتغيرات السابقة -في مجملها- يبدو أنها سوف تدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني سياسة “الانخراط الانتقائي”، في ضوء تغير أولويات الداخل الأمريكي، بالتوازي مع سعى الإدارة إلى تعزيز شعبيتها قبل الاستحقاقات الانتخابية القادمة، فضلاً عن مزاحمة الأدوار التي تقوم بها العديد من القوى الدولية في بعض المناطق، على غرار روسيا والصين، باعتبار أن ذلك يمثل آلية رئيسية في إدارة الصراعات معهما، والتي يحتمل أن تتفاقم حدتها خلال المرحلة القادمة.