تحوّل لافت:
لماذا تنتقد الوكالة الدولية مواقف القوى الدولية من إيران؟

تحوّل لافت:

لماذا تنتقد الوكالة الدولية مواقف القوى الدولية من إيران؟



كان من المعتاد أن توجه الوكالة الدولية للطاقة الذرية انتقادات قوية لإيران في اجتماعات مجلس محافظي الوكالة، بسبب تراجع مستوى التعاون بين الطرفين حول العديد من الملفات الخلافية. لكن اللافت في الاجتماع الحالي للمجلس، الذي يُعقد خلال الفترة من 11 إلى 15 سبتمبر الجاري، أن هذه الانتقادات وُجِّهت إلى القوى الدولية، وتحديداً الدول الغربية إلى جانب روسيا، أكثر مما وجهت إلى إيران. ففي هذا السياق، قال المدير العام للوكالة رفاييل جروسي، إنه “رغم استمرار عدم تعاون إيران مع المفتشين الدوليين، فإن الدول الأعضاء داخل المجلس يبدو أنها تتعامل مع المسألة بنوع من الروتين، وهو تصرف مقلق؛ لأن المسائل العالقة مع إيران ما زالت عالقة”.

اعتبارات عديدة

إقدامُ الوكالة على تبني هذا التوجه الجديد في هذا التوقيت يطرح دلالة مهمة تتمثّل في أن الاتفاق النووي بين إيران والقوى الدولية ما زال بعيداً عن أن يشهد تسوية في المرحلة القادمة، تعود من خلالها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق وتعود إيران في المقابل للالتزام بتعهداتها فيه، وهو ما يعود ليس فقط إلى الخلافات العالقة بين الأطراف المختلفة، لا سيما إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وإنما أيضاً إلى تراجع أولوية هذا الملف على أجندة هذه القوى خلال المرحلة الحالية، نتيجة تقاطع حساباتها وسياساتها إزاء العديد من الملفات الأخرى التي تحظى باهتمام خاص من جانبها.

ويمكن تفسير تغير موقف الوكالة إزاء السياسة التي تتبناها القوى الدولية إزاء تطورات الملف النووي الإيراني في ضوء الاعتبارات التالية:

1– الاهتمام بإبرام الصفقات الجانبية: وهو ما يبدو جلياً في الموقف الذي تتبناه الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً. إذ إن الأولوية الآن لدى إدارة الرئيس جو بايدن تنحصر في إتمام صفقة تبادل السجناء مع إيران خلال الفترة القادمة، والتي أعلن عنها في 10 أغسطس الفائت، وتقضي بالإفراج عن خمسة سجناء أمريكيين لدى إيران مقابل إطلاق سراح إيرانيين سجناء لدى الولايات المتحدة الأمريكية وحصول إيران على 6 مليارات دولار من عوائد صادراتها النفطية المجمدة لدى كوريا الجنوبية.

وهنا، فإن الإدارة الأمريكية لا تسعى إلى اتخاذ إجراءات تصعيدية قوية في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الذي يعقد حالياً تجنباً لإثارة أي رد فعل إيراني متشدد قد يؤدي إلى عرقلة إنجاز صفقة تبادل السجناء خلال الفترة القادمة التي تستند إليها الإدارة في تعزيز موقفها في مواجهة الانتقادات التي تتعرض لها من جانب بعض كوادر الحزبين الجمهوري والديمقراطي الذين يعتبرون أن السياسة الأمريكية الحالية تجاه إيران توجه “رسائل خاطئة” إلى الأخيرة تدفعها إلى مواصلة إجراءاتها التصعيدية على أكثر من مستوى، مثل البرنامج النووي، أو برنامج الصواريخ الباليستية، أو الحضور الإقليمي، وخاصة فيما يتعلق بمنح الضوء الأخضر لحلفائها من المليشيات لاستهداف الوجود العسكري الأمريكي.

2- اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية: رغم كل الاتصالات والتفاهمات التي تجري بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول الاتفاق النووي، إلا أن ذلك لا ينفي أن احتمالات الوصول إلى تسوية لأزمة هذا الاتفاق قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تُجرَى في نوفمبر 2024 سوف تبقى ضعيفة، وهو ما يدفع الإدارة الأمريكية إلى تفضيل آلية الصفقات المحدودة على غرار صفقة تبادل السجناء، حيث يمكن الوصول إلى صفقات مماثلة بتخفيض مستوى العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران مقابل استمرار عدم استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة، ولا سيما القوات الأمريكية الموجودة في كل من سوريا والعراق.

3- انشغال الدول الأوروبية بملفات أخرى: ويبدو ذلك في حالة فرنسا التي تبدي أولوية في الوقت الحالي للملف اللبناني، وتبذل جهوداً حثيثة من أجل الوصول إلى تسوية لأزمة الفراغ الرئاسي اللبناني، عبر الجولات والمباحثات التي يجريها المبعوث الفرنسي الخاص إلى لبنان جان إيف لودريان. ورغم أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجه، في 29 أغسطس الفائت، انتقادات قوية لإيران بسبب دورها فيما أسماه “زعزعة الاستقرار في المنطقة”، فإن فرنسا تدرك أن إيران طرف في الأزمة اللبنانية، وأن مزيداً من التشدد في التعامل معها قد يُنتج رد فعل سلبياً من جانبها وربما يضع مزيداً من العقبات أمام الجهود التي تبذلها باريس لإنهاء الفراغ الرئاسي اللبناني القائم منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر 2022.

4- استغلال الوضع النووي القائم: لا يبدو أن روسيا تفضل الوصول إلى تسوية لأزمة الاتفاق النووي بين إيران والقوى الدولية في المرحلة الحالية، إذ إن تسوية من هذا النوع قد تؤثر سلباً على حساباتها وإدارة خلافاتها مع الدول الغربية بسبب الحرب المستمرة مع أوكرانيا. وفي رؤية موسكو، فإن عودة الولايات المتحدة الأمريكية للاتفاق النووي وعودة إيران للالتزام بتعهداتها فيه معناه أن إيران سوف ترفع مستوى صادراتها النفطية مجدداً على نحو سيكون له تأثير على تقليص مستوى الضغوط التي فرضتها أزمة إمدادات الطاقة التي نشبت في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا، فضلاً عن أن استمرار التفاهمات بين واشنطن وطهران خلال الفترة القادمة بناءً على المعطيات الجديدة التي فرضها إبرام صفقة تبادل السجناء قد يستتبعه إجراء نقاش بين الطرفين حول الدعم العسكري الذي تقدمه إيران إلى روسيا في الحرب مع أوكرانيا والذي يتمثل في الطائرات من دون طيار التي تستخدمها روسيا في استهداف البنية التحتية الأوكرانية بشكل أنتج تداعيات سلبية عديدة خلال المرحلة الماضية. ومن هنا، فإن تراجع أهمية الوصول إلى اتفاق نووي جديد تحول إلى قاسم مشترك بين روسيا والدول الغربية رغم اتساع نطاق الخلافات العالقة بينهما حول العديد من الملفات الأخرى.

ورقة ضغط

يبدو أن إيران سوف تواصل سياستها الحالية القائمة على استخدام مستوى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومدى التجاوب مع الأسئلة التي تطرحها بشأن العثور على جزيئات يورانيوم في بعض المنشآت كورقة ضغط في إدارة تفاعلاتها، ليس مع الوكالة فحسب وإنما مع الدول الغربية، وهو ما يعني أن حالة من الشد والجذب سوف تهيمن على مسارات العلاقة بين إيران والوكالة، على نحو سوف يرتبط، في كل الأحوال، بمدى نضوج التفاهمات التي يجري العمل عليها بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة القادمة.