لا تتبنى إيران رؤية واضحة إزاء النتائج المحتملة للانتخابات الرئاسية التركية، حيث إنها ترى أن هناك فرصاً وتحديات متداخلة في حالة فوز أي من المرشحين لجولة الإعادة، منها نجاحها في الوصول إلى صيغة تفاهم مع أردوغان خلال المرحلة الماضية، واحتمال اتجاه كليتشدار أوغلو إلى تحسين العلاقات مع الدول الغربية، رغم وجود اتجاهات لا تستبعد حرصه على مواصلة تطوير العلاقات مع إيران والصين، وتراجع النموذج السني الإخواني لأردوغان.

تابعت إيران بدقة تطورات الانتخابات الرئاسية (والتشريعية) التي أجريت في تركيا، في 14 مايو الجاري، والتي أسفرت عن جولة إعادة بين الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ومرشح التحالف السداسي رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو. وفي الواقع، فإن اهتمام إيران يتركز في الأساس حول سؤال واحد حول التداعيات المحتملة التي يمكن أن يفرضها فوز أردوغان أو أوغلو في انتخابات الإعادة التي سوف تُجرَى في 28 من الشهر نفسه، على السياسة الخارجية التركية.

إذ لم تكتفِ إيران بإبداء دعمها لسير العملية الانتخابية، حيث أكدت على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني أن “المشاركة العالية للشعب التركي في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإجراءها الناجح يدل على انتصار الديمقراطية في هذا البلد المسلم المجاور”، بل إن بعض مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام بدأت في طرح الفرص والتحديات التي يمكن أن ينتجها فوز أي من المرشحين بانتخابات الرئاسة التي سوف تتم جولتها الثانية بعد أسبوعين.

لكن اللافت في هذا السياق، هو أن هناك تداخلاً ملحوظاً في تناول الاتجاهات المختلفة في إيران لهذه الفرص والتحديات، على نحو يعني أنها وإن كانت ترى أن نجاح أردوغان في تجديد ولايته الرئاسية يتوافق مع مصالحها، فإنها لا ترى في الوقت نفسه أن فرصة أوغلو “المحتملة” في الإطاحة بالأول يمثل خسارة كاملة لها.

اعتبارات عديدة

يمكن تفسير اهتمام إيران المتزايد بالانتخابات الرئاسية التركية وما سوف تسفر عنه في النهاية في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:

1- الانخراط في تفاهمات مستمرة مع أردوغان: رغم أن هناك خلافات عالقة بين تركيا وإيران حول العديد من الملفات الإقليمية، إلا أن الدولتين استطاعتا منذ وصول الرئيس أردوغان إلى الرئاسة في عام 2014، الانخراط في تفاهمات مستمرة ساهمت في ضبط حدود التوتر والتصعيد الذي كان من الممكن أن يفرض تأثيرات سلبية عديدة على العلاقات الثنائية. ويمثل الصراع السوري أحد أبرز تلك الملفات، فرغم أن تركيا ساندت من البداية الفصائل المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي سعت للإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، على عكس إيران التي دعمت الأخير بقوة حتى نجح في البقاء في الحكم، فإن الدولتين حرصتا على الانخراط فيما يُسمى “مسار أستانة” الذي توصلت فيه إلى تفاهمات على ترتيبات أمنية وسياسية عديدة داخل سوريا. بل إن إيران تشارك حالياً في الجهود التي تبذل من أجل الوصول إلى تطوير العلاقات بين تركيا والنظام السوري بعد فترة القطيعة بين الطرفين على مدى أكثر من عقد.

وحتى في حالة الحرب في ناجورني قره باغ، التي وقفت فيها الدولتان على طرفي نقيض، حيث قدمت تركيا دعماً قوياً لأذربيجان في مواجهة أرمينيا التي تلقت دعماً من جانب إيران؛ لم تتصاعد حدة التوتر بين الطرفين، حيث حرصت طهران على عدم التطرق إلى الدعم التركي لأذربيجان، مع أن التصعيد أصبح عنواناً بارزاً لعلاقاتها مع أذربيحان نتيجة لاعتبارات عديدة، ولا تحاول في الوقت نفسه التركيز على نفوذ أنقرة فيما يسمى بـ”العالم التركي”، رغم أن هناك اتجاهات عديدة في طهران ما زالت تحذر من عواقب تمدد هذا النفوذ الذي يمكن أن يخصم من حضور إيران في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز.

2- تعويل أوغلو على العلاقات مع الغرب: تبدي إيران قلقاً من أن كليتشدار أوغلو ربما يمنح الأولوية لإعادة تطوير العلاقات مع الدول الغربية، عبر تقليص حدة التوتر مع كل من الدول الأوروبية بسبب قضايا عديدة منها: اللاجئون، وحقوق الإنسان، والموقف من الأكراد، والولايات المتحدة الأمريكية بسبب التعاون العسكري مع روسيا. وهنا، فإن إيران ربما ترى أن ذلك قد يدفعه، في حالة فوزه، إلى التماهي بشكل أكبر مع تلك الدول فيما يتعلق بالموقف من إيران.

وتتزايد أهمية ذلك في ضوء أن التوتر والتصعيد ما زال هو النمط الأساسي في العلاقات بين إيران وهذه الدول، لأسباب كثيرة من بينها: البرنامج النووي، والدور الإقليمي، وانتهاكات حقوق الإنسان، وغيرها. وقد كانت إيران تعول باستمرار على أن علاقاتها مع تركيا في عهد أردوغان كانت تساهم في تقليص حدة التأثيرات التي تفرضها العقوبات الأمريكية، في ظل تعاون الأخير في هذا الصدد، إلى درجة أن هذا التعاون كان محور خلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية التي اتهمت مصارف تركيا، مثل بنك خلق، بالانخراط في محاولات إيرانية للالتفاف على العقوبات.

هذا الدور الذي مارسته تركيا في عهد أردوغان قد لا يكون مضموناً في حالة فوز كليتشدار أوغلو في ظل الأولوية التي يمنحها لتوسيع نطاق علاقات تركيا مع الدول الغربية مجدداً، واحتواء الأزمات العديدة التي تسببت فيها السياسة التي تبناها أردوغان.

3- سعي أوغلو لتوسيع هامش الخيارات الخارجية: على عكس الرؤية السابقة، ترى اتجاهات أخرى في طهران أن كليتشدار أوغلو لن يعول بشكل كامل على علاقات تركيا مع الغرب، أو بمعنى أدق “لن يلقي بكل البيض في سلة الدول الغربية”، بل إنه سوف يسعى إلى توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامه على الساحة الدولية.

وهنا، فإن أوغلو ربما يتحرك على مسارين: أولهما، الاحتفاظ بعلاقات قوية مع إيران، التي يقول إنه يرتبط عرقياً بها، حيث ينحدر، حسب مزاعمه، من خراسان إيران، فضلاً عن أنه علوي المذهب، وربما يعول هنا على تقاربه في الرؤى معها إزاء النظام السوري، الذي سوف يسعى إلى تحسين العلاقات معه في حالة فوزه.

وثانيهما، التعويل على رفع مستوى العلاقات مع الصين، على نحو يبدو جلياً في دعوته إلى إحياء طريق الحرير القديم، الذي يمر عبر تركيا وإيران وتركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان، حتى يصل إلى الصين.

4- تزايد أهمية إيران بالنسبة لروسيا: ربما يؤدي فوز كليتشدار أوغلو إلى توتر العلاقات مع روسيا، وهو ما يمكن أن يدفع الأخيرة إلى تعزيز تعاونها بشكل أكبر مع إيران، خاصة في ظل العقوبات القوية التي تتعرض لها الدولتان من قبل الدول الغربية، الأولى بسبب الحرب في أوكرانيا، والثانية بسبب البرنامج النووي. وهنا، فإن ذلك قد يخدم سياسة إيران التي تسعى في المرحلة الحالية إلى تبني سياسة أكثر توازناً في علاقاتها مع روسيا والصين، خاصة في ظل الانتقادات القوية التي تعرضت لها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي بسبب تعويلها على العلاقات القوية مع الصين والتي يمكن أن توفر للأخيرة نفوذاً داخل دوائر صنع القرار في إيران نفسها.

5- تراجع النموذج السني التركي: وهو النموذج الذي تصاعد مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2002 واستمرار سيطرته عليها حتى الآن. وقد وصل الأمر، خلال مرحلة الثورات والاحتجاجات العربية، إلى الانخراط في منافسة بين النموذج الشيعي الثوري الإيراني، والنموذج السني الإخواني التركي، خاصة في دول كان لجماعة الإخوان المسلمين نفوذ فيها، على غرار تونس، حيث قال زعيم حركة “النهضة” راشد الغنوشي، بعد حصول حزبه على الترخيص في بداية مارس 2011، إن “المجتمع التونسي يعتبر تركيا مثالاً يقتدى به”.

ومع ذلك، فإن اتجاهات أخرى في طهران ترى أن “علمانية” كليتشدار أوغلو يمكن أن يكون لها تأثير على العلاقات مع إيران في حالة فوزه في الانتخابات، باعتبار أنه قد يكون لديه من الأسباب ما يمكن أن يدفعه -على الأقل- إلى عدم التغاضي عن الأدوار التي تقوم بها إيران في بعض دول المنطقة، والتي تتخذ طابعاً أيديولوجياً، مثل “تصدير الثورة” و”نصرة المستضعفين”.

أولوية التعاون

في النهاية، ربما لن تقف إيران كثيراً عند التباينات الملحوظة في السياسات التي يتبناها كل من أردوغان وكليتشدار أوغلو؛ حيث إن الأولوية بالنسبة لها سوف تكمن في الحفاظ على نمط تعاوني مع تركيا خلال مرحلة ما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية في 28 مايو الجاري، أياً كان من سيتولى منصب الرئيس في تركيا خلال المرحلة القادمة. إذ إن العقوبات التي تتعرض لها إيران حالياً، فضلاً عن محاولاتها الانخراط في جهود لتحسين علاقاتها مع العديد من دول المنطقة، مثل مصر، إلى جانب دول مجلس التعاون الخليجي؛ كل ذلك يعني أنها سوف تعمل على تعزيز علاقاتها مع أنقرة خلال المرحلة القادمة.